الأستاذ حسين الديماسي في تظاهرة محمد علي الحامي بقابس "الأزمة الاقتصادية هيكلية والحل لن يكون قطريا" في إطار فعاليات الاحتفاء بذكرى محمد علي الحامي التي ينظمها الاتحاد الجهوي للشغل بقابس سنويا ألقى الأستاذ حسين الديماسي محاضرة قيمة حول الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة وقد كانت هذه المحاضرة على قيمتها العلمية الرفيعة في غاية اليسر والوضوح وهو ما جعل ظواهر اقتصادية معقدة ومتشابكة تبلغ إلى الحاضرين على اختلاف مستوياتهم. وقد قدم الأخ عبيد البريكي المكلف بقسم التكوين تمهيدا لهذه الندوة حيث أشار إلى ان القادم إلينا من آثار الأزمة العالمية سيكون أسوأ بكثير مما شهدناه وللتدليل على ارهاصات المستقبل وخاصة في ما يتعلق بارتفاع نسبة البطالة ساق رقما عن تراجع عدد المنخرطين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يقارب 25 %. كما أوضح الأخ البريكي أن هذه الندوة ومثيلاتها مما ينظمه الاتحاد انما تهدف لفهم ما يحدث وتشخيص الأزمة بدقة والبحث عن الحلول والاستعداد للمستجدات فالاتحاد ونقابيّوه لا خيار لهم في الظرف الحالي سوى السعي إلى الحد من التأثيرات الكارثية لهذه الأزمة والتخفيف قدر الامكان من معاناة الشغالين والمطرودين مؤكدا أنه يستهدف حلولا واقعية لواقع ملموس وفي هذا الاطار ألحّ على الاسراع بتجسيد مقترح "صندوق البطالة". وفي خاتمة تمهيده عرج الأخ عبيد البريكي على ما أسماه ب"المحاولات اليائسة لتجفيف منابع الاتحاد عبر السعي إلى تأسيس منظمات نقابية أخرى أصحابها أحرار في تأسيسها ونحن أحرار في تقييمها" وقال "حين تفشل هذه المحاولات يسعى البعض إلى التشكيك في رموز الاتحاد بالتقليل من شأن محمد علي الحامي والحطّ من دوره في التأسيس لتجربة العمل النقابي الوطنية المستقل غير أن النقابيين في الاتحاد سيواصلون استلهام تحربته الرائدة" ثم أحال الكلمة إلى الاستاذ حسين الديماسي الذي قدم مداخلة نورد أهم ما جاء فيها تعميما للفائدة: "إنّ الهدف من هذه المداخلة يكمن في الكشف عن الحقائق والاستعداد لمواجهة التبعات السلبية للازمة. والمؤسف أن الفهم السائد حاليا للازمة في مجمله خاطئ فيكون التعاطي معه بالتالي خاطئا، فوسائل الإعلام تروج لمصطلح "الأزمة المالية العالمية" من أجل التركيز على الجانب المالي المصرفي فحسب كما يؤكد الخطاب السائد أن الأزمة لن تدوم أكثر من بعض سنوات قليلة سيتجاوزها العالم بسلام بمعنى أن الأزمة الراهنة ظرفية طارئة في حين أن الأمر يتعلق ببداية أزمة اقتصادية هيكلية فهي إذن ليست مالية فقط وليست ظرفية فحسب. وإذا عدنا إلى الخطاب السائد عن الأزمة فهو ليس خاطئا بل مقصود يهدف إلى الإيهام بأن المنظومة الرأسمالية تشكو توعكا خفيفا عرضيا في حين أن المنظومة الرأسمالية مصابة بمرض عضال مستفحل. وسنطرح بعض الأسئلة تكون الإجابة عنها مدخلا لفهم علمي موضوعي لهذه الأزمة. السؤال الأول: ماذا حدث في العشرية الفارطة ضمن البلدان القاطرة للاقتصاد العالمي (امريكا الشمالية، أوروبا، اليابان)؟ لقد وقع تكديس لم يسبق له مثيل لأموال طائلة في المصارف. أما المشكلة فتمثلت في صعوبات كثيرة في تثمين الأموال المدخرة بواسطة الاستثمار عبر القروض الموجهة للإنتاج بمعنى أن تكدس الأموال في المصارف قابله ركود في الطلب على القروض الاستثمارية وعندئذ وجدت المصارف نفسها مجبرة على الاتجاه وجهتين لتثمين الاموال العقيم وهما وجهة المضاربة في الغذاء والمحروقات ووجهة تشجيع القروض الاستهلاكية وهي قروض مسمومة او مغشوشة. وقد تم اسنادها لكل الفئات بقطع النظر عن قدرتها الحقيقية على التسديد إضافة إلى ان نسبة الفائدة لم تكن قارة وأقساط التسديد غير متساوية فهي ترتفع تدريجيا مع التقدم في تسديد الأقساط ولعل ما دفع إلى الإقبال على هذا النوع من القروض ضعف القدرة الشرائية الذاتية للأجراء وطموحاتهم الاستهلاكية ورغبتهم في تحسين أوضعها المعيشية. ونظرا لأسباب عديدة ارتفعت نسبة الفائدة إلى 4 و 5 و 6 % في حين أن الاقتراض كان على قاعدة 1 إلى 2 % فأصبحت أغلب العائلات الامريكية المفترضة عاجزة عن التسديد وهو ما أحدث اختلالات عميقة في التوازنات المالية للمصارف فانتقل العالم من التخمة المالية إلى الشح المالي في فترة وجيزة. وبما أن الاستهلاك كان في معظمه قائما على الاقتراض الاسرى وبما أن نسق الاستهلاك قد تراجع تراجعا كبيرا لذلك انخفض الانتاج وبدأت موجة اغلاق المصانع والمؤسسات عموما وانتشرت البطالة انتشارا واسعا. السؤال الثاني: لماذا وقع تكدس مالي عقيم؟ يعود ذلك إلى عوامل مترابطة متداخلة فتراجع الاستثمار يعود إلى تراجع الاستهلاك الذي يعود بدوره إلى تراجع مداخيل الاجراء على المستوى العالمي تراجعا رهيبا نظرا لسياسة رأس المال في تقزيم الاجور واقرار ما يسمى بهشاشة التشغيل. غير أن أصل الداء يتمثل في اختلال فادح في موازين القوة بين العمال وممثليهم من جهة ورأس المال مدعوما بالدولة من جهة أخرى. أما هذا الاختلال فهو بدوره ناتج عن اكتساب رأس المال قدرة انتاجية وربحية لا مثيل لها في الماضي بفضل الثورة التكنولوجية المذهلة التي نقلت الانتاج من النمط اليدوي إلى "الميكنة" ومنها إلى "الروبوتيك" ولكن هذه الظاهرة لم يصحبها تغيير في علاقات الانتاج في اتجاه التخفيض في زمن العمل أو تحسين ظروف العمال أو الترفيع في أجورهم بل إن الغريب هو مسار الارتداد نحو علاقات الانتاج للقرن 19 ثم ان انتشار البطالة واستفحالها أدى إلى اضعاف شديد لفاعلية النقابات العمالية ودفع بها إلى تغيير استراتيجيتها نحو منهج المهادنة بدعوى المحافظة على الممكن من مواطن العمل المتوفرة. كما أن بروز خطاب العولمة ونمطها أدى إلى اختراق الحدود من أجل تصريف فائض الانتاج نحو الخارج فنشأ باسم المنافسة نزوع نحو تبرير تجميد الاجور والحد من المكاسب الاجتماعية. وعند الانهيار المدوي للمعسكر الشيوعي تخلص النظام الرأسمالي من عامل ضاغط عليه أجبره طويلا على اسداء الكثير من المكاسب الاجتماعية للعمال خوفا من انزلاقهم نحو التوجه الاشتراكي اضافة إلى ان أحزاب اليسار في اغلبها فقدت مرجعيتها وأصبحت غايتها الاساسية بلوغ السلطة بعد أن كانت ترفع لواء النضال الاجتماعي ومطالب الطبقة العاملة وفي هذه الأثناء دخلت الصين حلبة الاقتصاد العالمي عن طريق رأسمالية "متوحشة" لا تولي لحقوق العمال النقابية اعتبارا فاكتسحت الصين السوق العالمية ببضائع لا تقبل المنافسة وهو ما دفع بكثير من البلدان إلى تبرير هشاشة الشغل والحرمان من الحقوق النقابية. السؤال الثالث: كيف تتعامل أغلب البلدان مع هذه الازمة؟ بما أن الأزمة عالمية فلا يمكن أن تكون حلولها فردية أو قطرية وحتى الاجتماعات الدولية المنعقدة للتباحث في حلول الازمة لم تتمحض عن اقتراحات جدية تذكر. ويرى البعض الحل في زيادة العرض في حين أن المشكلة تكمن أساسا في نقص فادح في الطلب وعوضا عن انعاش القدرة الشرائية لتنشيط الاستهلاك فإن بلدانا كثيرة تتجه نحو إنقاذ الأثرياء. ولعل من بين المخارج الممكنة لهذه الازمة الاتجاه نحو مراعاة الثورة التقنية المهولة من أجل تحسين ظروف العمال والتخفيض في ساعات العمل اضافة إلى تحسين القدرة الشرائية الكفيلة بإنعاش الطلب والرفع من نسق الاستهلاك بما ينعكس ايجابيا على الإنتاج والاستثمار كما أنه من الضروري تعديل العلاقة بين الاطراف الاجتماعية كما أن النقابات والأحزاب اليسارية مطالبة بالعودة إلى منهج المجابهة والصراع والمطالبة" واثر مداخلة الأستاذ الديماسي ساهم عدد من الحضور في النقاش فتراوحت تدخلاتهم بين الاضافات أو التعديلات أو الاعتراضات على رؤية المحاضر التي يعتبرها البعض من داخل المنظومة الرأسمالية في حين يرى هؤلاء المتدخلون أن الحل يكمن في النهج الاشتراكي المطور أو الخيار الوسطي بين القطاع الخاص والعام وقد كانت التدخلات على غاية من العمق والثراء شأنها شأنها مداخلة الديماسي ومن بين المتدخلين نذكر الأخ المولدي الجندوبي والدكتور عبد الله بن سعد والأخ أنور العمري وعبيد البريكي والمنصف اليعقوبي والكاتب العام للاتحاد الجهوي بين عروس محمد مسلمى وغيرهم. إنها ندوة قيمة دعا الكثيرون إلى تدعيمها والنسج على منوالها في قضايا أخرى تهم العمال وتحدد مصيرهم.
المصدر : بريد الفجرنيوز جريدة الموقف لسان الحزب الديمقراطي التقدمي