قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ ليبيا: اشتباكات عنيفة في الزاوية.. وهذه حصيلة الضحايا    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    اتحاد الفلاحين: ''أسعار أضاحي العيد تُعتبر معقولة''    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    عضو بمجلس هيئة الانتخابات: لا يمكن تجاوز هذا التاريخ كأقصى موعد للرئاسية    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    الوطن القبلي.. صابة الحبوب تقدر ب 685 ألف قنطار    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة .. «عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    عاجل : مسيرة للمطالبة بإيجاد حلول نهائية للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء    محيط قرقنة مستقبل المرسى (0 2) قرقنة تغادر و«القناوية» باقتدار    فقدان 23 تونسيا شاركو في عملية ''حرقة ''    الحشاني يُشرف على اجتماع لجنة القيادة الاستراتيجية بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي    وزارة الصناعة : ضرورة النهوض بالتكنولوجيات المبتكرة لتنويع المزيج الطاقي    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    طقس اليوم: أمطار و الحرارة تصل إلى 41 درجة    ضمّت 7 تونسيين: قائمة ال101 الأكثر تأثيرا في السينما العربية في 2023    قانون الشيك دون رصيد: رئيس الدولة يتّخذ قرارا هاما    جرجيس: العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    نحو 20 بالمائة من المصابين بمرض ارتفاع ضغط الدم يمكنهم العلاج دون الحاجة الى أدوية    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار الثقافات: الفرص والفشل (1/3) العلامة/ عبد الله بن بيَّه

لقد جرت عادة المتقدمين أن يُقدم بين يدي كل فن يتعرض له الباحث بعشرة مطالب، ومنها على الخصوص تعريف العنوان لما في ذلك من تسهيل إدراك مدخلات ومخرجات البحث وتصورات وتوجهات الباحث، لهذا فسنتعرف على الحوار والثقافة، ولم أقل أعرف بالجنس والفصل والخاصة كما يقول المناطقة. ولكن التعرف سيكون من خلال المعنى اللغوي والمعاناة العملية؛ لأن هذه المصطلحات من باب الكلي المشكك عند المناطقة أو من باب ألفاظ التذكير عند الغربيين (evocation) كالخير والشر والعدل والجور في مقابل المصطلح المحدد كالبيع والزواج.
إن الحوار هو مصدر من حاوره حوارًا ومحاورة إذا راجعه الحديث، وهو أمر لا يكون إلاّ من اثنين فأكثر، والحوار كلام يدور بين اثنين، ويرادفه الحجاج والجدال، إلاّ أن الجدال قد يكون أحد الطرفين فيه ساكت وقد جاء في القرآن الكريم إطلاق اللفظين على معنين متقاربين: (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). [المجادلة: 1].
ولكن التحاور كان أشارة إلى مراجعة النبي –صلى الله عليه وسلم- لها كما جاء في قوله تعالى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ)، واستعملت العرب الحوار في كل خطاب، حتى ولو كان مع رسوم الديار البلاقع، حيث يقول الشاعر حسان:
هَل رَسمُ دارِسَةِ المَقامِ يَبابِ مُتَكَلِّمٌ لِمُحاوِرٍ بِجَوابِ
وللحوار مرتبة شريفة ومكانة منيفة في الإسلام؛ فهو كما يقول العلواني: "مفهوم بناه القرآن المجيد أولاً في حضارتنا، وغرسه في تصورنا وفي رؤيتنا الكلية، وجعله جزءاً من بنائنا العقلي والنفسي، بحيث لم يعد ممكناً تصور الاستغناء عنه في أي جانب من جوانب الفكر والتصور والسلوك".
والحوار حديث بين طرفين للعثور على أرضية مشتركة يتوصل من خلالها إلى أهداف محددة قد تكون هذه الأرضية قيماً مشتركة كإقامة العدل ونبذ الحروب وحقن الدماء، كما كانت مفاوضات الحديبية، وقد تكون تحقيق مصالح للطرفين من تبادل المنافع، وقد تكون من أجل إقناع أحد الطرفين بوجهة النظر الأخرى عن طريق وسائل الإقناع للتماهي معه.
والحوار قيمة إنسانية؛ إذ "إن قيمة البشر -كما يقول أفلاطون- تكمن في قابليتهم للإقناع، وذلك بإظهارهم على مختلف الوسائل البديلة للعنف".
