قفصة: وفاة مساعد سائق في حادث جنوح قطار لنقل الفسفاط بالمتلوي    عاجل: هذه الدول العربية تدعو إلى صلاة الاستسقاء وسط موجة جفاف متفاقم    تحطم طائرة شحن تركية يودي بحياة 20 جندياً...شنيا الحكاية؟    النجم الساحلي: زبير بية يكشف عن أسباب الإستقالة.. ويتوجه برسالة إلى الأحباء    تونس تشارك في بطولة العالم للكاراتي بمصر من 27 الى 30 نوفمبر بخمسة عناصر    أحمد بن ركاض العامري : برنامج العامين المقبلين جاهز ومعرض الشارقة للكتاب أثر في مسيرة بعض صناع المحتوى    تعاون ثقافي جديد بين المملكة المتحدة وتونس في شنني    "ضعي روحك على يدك وامشي" فيلم وثائقي للمخرجة زبيدة فارسي يفتتح الدورة العاشرة للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس    ليوما الفجر.. قمر التربيع الأخير ضوي السما!...شوفوا حكايتوا    معهد باستور بتونس العاصمة ينظم يوما علميا تحسيسيا حول مرض السكري يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025    سباق التسّلح يعود مجددًا: العالم على أعتاب حرب عالمية اقتصادية نووية..    تحب تسهّل معاملاتك مع الديوانة؟ شوف الحل    عاجل/ هذه حقيقة الأرقام المتداولة حول نسبة الزيادة في الأجور…    المنتخب الجزائري: لاعب الترجي الرياضي لن يشارك في وديتي الزيمباوبوي والسعودية    مباراة ودية: المنتخب الوطني يواجه اليوم نظيره الموريتاني    اسباب ''الشرقة'' المتكررة..حاجات ماكش باش تتوقعها    خطير: تقارير تكشف عن آثار جانبية لهذا العصير..يضر النساء    أحكام بالسجن والإعدام في قضية الهجوم الإرهابي بأكودة استشهد خلالها عون حرس    بش تغيّر العمليات الديوانية: شنوّا هي منظومة ''سندة2''    قطاع القهوة في تونس في خطر: احتكار، نقص، شنوا الحكاية ؟!    الأداء على الثروة ومنظومة "ليكوبا" لمتابعة الحسابات البنكية: قراءة نقدية لأستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي    عاجل/ بعد وفاة مساعد السائق: فتح تحقيق في حادث انقلاب قطار تابع لفسفاط قفصة..    الجبل الأحمر: 8 سنوات سجن وغرامة ب10 آلاف دينار لفتاة روّجت المخدرات بالوسط المدرسي    حادث مؤلم أمام مدرسة.. تلميذ يفارق الحياة في لحظة    تحذير عاجل: الولايات المتحدة تسحب حليب أطفال بعد رصد بكتيريا خطيرة في المنتج    عاجل: امكانية وقوع أزمة في القهوة في تونس..هذه الأسباب    خالد السهيلي: "الطائرات المسيرة تشكل تحديا متصاعدا على "المستوى الوطني والعالمي    بعدما خدعت 128 ألف شخص.. القضاء يقرر عقوبة "ملكة الكريبتو"    مجموعة السبع تبحث في كندا ملفات عدة أبرزها "اتفاق غزة"    فريق تونسي آخر يحتج رسميًا على التحكيم ويطالب بفتح تحقيق عاجل    سلوفاكيا.. سخرية من قانون يحدد سرعة المشاة على الأرصفة    تصرف صادم لفتاة في المتحف المصري الكبير... ووزارة الآثار تتحرك!    طقس الاربعاء كيفاش باش يكون؟    