الرئيس حسين باراك أوباما ألقى خطابه الموعود، ولحقت بخطابه عاصفة هستيرية في صحافة العدو، وكأن أوباما أقدم على صحوة ضمير وتصحيح تاريخي لا زال غائباً، ومن جهة أخرى حظي خطابه بزفة شعبية عند بعضهم، وبالأخص عند كبير المفاوضين الفلسطينيين السيد صائب عريقات متوقعاً أن تقدّم الإدارة الأمريكية، قريبا خطة زمنية عاجلة للمفاوضات الميتة منذ أمد بعيد، كون صديقنا صائباً يرى دوماً أن «الحياة مفاوضات»، حتى يستعيد معها الحياة المتوقفة. أوباما الرئيس احتاج هذه الفرصة، لأن الديموقراطيين الأمريكيين لا يألون جهداً في القيام بوظيفتهم الخاصة بهم دوماً، وفي كلِّ مرة عقب دورة عنف ، وغطرسة، ولا معقول، يمارسها الجمهوريون، يأتي الديموقراطيون بمساحيقهم، ورحيقهم، ومعسول حديثهم، كي يخففوا الوطأ قليلاً، وحتى يستمرَّ الدولاب بالدوران، لكن مع ذلك فإن ثمة عوامل إضافية، أتاحت لأوباما هذه المرة أن يتفوّق على سابقيه الديموقراطيين جميعاً، سمرته واحدة منها بما حملت من كاريزما شخصية، وملتبِس تاريخه وأصوله وعلاقاته، وكذلك قدرته اللغوية والقانونية وبلاغته، والأهم من ذلك كله، الجنون الطاغي الذي جاء على خلفية مروره مع الإدارة السابقة، بحيث تغدو كلماته مهما كانت، نعيماً من نعم الله. في الواقع فإن السيد الرئيس أوباما، لو اقتصر حديثه على ما سوى قضية فلسطين، وقضية العراق، ومعها باكستان والصومال، وطبعاً السودان وأفغانستان، لكان حديثاً يشبه إلى حد كبير ذات المشكاة التي تحدّث بها الآباء المؤسسون في أمريكا، وفي المباديء العامة من الاحترام بين الأمم والشعوب، والتعاون بين القبائل والعشائر، والتلاقي بين الأديان والأجناس والأعراق، والمساواة بين الجنسوية واضرابها، لا يوجد خلاف لا بين الفلسفات ولا بين العقائد، فجميعها تتفق على هذا، وجميعها تحرص عليه، بيد أننا لم نكن نرتقب في حقيقة الأمر السيد أوباما الفيلسوف، ولا السيد أوباما المفكّر، بل كنا نرتقب حديثاً للسيد أوباما الرئيس، حيث التطبيق على الأرض، هو شيء كان مناقضاً تماماً، ولا زال مختلفاً حتى الساعة. السيد أوباما على الأقل يستحق الثناء لسبب رئيس، أنه لم يلق خطابه من الأزهر الشريف كما فعل «بونابرتة »، أي نابليون بونابرت، ولا لبس العمة والجلباب، بل اختار أن يكون خطابه من القاعة الكبرى في جامعة القاهرة، بحضور أصحاب العمة من كل درب ومسلك، وليته يتذكّر قول بونابرت في خداع الناس كل الوقت! ، وأيضا هو يستحق الشكر مرة أخرى، لأنه كان واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، في أهم القضايا التي ارتقبنا أن نسمع منه عنها، طبعا سنتخفف من مسألة أفغانستانوالباكستان والعراق فلها ما ينوب عنها في المؤسس لها، ونذهب مباشرة نحو القضية المركزية في فلسطين، فهي أم القضايا جميعاً، فهو أي فخامة الرئيس أوباما مثله مثل باقي زعماء العالم «الحر»، لا زال يتعامل مع القضية الفلسطينية من نقطة خادعة مسكوت عن الخداع فيها، هي نقطة ما بعد الظلم الكبير الذي لحق بفلسطين وبشعبها، وليس من نقطة ما قبل ذلك، حيث القيمة القانونية الحقيقية، وحيث نقطة اتزان الموازين. السيد أوباما لا يريد وهو العارف بالقانون أن يبدأ مع التاريخ، ذلك أنه لو فعل فلا مندوحة عن الإجابة عن السؤال المنطقي الأساس، لمن هذه الأرض فلسطين، ومن هم أصحابها، وماذا جرى لهم، ومن فعل بهم هذا، ولماذا، وكيف تعاد الأمور إلى نصابها عبر تحقيق العدالة!