"والحضارة هي المحافظة على النظام الاجتماعي بوساطة الإقناع". (وايتهد)
ويرادف الحوار في اللغات الغربية (Dialogue)، وتعني بالخصوص تواصلاً ومناقشة بين طرفين للبحث عن اتفاق(Accord) أو عن توفيق (Compromis).
أهداف الحوار وغاياته:
فما هي الأهداف المتوخاة من الحوار؟ إنها: أولاً: هدف دفاعي في معركة العولمة على امتداد الساحة الدولية، حيث تمثل الأدوات الفكرية والبرهانية والإقناعية أهم وسائلها لفرض أنموذج من الأفكار والسلوك والقيم التي تعتبر حاضنة القوانين والنظم والحياة.
فالحوار نمط من أنماط المقاومة على صعيد أرضك، أو كما يقولون في ملعبك قيم تهاجم وقيم تقاوم الشيطنة والاستفزاز. إن اليمين المتطرف يريد من المسلمين أن يلعبوا دور الشيطان، ويفرح عندما تصدر منهم أفعال خارجة عن سياق المصالح والدين، إلى حد أنه يتهم من لا يقول ذلك أو يفعله بالنفاق.
الهدف الثاني: تقديم قاعدة مفادها أن الاختلاف سنة كونية للتعامل والتفاعل والتكامل للتضامن والتعاون مع أولي بقية في الغرب يؤمنون بالتعددية الثقافية والتنوّع الحضاري، من أمثال شيخ فلاسفة الألمان (يورغن هابرماس)- الذي يرى- : أن حقوق الإنسان والحقوق المدنية ليست حكراً على الغرب. ويقول: إن كافة الثقافات تتقاسم الآن قيماً أخلاقية معينة. وتجلّى هذا في رد الفعل الموحد حول العالم إزاء الانتهاكات الضخمة لحقوق الإنسان والحقوق المدنية، سواء أكانت في رواندا أو الشيشان أو في بغداد.
بيد أنه استطرد قائلاً: إن التسامح وفصل الدولة عن السلطة الدينية تتطلب نوعاً من التكيف من جانب الطوائف الدينية الكبرى.
ويقول (هابرماس): إن الإسلام يتمتع بالقدر الكافي من الحيوية اللازمة لمواجهة هذا التحدي لكنه أضاف: إن أي حوار فكري لن يؤتي ثماره إلاّ إذا واكبته رغبة واضحة في إدخال العدالة السياسية على اقتصاد العولمة، وذلك لإيجاد بيئات تؤمن بتعدد القيم وتنافسها لجعل العالم فضاء تنوع إيجابي بناء، وليس فضاء تطرف وإقصاء.
الهدف الثالث: الحوار دعوة للسلام بين الأديان وبين الثقافات، وكما يقول كبير علماء اللاهوت في سويسرا (هانس كييغ): "إنه لا سلام في العالم دون سلام بين الأديان".
وأنا -بكل تواضع- أقول: إنه لا سلام بين الأديان دون سلام بين الإسلام والمسيحية، ووسيلة هذا السلام هي الحوار.
ولا جرم أن أهداف الحوار وغاياته لا تنأى كثيراً عن مفهوم الحوار الذي أشار إليه (روبير) وهو البحث عن اتفاق أو توفيق.
ولكن ما هو مفهوم الاتفاق؟
إنه الوصول إلى حل نهائي قد يسلم أحد الأطراف فيه بصدق مطالب الآخر، وهو في الحوار ما يُدعى بالمصالحة التاريخية.
ومفهوم التوفيق هو: الوصول إلى حل بين حلين، وهو توافق يتنازل فيه كل طرف عن بعض ما يعتبره حقاً من حقوقه؛ لبناء صورة أكثر إشراقاً، وعلاقة أكثر عدلاً.
والحوار بين المفهومين هو ما أسميه الحوار بين الكلي والجزئي أو الجملي والتفصيلي، وتندرج تحت الحوار أنواع هي: حوار التعايش (Coexistence) ومنه مبدأ التعايش السلمي الذي كان قائماً بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، وأصل معناها "الوجود المتزامن" أي أن وجودك لا يلغي وجودي.