تقديرا لإسهاماته في تطوير البحث العلمي العربي : تكريم المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي في الإمارات بحضور كوكبة من أهل الفكر والثقافة    الشرع يجيب على سؤال: ماذا تقول لمن يتساءل عن كيفية رفع العقوبات عنك وأنت قاتلت ضد أمريكا؟    محمد علي النفطي يوضّح التوجهات الكبرى لسياسة تونس الخارجية: دبلوماسية اقتصادية وانفتاح متعدد المحاور    الديوانة تُحبط محاولتين لتهريب العملة بأكثر من 5 ملايين دينار    الكتاب تحت وطأة العشوائية والإقصاء    كريستيانو رونالدو: أنا سعودي...    عاجل/ الرصد الجوي يصدر نشرة استثنائية..    الحمامات وجهة السياحة البديلة ... موسم استثنائي ونموّ في المؤشرات ب5 %    3 آلاف قضية    المنتخب التونسي: سيبستيان توناكتي يتخلف عن التربص لاسباب صحية    وزارة الثقافة تنعى الأديب والمفكر الشاذلي الساكر    عاجل/ غلق هذه الطريق بالعاصمة لمدّة 6 أشهر    عاجل/ تونس تُبرم إتفاقا جديدا مع البنك الدولي (تفاصيل)    فريق من المعهد الوطني للتراث يستكشف مسار "الكابل البحري للاتصالات ميدوزا"    بعد انقطاع دام أكثر من 5 سنوات.. عودة تقنية العلاج بالليزر إلى معهد صالح عزيز    QNB تونس يفتتح أول فرع أوائل QNB في صفاقس    تصريحات صادمة لمؤثرة عربية حول زواجها بداعية مصري    مؤلم: وفاة توأم يبلغان 34 سنة في حادث مرور    غدوة الأربعاء: شوف مباريات الجولة 13 من بطولة النخبة في كورة اليد!    عاجل/ وزارة الصناعة والمناجم والطاقة تنتدب..    عاجل/ وزير الداخلية يفجرها ويكشف عن عملية أمنية هامة..    الدكتور صالح باجية (نفطة) .. باحث ومفكر حمل مشعل الفكر والمعرفة    صدور العدد الجديد لنشرية "فتاوي تونسية" عن ديوان الإفتاء    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغنوشي : أشواك السلفية في تونس هي انعكاس لعنف السلطة!:حاوره هادي يحمد
نشر في الفجر نيوز يوم 20 - 06 - 2009

اعتبر الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية بتونس "أن صمود النهضة طوال عشرين سنة واستعصاءها على الاختراق والتقسيم طوال العشرين سنة الأخيرة يعد بحد ذاته انتصارا على السلطة التي راهنت على استئصال الحركة"، وقال الغنوشي في هذا الحوار الخاص من مقر منفاه في العاصمة البريطانية لندن مع موقع "إسلاميون.نت": إن السلطة التي فشلت في "استئصال النهضة" تعتمد خطة سياسة جديدة قوامها "سحب البساط" عن طريق تبني بعض الخيارات، وشدد الغنوشي على أن الحركة التي تتركز مؤسساتها في الخارج تتمتع بالحضور والوجود في الداخل.
وفي حوار يشدد قائد النهضة على أن السلطة السياسية في تونس في مأزق حقيقي أمام "الموجة السلفية في تونس"، وأنه "لا خيار لها إلا الاستنجاد بخطاب النهضة الوسطي المعتدل من أجل تقنين هذه الموجة السلفية والصحوة الدينية"، وحمّل رئيس حركة النهضة السلطة مسئولية هذا المد السلفي الذي تشهده البلاد.