، وهو بدلاً من ذلك يقترح علينا نسيان هذه النقطة الفيصل، وفقط البقاء في معمعان تفاصيل نزاعات تالية، بنيت على باطل واضح، وهو ما لا يقيم شرعة، ولا يورّث حقاً، مهما طال الزمان. أوباما يريد لنا أن نوافق على قصة المحرقة، ونحن لا مانع لدينا من أن نوافق عليها، بل أن نضيف أيضا بضعة ملايين على ملاينهم في قصة المحرقة، لكن ما هو شأن أرض وشعب لم يكونوا يوما ً لا طرفاً في هذه المسألة، ولا حتى شهوداً على وقائعها، لكي يتم تحويلهم جهاراً نهاراً، لمحارق على مدار الساعة؟ هذا ما لا يريد لا أوباما ولا غيره أن يجيب عليه، وطالما الأمر كذلك فإن القيمة الأخلاقية والفكرية في مطالعتكم سيدي الرئيس أوباما، لا زالت مختلة وفاقدة لمعيار الصدق، والمنطق، والحقيقة، وطالما هي هكذا، فإن المطالعة الوحيدة التي كانت فعلاً تستحق أن تدرس فيما لو جاءت من هذه الناحية مستوفية الشروط، ألا وهي المطالعة الأخلاقية والفكرية، أصبحت للأسف غير ذات جدوى، فهي كغيرها مشوبة بزخرف القناع، ولعل هذا هو الأساس الذي دعا كثيرين من أصحاب البصيرة، يعلّقون على خطابكم، بأنه القول المعسول، وطبعا فإن تتمة ما لدينا في المأثور، الروغان كما يروغ الثعلب، ربما نكون قد أخطأنا وعندها يوم تأتي الأفعال على أجمل مما في الأقوال، سنكون أسعد الناس بهذا الخطأ، وحتى ذينك النهار، لا شيء يوحي بغير ما هو من جنس وراء الأكمة . بقي في خطاب أوباما بعد هذا كله، وبعد أن انسلخ عنه الجانب الضميري، والجانب الأخلاقي، والجانب الفكري، بسبب الخلل الفاضح، والعيب الفاقع، والنفاق المستتر، بقيت قضايا أخرى قوامها المصالح والسياسات لتحقيقها، وفي هذه الجزئية لا يسلم خطاب فخامة الرئيس من الطرق على حديد ساخن لا نفع فيه إن برد، فهو يبلغ أن أواصر العلاقات مع مشروعه في الكيان الصهيوني قائمة قوية، وهو يبلغ أن القدس مدوّلة أو محوّلة قد سلخت من يد أبنائها وأصحابها، وهو يرى الشعب الفلسطيني محتاجاً لدولة متسوّلة، تكافح جموعه كفاح السود في ديموقراطية الغاب الأبيض، أما حدودها فدون جديد الاستيطان، ولا يرى ملايين الشعب الفلسطيني المشتتة الشريدة، ولا يرى أسراه في أقبية العنصرية والغطرسة والهولوكست المفتوح، لكنه مستعد أن يذهب عدة آلاف من الأميال لزيارة شاهد قبر على قصة قديمة، فالقصص الجديدة القائمة يوميا وعلى مدار الساعة في القدس وغزة والضفة، لم تتناولها بعد يد طباخ التاريخ حتى تزار! فخامة السيد أوباما، بعضهم رأى في مطالعتك بعض شجاعة، وهي كذلك سوى أنها ناقصة، وبعضهم يرى فيها بعض تغيير، وهي كذلك إلا أنها في المساحيق، وبعضهم يرى فيها بعض توازن، وهي كذلك إلا أنها في غير نقطة العدل والقانون والحق، ودون المفقود في هذه، لا أظنن الموازين عادلة، وإذا ما فقدت عدالة الموازيين، فإن الملك لا يدومنّ ، ولا يضيع حق خلف بغيته طالبه، والأيام دول، والأجيال مهل، وأما نحن يا فخامة الرئيس فقد كانت لنا في الماضي نكبة، ثم جاءت بعدها النكسة، واليوم يا صاحب الفخامة، جئتنا بتاريخ جديد، هو«النكئة» يا صديقي، أقترح على لغوييك أن يمروا على هذا المنحوت، فلربما قد يحتاجه أحد ما في البيت الأبيض بعد عشرينية أخرى أو ثلاثينية، هذا إن بقي من ينتظره في جامعة أو جامع عندنا.