وأخص منه التساكن (Cohabitation)
وهناك حوار التعارف (connaissance) والاعتراف (Reconnaissance)
ويفهم من الآية الكريمة اعتباره مقصداً من مقاصد الشرع والخلق (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا )
حوار التضامن والتعاون (Solidarité،Coopération)
(وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)
وهذا أعلى غايات الحوار، ويمثله في التاريخ الإسلامي حلف الفضول، ووثيقة المدينة، وأحسب أن الوثائق الدولية وما سبقها من حوارات كانت تستهدف هذه الغايات.
وفي الحالة الراهنة للعلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، فالحوار سواء كان سياسياً بخلفية ثقافية، أو ثقافياً بخلفية سياسية يشير إلى موقفين:
موقف يدعو إلى حوار جملي يقدم مجمل التظلمات التاريخية والراهنة لتكون موضوع الحوار، وفي حالة إعراض الطرف المقابل عن الاستجابة يعتبر مصراً على موقفه.
وهذا الموقف يدعو إلى الحوار حول "المصالحة التاريخية" التي إذا قايسناها بالموقف من اليهود يكون أول بنودها تصفية الإرث التاريخي بالاعتذار عن سلبياته بأن يعتذر الطرف الغربي عن الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش والفترة الاستعمارية، ويكف عن توجيه جيوشه إلى المنطقة الإسلامية، ويوجد حلاً ولو نصف عادل للقضية الفلسطينية. مع إقامة شراكة منصفة لا استغلال فيها ولا ظلم، وتُلغي من الذاكرة الجمعية الصورة المسيئة لكل طرف. ويقوم الطرف الإسلامي بالشيء نفسه إذا ما ثبتت وقائع تاريخية شنيعة.
وهذا الموقف يبدأ بالسقف الذي من شأنه أن يُظل مسيرة الحوار، وربما يحميها من الانتكاسات الخطيرة.
أما موقف الحوار التوفيقي فيدعو إلى الحوار المتدرج الذي يبدأ بلبنات الأساس، يبني شيئا فشيئاً أسس التفاهم، ويمد الجسور على مكث، وأحياناً على استحياء.
تحل قضايا جزئية من شأنها أن تتعامل مع التوافقات، ولكن هذا الحوار قد يتعرض للنكسات في أي وقت؛ لأن المصالحة التاريخية تظل بعيدة المنال.
قبل أن نتحدث عن فرص حوار الثقافات ومجالاته فلنتعرف على الثقافة.
إن الثقافة بالمعني الحديث الذي يترجم كلمة (culture) مصطلح قد عرف كما يقول (كوبر وكلايكون) بمائة وخمسين تعريفًا لعل أبرزها:
تعريف لاروس الفرنسي حيث يقول: إن الثقافة هي مجموع النظم الاجتماعية والمظاهر الفنية والدينية والفكرية التي تتميز بها، وتُحدّد بها مجموعة أو مجتمع بالنسبة للآخر".
تعريف موسوعة (دار الشروق) حيث جاء فيه: إن مفهوم الثقافة يشير إلى كل ما يصدر عن الإنسان من إبداع أو إنجاز فكري أو أدبي أو فني أو علمي".
ويعرفها (تايلر) بأنها ذلك المعقد الذي يضم المعرفة والمعتقدات والفنون والآداب والقوانين، والعبادات وجميع القدرات والتقاليد الأخرى التي يكسبها الإنسان بصفته عضواً في المجتمع.
ولعلي أتوقف مع (موللر) في كتابه "تعايش الثقافات" عندما يقول: ماذا نقصد فعلاً بكلمة ثقافة المثقلة بالمعنى؟ يلفت النظر أولاً أن كلمة "ثقافة" في الاستعمال اللغوي الألماني تسود حيث تستخدم "حضارة" في الخطاب الإنجليزي أو الفرنسي. وهذا الفرق ليس صدفة، بل يعكس أساساً مفهومات متباينة تضرب بجذورها في التواريخ العقلية المختلفة. إن جيراننا الأوروبيين والأمريكيين كذلك يفهمون تحت كلمة حضارة العدة الكاملة لمجتمع من المجتمعات للتغلب على مشكلات الوجود في حقبة تاريخية، وذلك يشمل: الاقتصاد، والعلاقات الاجتماعية المميزة، وآداب اللياقة السياسة، وبنية الاستيطان، والتربية، وأخيراً أيضاً الدين ونظم القيم وعلم الجمال. إن الحضارة إذن مفهوم شامل للممارسة الاجتماعية، وحيثما حملت ممارسة المجتمعات سمات جوهرية مشتركة، فذلك يعني أنها تنتمي للحضارة نفسها".