وفي ما يلي الحوار كاملا:
* دعني أولا أسألك سؤالا مباشرا: متى يعود الشيخ راشد الغنوشي إلى تونس؟
- راشد الغنوشي: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعود إلى البلاد عندما تنتفي أسباب خروجي منها، لماذا أنا خرجت من البلاد؟! لأني شعرت بأنه لم يبقَ لي مجال وموقع فيها إلا السجن والسجن ليس جديدا علي فقد عرفته وليس من الحكمة في شيء أن يختار للإنسان إذا كان له اختيار، أن يختار السجن فالإنسان خلق للحرية وليس للسجن، أنا خرجت من البلاد لألمانيا لإلقاء محاضرة بدعوة من جمعية طلابية فلسطينية وكنت أنوي عودة سريعة، ولكن بما أني كنت حجبت عن الخارج مدة عشر سنوات قبلها فقد تتالت الدعوات من أماكن كثيرة لإلقاء محاضرات والمشاركة في ندوات ومؤتمرات من جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة عبر منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي، وخلال ذلك كنت أتابع الأوضاع، وقد تطورت على إثر انتخابات 1989 تطورا سلبيا جدا إذ مثلت هذه المناسبة الانتخابية انقلابا حقيقا أو إحباطا للآمال المعلقة على نظام 7 نوفمبر 1987 (تاريخ وصول الرئيس بن علي إلى السلطة في تونس)، حيث زيفت الانتخابات على نطاق واسع ومثل لي إذن هذا الإطار وللحركة نفسا للخارج نتيجة الحصار الذي ضرب على النهضة في الداخل وتبعا لنصيحة إخواني في الحركة مددت إقامتي في الخارج إلى أن حصلت المواجهة، فلم يعد لي أي مبرر للعودة، وأصبح عندنا عدد كافٍ يمثلنا في السجن، وفي خارج السجن الكبير عندنا عدد كاف من الممثلين، فليس هناك ما يدع أن نعزز تمثيليتنا لا في السجن الصغير ولا في السجن الكبير فوجدت في المهجر متسعا بعد أن ضاقت بلادي بأهلها، إذن أعود إنشاء الله في أول فرصة تكون فيها بلادي خارج نطاق الحصار والمراقبة الأمنية والقمع فتونس اليوم طاردة لأهلها وليس جاذبة، ويبلغ الأمر بالبعض بأنفسهم في لجج البحار هروبا من هذه "الجنة" المزعومة، وآخرون من التونسيين في الشمال الغربي يهربون إلى الجزائر عشائر بكاملها عبر الحدود.
فتونس اليوم من الناحية السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية ليست بحال جالبة لأهلها وآلاف من إخواني اليوم هم خارج السجن المضيق هم داخل السجن الكبير وكثير منهم إن لم نقل أغلبهم يتمنون سبيلا من أجل مغادرة البلاد، فالوجود في البلاد ليس هدفا في حد ذاته إذا لم يشعر الإنسان أنه مفيد وآمن في بلده وليست هي صورة الحال في تونس.
حصاد المنفى
* إذن بعد حوالي عشرين سنة بالنسبة لكم في حياة المنفى، هل تعتقدون أن هذه الفترة كانت عامل إضعاف أم عامل تقوية لحركتكم؟
- راشد الغنوشي: هاجر حوالي 2000 من المنتسبين للنهضة في مستويات عديدة من مستويات الانتساب إلى الحركة وهؤلاء لم يخرجوا من البلاد ليعودوا بجيش إلى البلاد من الخارج لفتحها ولا خرجوا كذلك ليمثلوا قوة للنهضة في الخارج وإنما خرجوا نجاة بأنفسهم. وتاريخ الحركات النضالية مسلمة كانت أو غير مسلمة فيها مكان للهجرة. والمطلوب حينئذ من المهاجر أن يحافظ على الراية التي هاجر حاملا لها، وأن بحافظ على قضيته فلا يضيعها في الطريق والمطلوب من الحركات التي تتعرض للاضطهاد مثل حركات المقاومة المطلوب منها هو الصمود والثبات على مبادئها وليس المطلوب منها أن تقوم بأعمال فتوح وأعمال هجومية وإنما في أن تصمد، وانتصارها إنما هو في صمودها وثباتها على مبادئها وليس في مغالبة الطرف الآخر، فنحن في موقع الدفاع عن النفس في وجه نظام متسلط ديكتاتوري مدعوم من الخارج، استخدم كل أدوات الدولة لقمع معارضيه بكل أصنافهم.
