تتميز هولندا بالتسامح مع الاجانب. التسامح هو أول كلمة تخطر على الذهن إذا سألنا عن مميزات الشخصية الهولندية، على الأقل.. هكذا ينظر الهولنديون إلى انفسهم. تعتقد الغالبية هنا بتساوي الجميع في القيمة الانسانية، في الفرص وفي الحقوق. هذه هي آيدلوجيا المساواة التي حاولت الباحثة الاكاديمية ليدا فان دن بروك استكشاف ما يكمن خلفها لتخلص إلى أن الواقع العملي يفضح هذه الايدلوجيا، بل من المفارق أن هذه الايدلوجيا هي التي تفتح ابواب التمييز ضد الأجانب. ظهر كل هذا من خلال بحث نالت به ليدا فان دن بروك درجة الماجستير من جامعة تيلبورخ الهولندية.
التمييز هو القاعدة أجرت ليدا بحثها العملي وسط عشر منظمات تضم تركيبة اثنية متعددة، تتفاوت هذه المنظمات ومستوى العاملين فيها من مصنع للصلب إلى مؤسسة إعلامية وطنية، لتظهر لنا نسقا من الميكانزمات التي تفرز وتوطد ممارسات اللامساواة في هذه المنظمات. بحسب ليدا فإن مثل هذا البحث لم ينفذ من قبل في هولندا، وأنها أول من حاول بشكل عملي تقصي وقائع التمييز ضد الاجانب في مجال العمل الذي أصبح في حكم القاعدة بدل أن يكون استثناء، كما يظهر من خلال بحثها، تقول ليدا:
"حسب علمي، لم يحدث أن وصف بحث علمي في هذا المجال ما يحدث في أماكن العمل، لبحث حقيقة ما نقوله بشكل نظري من أن الجميع متساوون ولهم فرص وحقوق متساوية. لأن الواقع العملي يكذب هذه النوايا والأفكار التي تتطلع نحو المساواة بين الناس، حيث أننا لا نطبق ذلك".
المساواة والتطابق مدخل البحث هو مبدأ المساواة الذي يتم فهمه على أنه تناسخ وتطابق، حيث يتوقع الهولندى من زميله في مجال العمل أن يكون مثله تماما، أن يفعل الاشياء بطريقته ويتواصل بطريقته، وهو أمر يجنح لجعل العامل الاجنبي نسخة مطابقة من زميله الهولندي. يمكن النظرلمثل هذه المقاربة على أنها متعسفة وغير عادلة في الأساس لطبيعة الاختلافات والفروقات بين أناس من خلفيات اثنية وثقافية مختلفة.
تقول الباحثة ليدا فان دن بروك،لاذاعة هولندا العالمية، في هذا الصدد:
"أعتقد أنه من طبيعة البشر وضع الفروقات بين الرجل والمرأة مثلا، وبين الأبيض والأسود. ولكن ترجمة هذه الفروقات الي ممارسة عملية أو اصدار حكم قيمي بشأنها هو ما يؤدي الى التمييز، أو العنصرية. مثل الحكم بأن الأسود أقل شأنا وقيمة من الأبيض، وأن الرجل أفضل من المرأة. مجرد النظر لهذه الفروقات والاعتراف بها أمر لا ضير فيه ، ولكن إن عاملتني بصورة اقل لأنني إمرأة مثلا فإن الامر يتعدي حدود المقبول".
أحكام مسبقة الاحكام المسبقة لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات. تنشط هذه الاحكام عند مواجهتنا بالغريب، إذ نلجأ بصورة ميكانيكية قد لا نعيها لوضع هذا الغريب في إحدى خانات الأحكام المسبقة، وهذا ما يحدث بالضبط في أماكن العمل التي اخضعتها ليدا فان بروك لدراستها.