بعد كل هذه التعريفات تبقى الثقافة مفهوماً مراوغاً إلاّ أن آثارها جلية؛ فهي المقولب للأحكام العائدة إلى الذات والمتوجهة إلى الغير؛ لأنها تمعير الجمال والخير والحق والعدل وأضدادها.
ولهذا فإن المخيال والوجدان الجمعي إنما ينطلق في تصوراته من الخلفية الثقافية، فلا يمكن أن تحيدها عن مجريات العلاقة مع الآخر.
فالحوار مع الثقافات إنما هو في حقيقته تعامل مع كم غير يسير من تراكمات تُتئق النفس وتترعها بركام من التصورات والعواطف والأحكام التي تشكل صورة الغير في المخيال الجمعي، وترسم تفاصيلها السلبية لتسقطها على نوع العلاقات والتصرفات إزاءه لتكون خصومة ولتكون حرباً شعواء؛ لأنه لا يصلح معه إلاّ الحرب؛ ولأنه لا يحسن التفاوض؛ لأنه من الأشرار، -الوصف الذي أصر بوش عليه حتى آخر أيامه- "والصدام معه حتمي" (هنتغتون).
في مقابل صورة الأنا المشرقة، لأنه يمثل الحضارة المثلى والقيم العليا كما يقول (برلسكوني).
ولأن ما وصل إليه هو نهاية التطور الإنساني، -نهاية التاريخ فوكوياما- فليس في الإمكان أبدع مما كان –أبوحامد الغزالي-.
إن التشبّع النفسي وتضخم الأنا هو أهم ميزة طاردة في الثقافة المتباهية، فعند ما تحاورها أو تجاورها ثقافة أخرى يكون الامتعاض والازدراء ثم الاحتراب.
ولإسقاط حوار الثقافات على موضوع محدد فليكن على الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية.
وأود أن أنبه على صعوبة التعميم فيما يتعلق بالثقافتين، فالغرب –غروب- فقد تختلف الشيات الثقافية بين بلد وآخر، وبيئة وأخرى، ومن الصعب إطلاق حكم قيمي على السلوكيات والخلفيات بشكل محدد وصارم؛ ولكن لتجاوز الإشكال سنُطلق الغرب على ذلك التيار المسيطر على المنتج الثقافي، ووسائط الإعلام، والمؤثر تأثيراً فاعلاً على العلاقات مع العالم على مختلف الصعد.
وبخاصة تلك النخب التي تحمل رؤية عن الإسلام مع الاعتراف بصعوبة التصنيف.
كما أن العالم الإسلامي عوالم لكل منه موروث وخصوصيات؛ ولكن القواسم المشتركة بينه والخلفيات المتداخلة تجعلنا نضرب صفحاً عن هذا الإشكال أيضاً لتسهيل الحكم -ولو مجازاً وتجاوزاً- على الثقافة الإسلامية بأنها ذلك القدر المشترك بين مكونات الأمة الإسلامية الذي تتعرف به إزاء غيرها.
إذا كان الحوار يقتضى إشكالاً؛ فما هو أصل المشكلة بين الثقافتين؟
إن الثقافات لا تتصارع ولا تتخاصم؛ ولكن البشر هم الذين يختصمون اعتماداً أو استنجاداً بالثقافة التي قد لا يكون لها دخل في الخصومة، وفي موضوع الثقافتين فإذا استحضرنا التاريخي فيمكن أن نخرج بالتالي، فلنقل أولاً: بأن الاحتكاك طبيعي بين الجيران، وهذا الاحتكاك قد يتحول إلى معارك حول "البحيرة" البحر الأبيض، فكان كل من الجيران يجتاز البحر، هذا الحاجز المائي أو الواصل المائي إلى الضفة الأخرى، فكان ما قدره بعضهم (3000) معركة كبرى مثلاً، وهناك الحقبة الاستعمارية التي بدأت منذ عام 1798م وهو الذي شهد حملة نابليون على مصر وعجز المماليك ومن ورائهم الخلافة العثمانية عن دحر المحتلين، وما أُرهقت به مصر من الديون من طرف الانجليز، وهكذا كان القرن التاسع عشر قرن الاحتلال للعالم الإسلامي، حيث تحركت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، واحتل شمال إفريقية أبشع احتلال، واستمرت الغزوات في القرن العشرين في الهلال الخصيب الذي كان خاضعاً للخلافة العثمانية، وقد تلقى العرب عهود المملكة المتحدة بالاستقلال جزاء خلع ومحاربة العثمانيين، إلاّ أن بريطانيا في معاهدة فرساي 1919م نبذت تلك العهود لتقتسم تلك الكعكة مع فرنسا، عندما قرّرا فرض الانتداب على فلسطين ولبنان وسوريا والعراق والأردن.