وفي هذه الحالة وتجاه وضعية كهذه وأمام التهديد ولإغراء والاختراق فالصمود يعبر نصر فخلال العشرين سنة توزع مناضلو النهضة على أكثر من خمسين بلدا في العالم، معظمهم انتهوا إلى المهجر الأوروبي، ولكن ظل مهم عشرات في كندا وفي الولايات المتحدة وفي الخليج وفي نيوزلندا وحتى في أستراليا وفي اليابان وحتى في الصين.. فتوزع مهاجرو الحركة في أرض الله الواسعة وكان يمكن لهذا الجسم الذي توزعت أعضاؤه أن يفقد التواصل بينه ولكن ضلت هناك نهضة في الخارج، وضلت هناك حركة في الخارج لها قيادة ولها مؤسسات، وظلت محافظة على الراية محمولة وتصدر المواقف وسعت على المحافظة على مبادئها فلا تخترق وهي موزعة بين تيارات إسلامية مختلقة فقد كان يمكن أن تخترق من قبل المنظورات الإسلامية الأخرى، لكن النهضة حافظت على منظورها الإسلامي الوسطي وحافظت على قضيتها حتى لا تموت وظلت قضية المساجين حية وظلت قضية تونس وما يعانيه الوطن من اضطهاد ظلت حية من حلال هؤلاء المهاجرين الموزعين على المنظمات الحقوقية في العالم بحيث فشل نظام بن علي في تجريم النهضة والرمي بها تحت أقدام بلد وزر الإرهاب، ولقد حاول جاهدا عبر علاقاته الدولية وارتباطاته بشبكات الأمن الدولية وما يخصصه من أموال للصحافة في العالم حاول تجريم النهضة بعد أن حاصر جسمها في الداخل أراد القضاء على فكرتها وربطها بالإرهاب حتى يسهل الإجهاز عليها تماما، ولكنه فشل فشلا ذريعا، وليست هناك دولة في العامل غير دولة بن علي صدقت التقارير التي تصدرها أجهزة الأمن التونسية في تجريم النهضة ووصمها وإدراجها في قائمة المنظمات الإرهابية؛ ولذلك فإن مئات من أنصار النهضة حصلوا على جوازات سفر في مختلف الدول، وكل مهاجري النهضة إما حاصلون على حق اللجوء أو حق الإقامة وبين من أضاف جنسية أخرى تضاف إلى جنسيته التونسية، وكل هذه الأوضاع لا يتمتع بهم مَنْ يتهم بالإرهاب.
إذن هذا نعتبره مكسبا بمعنى الحفاظ على هوية الحركة كإسلامية معدلة وسطية تنبذ العنف وأيضا حافظت على إحياء مظلمة النهضة ومن خلالها معاناة تونس حية لا تنسى، كما استطاعت الحركة أن تتواصل مع حركات المعارضة داخل وخارج تونس بما أفضى إلى إيجاد أرضية مشتركة مع أهم قوى المعارضة في البلاد، سواء المعارضة المعترف بها أو غير المتعرف بها، أيضا حافظنا على إسعاف عوائل المساجين بما نقدر عليه بما أن السلطة اعتمدت العقاب الجماعي فلا تكتفي بمعاقبة السجين وإنهاكه داخل السجن بالتقتير عليه بالغذاء والهواء والدواء وحتى الماء من أجل تنفيذ حكم إعدام بالتقسيط، لا تكتفي بذلك وإنما تعاقب أسرته فتحرم أسرته من العلاج ومن الضمان الاجتماعي وتحاول حرمان هذه الأسرة من المساعدات التي يقدمها الأقارب والأصدقاء بحالة الرعب التي فرضتها على عوائل المساجين.
إذن كان على المهاجرين أن يحملوا عبء دعم هذه العوائل بما يستطيعون، فتكونت منظمات إغاثية في بلدان كثيرة من أجل دعم هاته العوائل.
* إذن يعني هذا الصمود التي تعتبره "بمثابة النصر" في الخارج يحيلنا على وضع النهضة في الداخل الآن ما الذي تحقق بعد هذين العقدين؟
- لا شك أن قضية المساجين ظلت قضية مهمة جدا بالنسبة للنهضة، تعلم أنه في بداية التسعينيات من القرن الماضي تعرض أزيد من 30 ألف من أبناء النهضة إلى الاعتقال وللتعذيب وإلى مصادرة الأموال، ومن بعدها المحاكمات وإلى صدور الأحكام في جلسات لم تتوفر فيها الحدود الدنيا من المحاكمة العادلة، إذن كانت قضية الدفاع عن المساجين والضغط من أجل خروجهم ومنع تجريمهم كانت القضية الأساسية بالنسبة للنهضة، ونستطيع القول اليوم بأن هذه المهمة قد أنجزت فلم يبقَ للنهضة في السجن إلا عضوان منهما الرئيس السابق للنهضة (الصادق شورو) هذا فضلا عن العشرات الذين لقوا ربهم نتيجة السجن القاسي الذي سلط عليهم والبقية خرجوا من السجون واندمجوا ويحاولون الاندماج في المساحات المتاحة في المجتمع، برغم أن أحكام السجن لاحقتهم وخاصة المراقبة الإدارية التي سلطت عليهم والمراقبة الأمنية اللصيقة والحرمان من الشغل والحرمان من العلاج ومعظمهم أجسادهم قد أنهكت، ولكن أجسادهم ظلت مشرقة سامقة، فهؤلاء الآلاف عادوا إلى مجتمعهم ويقومون بمهام توعية في أوساطهم العائلية وفي محيطهم باعتبارهم جزءا من هذا المجتمع وليسوا جسما غريبا، فهم حاولوا أن يندمجوا في المؤسسات الحقوقية والثقافية والنقابية وما إليها، فمثلا عدد منهم في اتحاد المحامين، سواء العمادة أو اتحاد المحامين الشبان وعدد منهم في المنظمات الحقوقية النشطة وآخرون في النقابات.