أجرت ليدا تجربة اختلقت فيها قصة لأحد العمال أثناء تأدية عمله، حيث يؤديه مرة بشكل جيد، ومرة أخرى بشكل سيئ في قصتها المختلقة. أطلقت ليدا على الشخص المفترض إسم (بيتر) وهو اسم شائع بين الهولنديين البيض. في المرة الثانية أطلقت عليه اسم (نجيب) وهو اسم قد يكون لمهاجر مغربي مسلم. طلبت ليدا من سامعي القصة اصدار أحكامهم على العامل في القصة التي يؤدي فيها هذا العامل عمله بشكل غير مرض ويرتكب بعض الأخطاء. أصدر الأشخاص الذين شاركوا في التجربة وكلهم من الهولنديين البيض أحكاماً إيجابية في حق العامل بيتر، حتى حينما أخطأ في عمله. كما أصدر نفس الأشخاص أحكاما سالبة بحق نجيب حين اخطأ حيث وصفوه بالغباء وعدم الفطنة.
ميكانزمات التمييز خلاصة هذه التجربة مضافاً اليها الحوارات التي أجرتها ليدا مع عدد من العمال البيض والمهاجرين تظهر نسقا من الميكانزمات تعمل على عزل الأجانب وإظهارهم بمظهر العامل غير الكفوء. أول هذه الميكانزمات هو الانتقائية، حيث يتم النظر للجوانب السلبية في أداء العامل الأجنبي، ويتغاضى عن الجوانب الإيجابية. ثاني الميكانزمات يتمثل في التفسير حيث تفسر الحقائق والمعطيات في غير صالح العامل الاجنبي. الميكانزم الثالث والاخير هو (شخصنة) النجاح أو الفشل في العمل. حين ينجح الأبيض في العمل فمرد ذلك لقدراته الشخصية وليس للظروف والملابسات التي جعلت ذلك ممكنا. وحين يفشل فإن مرد ذلك للظروف. أما الأجنبي فعلى العكس من ذلك النجاح سببه الظروف المتوفرة والفشل أمر شخصي يتعلق بالأجنبي.
أصدرت ليدا في ختام بحثها مجموعة من الاقتراحات والتوصيات لإخراج الحديث عن التمييز من دائرة التابو والانطلاق من التعددية والاختلاف باعتبارهما الأصل لمعاملة كل حسب خصوصيته وهو أمر محفوف بكثير من التحفظات بدعوى المساواة، وهي المفارقة التي أنبني عليها البحث. تقول ليدا:
"المعاملة المختلفة ليست عنصرية. اذا كان الناس مختلفين، يجب معاملتهم بصورة مختلفة. أشبه ذلك بالحديقة التي اذا أردت حفظ حقوق كل النباتات فيها وجب عليك معاملتها كلاً بصورة مختلفة، بعضها يحتاج الي ماء أكثر بعضها يحتاج الي مكان ظليل وبعضها يحتاج الي شمس، وهذا ينطبق علي البشر ايضا، اذا عاملتهم كلهم بنفس الطريقة رغم اختلافهم تكون قد أجحفت في حقهم".
أبدى الكثير من المستجوبين الذين تعاونوا في البحث، حين ووجهوا بممارساتهم في مجال العمل التي تفضح نوعاً من التمييز ضد الأجانب، أنهم تصرفوا دون وعي منهم بأبعاد سلوكهم التي تلامس حدود التمييز. سألنا الباحثة ليدا فان دن بروك عن الحد الفاصل الذي يفصل التعمد من الغفلة؟
تجيب "يقع الحد في المنطقة التي يختارها الشخص لنفسه إن كان يجد نفسه في التمييز أو يرغب فيه. هنالك حوالي 20% من الهولنديين الذين يعتقدون أنه ليس هنالك ما يمنع من ممارسة التمييز. هنالك جزء آخر ضد فكرة التمييز اصلا، ولكنهم يتورطون دون وعي منهم في ممارسته، وهذا ما تبين من البحث الذي أجريته." اذاعة هولندا العالمية - العربية