وهكذا تفككت وحدة العرب وقد بارك الرئيس الأمريكي ويلسون ذلك، وإذا كان قد سمح بالاستقلال لمصر ولبنان والعراق بين الحربين فقد بقيت فلسطين تحت الانتداب.
فما كادت الحرب العالمية الثانية تنجلي حتى أُنشئت دولة إسرائيل مع موكب المآسي المستمرة.
أما شمال إفريقية فقد دفع ضريبة الاستقلال، ولا يزال الإرث الاستعماري يوجد مشكلة هناك أيضاً في اتفاقية بين فرنسا وإسبانيا سنة 1900م في منطقة الصحراء الغربية.
ولا يزال السجال مفتوحاً في المنطقة مع تدخل الولايات المتحدة بقواتها العسكرية في المنطقة وحروبها السيئة السمعة واعتداءاتها في القرن الحادي والعشرين.
وهناك سبب آخر انتبه له بعض الكتاب الغربيين - مارسل بوزار- وسماه بعقدة الأقارب، باعتبار أن الأقارب هم أقل الناس تفاهماً؛ فالمسيحي يجد في الإسلام أشياء كثيرة تذكر بدينه وأفكاراً قريبة جداً من أفكاره .
فإذا كان المسيحيون أظهروا تسامحاً إزاء الأديان السابقة (أنبياء اليهود)، فقد قابلوا الإسلام الذي ظهر لاحقاً بالرفض المطلق؛ فقد اعتبروه انحرافاً للنصرانية، وقد كانوا يظنون أن بإمكانهم تشويه الإسلام، و أنشؤوا لذلك الاستشراق الذي كان يحاول أن يعرف الإسلام معرفة جيدة ليحاربه محاربة جيدة كما يقول (بوزار). وإذا كنا في شك من النوايا المبيتة ضد الإسلام في الدراسات الاستشراقية فما علينا إلاّ أن نراجع خطاب (أرنست رينان) الذي ألقاه في (كوليج دي فرانس) في 23فبراير1862حيث يقول: "في هذا الوقت المناسب إن الشرط الأساسي لتمكين الحضارة الأوروبية من الإنشاء هو تدمير كل ماله علاقة بالسامية الحقة تدمير سلطة الإسلام الثيوقراطية؛ لأن الإسلام لا يستطيع أن يعتبر إلاّ كدين رسمي، وعندما يختزل إلى وضع دين فردي فإنه سينقرض، هذه الحرب الدائمة الحرب التي لن تتوقف إلاّ عند ما يموت آخر أولاد إسماعيل بؤساً، أو يرغمه الإرهاب على أن ينتبذ في الصحراء مكاناً قصياً.
إن الإسلام هو التعصب، إن الإسلام هو احتقار العلم، هو القضاء على المجتمع المدني, إنه سذاجة الفكر السامي المرعبة, إنه يضيق الفكر الإنساني, يغلقه دون كل فكرة دقيقة, دون كل عاطفة لطيفة, ودون كل بحث عقلاني ..". إلى آخر كلامه الذي هو ملحمة هجائية بث فيها كوامن التصور الغربي للإسلام.
إنه تصريح لا يحتاج إلى تفسير، وإن كل تعقيب من شأنه إضعاف النص كما يقول المستشرق الفرنسي المنصف (فنسان مونتاي) (يراجع كتاب الإسلام اليوم-منشورات اليونسكو).
وإن كتابات كثيرة على هذه الشاكلة تملأ رفوف المكتبات حتى يومنا هذا. وكان المؤرخ الفرنسي (فيرناند بروديل) في أوائل القرن الماضي قد قال في كتابه "المتوسط والعالم المتوسطي" الذي تحدث فيه عن الحضارة الغربية اللاتينية الرومانية والحضارة العربية الإسلامية: إن الغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس في آن واحد. إنهما عدوان متكاملان".

الاربعاء 18 جمادى الأولى 1430 الموافق 13 مايو 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.