نحن عقدنا في سنة 1995 مؤتمرًا للنهضة في الخارج اتخذ هدفين إستراتيجيين للحركة هما عودة الحركة والصحوة للبلاد ونستطيع أن نقول بكثير من الاطمئنان إن الهدفين قد تحققا، فالصحوة الإسلامية في تونس أوسع من أي وقت مضى والمساجد عامرة ومظاهر التدين طافية في البلاد، والتدين يخترق كل الطبقات، كل هذا على الرغم من جهود النظام وسياسة الدولة في هذا الإطار واضحة، فهي لم تكتفِ بضرب خصمها السياسي الذي حقق فوزا انتخابيا سنة 1989 (انتخابات تشريعية) التي كشفت أن النهضة هي زعيمة المعارضة، ولكن دفعت الأمور إلى نهاياته بتفكير ستاليني عدمي خلاصته أنه لا يمكن القضاء على النهضة كخصم سياسي فهذا لا يتم لا يمكن أن يتم إلا بالقضاء على قاعدتها الفكرية والثقافية أي على الثقافة الإسلامية وكل ما ارتبط بالإسلام من عادات وتقاليد وثقافة ومساجد في إطار ما سمي آنذاك ب "خطة تجفيف الينابيع"، فهناك خطتان أعملتا وهما "خطة استئصال النهضة"، وخطة تجفيف ينابيع الإسلام وهاتان الخطتان فشلتا فشلا كاملا، والصحوة القائمة لا يمكن لعاقل اليوم أن يربط بينها وبين جهد قامت به الدولة.
وفي الحقيقة فإن شعب تونس قام بانتفاضة دينية داس بها بالأقدام على خطة دولة بكاملها، ولكن بشكل هادئ وحضاري، حيث اتجه الناس أفواجا إلى بيوت الناس، وتواصلوا من وراء الجدر التي وضعها النظام، تواصلوا مع القنوات الفضائية ومع الإنترنت، فعولمة الإسلام أمدت الأرض التونسية العطشى بماء غزير فضلا عن أن الحركة الإسلامية في المجتمع التونسي وخلال العشرين عاما تركت آثارا، وما من عائلة في تونس إلا وتأثرت بجهود النهضة الإحيائية، وهذه الجهود كمنت أمام هجمة السلطة، ولكن ما إن بدت ثغور هجمتها تظهر وصعوباتها الاقتصادية وعورات المعجزة الاقتصادية التي بشروا بها حتى اخذ المجتمع التونسي أنفاسه، ونستطيع أن نقول اليوم إن المجتمع التونسي في علاقته بدولته بصدد الانتقال من الدفاع إلى الهجوم والدولة اليوم بصدد الدفاع عن نفسها؛ مما اضطرها إلى التراجع جزئيا عن خطة تجفيف الينابيع فإنشاء "إذاعة الزيتونة"، والحديث عن "بنك إسلامي"، والحديث عن تلفزة إسلامية ودعوة بعض الشيوخ، مثل الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ سلمان العودة، كل هذا تراجع ومناقض بالكامل لخطة تجفيف الينابيع؛ ولذلك فإن العناصر الاستئصالية في السلطة من حقها أن تشعر بالهلع إزاء هذا التراجع من خطة تجفيف الينابيع إلى خطة سحب البساط ونحن لا نخشى أن يسحب بساطنا، فالإسلام ليس ملكا لنا نحتكره حتى نخشى أن يسحب المشروع منا، بل يسرنا كل جهد بقطع النظر على نوايا أصحابه؛ ولذلك هنأنا صاحب قناة الزيتونة لما بعث إذاعته، حيث لا يمكننا إلا أن نبتهج بكل جهد بسيط مهما كان حجمه، والإسلام ليس رصيدا تجاريا بالنسبة لنا نخشى أن يفتكه منا أحد، بل نفرح كلما شاركنا الناس الصفة الدينية أو قالوا إنهم متدينون أكثر منا فهذا يفرحنا ولا يحزننا، وهذه بعض المكاسب التي انتزعها المجتمع التونسي، الذي انتزع بعض حقوقه الدينية من بين فكي الأسد، والمرأة التونسية تنتزع حق الحجاب، وبصفة عامة المجتمع التونسي بصدد انتزاع مفردات تدينه من سلطة اعتبرت مصدر شرعيتها هو تجفيف ينابيع التدين.
إذن نستطيع القول إن الشطر الأول من خطة الحركة التي رسمتها لنفسها سنة 1995 وهو عودة الصحوة قد تحقق بأكثر مما كان يتوقع أحد، وأما الشطر الثاني وهو عودة النهضة، فنحن نقول إن النهضة هي أهلها وما دام أهلها هم على الأرض اليوم في وطنهم ومنبثين بين ذويهم وبين مؤسسات المجتمع، فالنهضة عبر الحبيب اللوز وعبر عبد الله الزواري وعبر حمادي الجبالي وعلي العريض والصحبي عتيق وعبد الفتاح مورو...
فالنهضة موجودة في البلاد، وهي تعمل مع الناس، وهي ليست مجرد تنظيم إذا فككته تعتقد أنك قد قضيت عليه، وهي قبل كل شيء فكرة ومشروع يبني الإسلام بعد أن اتخذ القرآن مهجورا، والحركة بفضل الله أعادت للمسجد اعتباره وأعادت للحجاب والصوم والصلاة اعتبارها وهي تندرج ضمن المشروع الإصلاحي الإسلامي الذي يمتد في العالم، والخطأ تصور أنه يمكن قطع تونس عن سياقها العربي والإسلامي وربطها بما وراء البحار، كما كان الأمر بالنسبة لمشروع بورقيبة، وبالرغم من قمع هذا المشروع، فإن المجتمع التونسي ظل يفرز صحوة بعد صحوة، وكما أنه في نهاية الستينيات أفرز الصحوة الأولى التي نحن جزء منها فإن نهاية القرن وبداية القرن الجديد أفرزت موجة أخرى من الرفض للارتباط بما وراء البحار، وهي صحوة إسلامية جديدة تؤكد ارتباط تونس بإسلامها وعروبتها.
السلفية موجة عابرة
* ولكن هذه الصحوة التي تتحدث عنها هي بالأساس صحوة "سلفية منغلقة" ولا علاقة لها بأطروحات النهضة التي تقول "إنها وسطية"، وهي بالنسبة للبعض غير مقننة وهذا خطر آخر؟
- صحيح أن الفارق بين الصحوة الأولى والثانية أن الأولى كانت وراءها حركة تربي وتنظم وتؤطر وتوجه، وهذا الذي يفسر أن هذه الصحوة لم تفرز العنف برغم تعرضها للعنف، ولكن ظلت متأبية ومستعصية على الاستدراج نحو العنف، برغم اتهام النهضة بالعنف من قبل النظام، وبالرغم من أنه ليس هناك وقائع تشهد عليها، والطرف الوحيد الذي مارس العنف في تلك الفترة هي السلطة التي مارست القتل والتعذيب والضرب بالرصاص في الشارع، ولكن النهضة وكل الحوادث التي نسبت لها كانت حوادث معزولة لا تندرج ضمن منهاجها وخطابها الذي يؤكد باستمرار على ديمقراطيتها وسلميتها ورفضها للعنف.
وأما الصحوة الثانية التي ولدت من رحم المجتمع التونسي متأثرة بالمناخات الدولية فتختلف من هذه الناحية عن سابقتها إنها ليست وراءها حركة تؤطر وتوجه وإنما هي جزء من عولمة الإسلام وفي هذه الصحوة الجديدة تجد فيها كل ما يوجد في العالم الإسلامي، تجد فيها الاتجاه السلفي العلمي والاتجاه السلفي الجهادي والاتجاه الشيعي والتبليغي والصوفي والنهضوي... وهو ما يشبه البناء العشوائي الذي يسبق بخطة؛ ولذلك لا عجب أن مئات من هؤلاء الشباب اندفعوا نحو التفكير في العنف وأعمال "الجهاد" وكأنهم يحملون نوعا من التقويم السلبي لمسار النهضة وكأنهم يقولون لنا: ماذا أفادكم توجهكم الديمقراطي أيها النهضويون؟! سنريكم نحن كيف نتصرف، وسنريكم كيف نعمل أدوات في الإسلام مثل أدوات الجهاد؟ ولماذا لم تعملوا آلية الجهاد وهؤلاء الشباب متأثرون بالأجواء والمناخات الدولية مثل حرب العراق وفلسطين والشيشان.. والعشرات منهم فكروا في إعمال هذه الآلية وبعضهم التحقوا بالحقول الجهادية في العراق وأفغانستان وحتى في الصومال، وبعضهم دخل حتى في مواجهة مع السلطة في تونس مع بداية السنة الماضية، حيث وقع لأول مرة اشتباك بين وحدات الأمن والجيش وبين مجموعات من الشباب واستمرت المواجهات أيام عديدة (حادثة بلدة سليمان جنوب العاصمة تونس)، واستخدمت فيها كل الأسلحة وهذا من مسئولية السلطة ولم يحدث هذا في تونس لما كان التيار الإسلامي تقوده السلطة في البلاد برغم كل القمع، وإذا توجه مئات نحو السلفية الجهادية مسئولية ذلك كاملة غير منقوصة تعود إلى الدولة، وتعود إلى القوى الدولية التي دعمت مسار السلطة في قمعها للإسلاميين، ولكل صوت معارض معتدل.
ولكن على كل حال أنا تقديري أن المجتمع التونسي وإن كان جزءا من المجتمعات الإسلامية فإنه طور عبر التاريخ تدينا منسجما مع أوضاع البلاد؛ وبالتالي أحسب أن هذه الصحوة الجديدة وإن كانت تخترقها كل الاتجاهات والتوجه السلفي الأكثر حدة، أحسب أن هذا مرتبط بالوضع السياسي القائم، وأن المجتمع التونسي سيحتوي هذه التوجهات وسيستعيد هؤلاء الشباب ويخدمهم ضمن منظور التدين المعتدل، ونحن أنفسنا لما بدأنا مسارنا بدأنا متأثرين بتوجهات سلفية مشرقية، ولكن بعد سنوات بدأ المجتمع التونسي يستعيدنا حتى انتهينا إلى معادلة معقولة، والتقينا مع المجتمع على أرضيته التاريخية الإسلامية وليست على أرض السلفية المشرقية، وأحسب إذن أن هذه الموجة السلفية العابرة مع هي موجة مباركة وما فيها من أشواك ليس إلا انعكاسا لعنف السلطة، وأنه مع مرور الزمن وانفتاح الوضع السياسي في البلاد أن المجتمع التونسي سيستعيد أبناءه، كما استعاد موجة الصحوة الأولى لأن المجتمع التونسي ليس قابلا لأي صورة من التدين والمجتمعات المغاربية عموما مرت عليها كل الأصناف ولكن استقرت على نمط معين من التدين الذي يلتقي فيه المذهب المالكي مع العقائد الأشعرية مع التربية الصوفية، وهذا الذي عبر عنه ابن عاشور في منظومته المعروفة، وهي المعادلة التي تجاوز بين عقيدة فيها قدر غير قليل من العقلانية مع الفكر المالكي والتربية والتزكية التي استقر عليها التدين المغاربي ستهضم كل صنوف التدين التي جاءت من الخارج وراهنت على قلب هذه المعادلة.
* هل هذا يعني أنكم ربما ستراهنون من أجل تقنين موجة التدين السلفية هذه على نداء لكم غير مباشر من قبل السلطة من أجل المصالحة؟
- أي تحليل عقلي ينتهي إلى هذه النتيجة، ولكن المشكل أن السلطة القائمة يغلب عليها التوتر والانفعال وهي ليست محكومة بمنطق عقلاني لمصلحة البلاد، ولكن طبائع الأمور ستؤول لا محالة إلى هذه النتيجة، وأن النهضة وليد طبيعي، وليست وليدا مصطنعا حتى يمكن اجتثاثه بالعنف وصمود النهضة طوال عشرين سنة يدل على كونها وليدا طبيعيا؛ لأن الولائد المصطنعة لا تصمد تحت الشمس الحارقة، وهذا المولود الطبيعي أنتجه المجتمع التونسي ليدافع عن هويته؛ وبالتالي فإن هذا الكيان النهضوي هو الأقدر على الدفاع على هوية المجتمع التونسي والمحافظة على نمط تدينه الموروث وعلى تحقيق المعادلة التوافق بين الإسلام وبين منتجات الحداثة.
* سؤالي الأخير يا شيخُ، هذه السنة وأنتم تحتفلون بالذكرى الثامنة والعشرين لتأسيس حركتكم، هل ما زلتم مصرين على نيل حقكم في التنظيم في إطار حزب سياسي؟ أم أنكم وقد طالت بكم "المحنة" مستعدون لقبول عرض آخر، أي العمل في صلب جمعية ثقافية على سبيل المثال لقاء عودتكم إلى العمل في البلاد؟
- نحن متمسكون في الدفاع عن حقوقنا كاملة غير منقوصة، فنحن مواطنون كاملو المواطنة ولسنا أنصاف مواطنين ولا أرباع مواطنين، لا نطالب بأقل من حقوق المواطن ولا أكثر من حقوقه المشروعة، لما يطلب من حركة سياسية قدمت الشهداء، وشردت في الأرض، وملأت السجون، ولم تبق عائلة في تونس إلا وفيها نهضوي أو متعاطف مع النهضة، لماذا يطلب من حركة امتدت هذا الامتداد وهذا العمق أن تتنازل عن السياسة؟! فهل من مصلحة مجتمعاتنا أن ننصرف عن السياسة؟! وأن نقنع الناس أن يتخلوا عنها؟ كثيرا ما اتهمت الحركات الإسلامية التقليدية، واتهم تدينها على أنه يصرف الناس عن الواقع، ويقولون الدين أفيون الشعوب والعلمانيون أيضا يريدون أن ينصرف الإسلاميون عن السياسة.. فما معنى السياسة؟ السياسة معناها أن نهتم بشؤون الناس، إنهم يقولون لنا اتركوا شؤون الناس، واليوم تثبت نتائج الانتخابات في أكثر من قطر أن عدد المشاركين في الانتخابات لا يزيد على العشرين والثلاثين بالمائة، فهل من المصلحة أن تفرض على الحركات السياسية الكبرى هذه المساومة؟ أي إذا أردتم التمتع بحق الحياة فلا بد أن تتنازلوا عن الحق في ممارسة السياسة والسياسية هي بمعناه الاهتمام بالشأن العام، فهذا يصادم طبيعة الإسلام باعتباره نظاما شاملا دينا ودنيا، وهذا يتناقض مع المصلحة الوطنية في أن نجعل كل المواطنين يهتمون بالشأن العام ومن العيب أن يسأل المواطن أن ينصرف على الشأن العام، وأن يطلب من حركة بذلت كل هذه التضحيات أن تتنازل على حقها.
هذا تشويه للإسلام، وانتقاص من المواطنة، ونحن نرفض أن يحتكر أحدٌ السياسةَ أو أن نحتكر نحن السياسة التي هي شأن عام، وهي ليست حقا لكل مواطن، ولكنها واجب فلا يستقيم للمسلم إسلام حتى يفكر في هموم الأمة فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، نعم حقوقنا يمكن أن نصل إليها بتدرج فهذا وارد، ولكن أن نعطي تنازلا بأن ثمن الخروج من السجن أو ثمن العودة إلى البلاد أن نتنازل عن السياسة، فهذا مما لا مجال له، وأحسب أن هذا إعدام لحركة النهضة، وما فشل فيه النظام من إعدامه للنهضة ماديا يمكن أن يتحقق بإعدامها معنويا إذا قبلت بهذا الأمر.
الإسلاميون
20-06-2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.