كلمات ما كان لها أن تغيب عن مؤتمر المهجّرين التونسيين بقلم محمد شمام بسم الله الرحمان الرحيم دعما للمبادرة في ذاتها ، بغض النظر عن موضوعها ومضمونها وتشكلها ، حضرتُ المؤتمر الأول لحق العودة للمهجّرين التونسيين . وتفاديا لأي تشويش على ما أجتهد في بلورته فيما كتبتُ ولا زلتُ من رؤية ومشروع ، لم أدرج عن قصد إسمي ضمن المشاركين . وفي أكثر من حلقة أرغب أن تكون قصيرة ، وتحت عنوان "من أجل ترشيد قضايا العودة والسياسة"، سأتكلم عن هذا المؤتمر، متناولا في حلقته الأولى "كلمات ما كان لها أن تغيب".
هي كلمات أربع غابت ولم يتكلم بها أحد ، رغم أن كلّ الحضور- حتى من غير النهضويين - هم متدينون ، إلا نفرا لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.
هي كلمات أرجو أن لا يتحسس منها أحد - فأنا أكلمكم كلام تونسيّ شعبيّ - ولن تتناول موضوع العودة في ذاته ، إذ هناك فائض من الحديث فيه منذ طرحتْ الفكرة، ولكن سوف تتناول نوعية العودة وإطارها الثقافي:
1 - ليس المؤتمر لتجريد العودة من عمقها الإيماني، ولكن لجمع التونسيين على الحد الأدنى المشترك بينهم :
إن العودة أنواع ، حيث يمكن أن تكون عودة حقوقية ، أو سياسية ، أو دنيوية، أو لمصلحة خاصة أو عامة، أو لمبادئ ، أو لله ورسوله ( أي عبادية ) … ويمكن أن تكون لأكثر من غرض.
وفهمي أن هذا المؤتمر ليس لتجريد العودة من عمقها الإيماني، ولكن هو لجمع التونسيين على الحد الأدنى المشترك بينهم في هذه القضية، وهي أنها عودة تتوق إليها الفطرة وتطلبها الإنسانية. والمصطلحات والتصنيفات والقوالب السائدة ليس واحدا منها يعبّر على المعنى بدقة ، إلا أنه أقرب ما يعبر عليه هو أنها عودة حقوقية.
2 - احذر أن تهدر كسبك في الهجرة :
وقبل العودة كانت هجرة، فأي نوعية بالنسبة للإسلاميين من الهجرة كانت؟
الأصل فيها أنها كانت هجرة إلى الله ورسوله ، فهل بقيت كذلك أم تحولت إلى أغراض أخرى؟ وهذا أمر دقيق يتعلق بالنيات والبواطن التي لا يعلم حقيقتها إلا الله ثم أصحابها .
قال صلى الله عليه وسلم :”إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (حديث صحيح) .
وفي قوله تعالى :{ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهنَّ }، قال ابن عباس : "كان إذا جاءت المرأة النبي صلى الله عليه وسلم حلّفها عمر بن الخطاب : بالله ما خرجتْ رغبة بأرض عن أرض ، وبالله ما خرجتْ من بغض زوج ، وبالله ما خرجتْ لالتماس دنيا ، وبالله ما خرجتْ إلا حبا لله ورسوله" (رواه الشوكاني بإسناد حسن)
3 - أرشد الرشد أن تكون عودتك إلى الله ورسوله :
وبعد الهجرة فالأمل أن تكون عودة ، فكيف تكون ؟ وهل يعقل لمن كانت هجرته إلى الله ورسوله أن تكون عودته عودة مجرّدة ؟
إن الهجرة – كما رأينا - أنواع ، والعودة - وعلى نفس الشاكلة - هي أيضا أنواع ، حيث قياسا على الحديث النبوي الشريف يمكن أن نقول:
إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت عودته إلى الله ورسوله فعودته إلى الله ورسوله، ومن كانت عودته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فعودته إلى ما عاد إليه.
لقد كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام إلى المدينة هجرة إلى الله ورسوله، وكذلك كانت عودتهم يوم فتح مكة إلى الله ورسوله ، فلماذا نرى الآن قضية العودة وكأنها تُجرّد من عمقها الإسلامي، ومن حقيقتها ولونها وصبغتها ، لتصبح عودة خلاص فردي، أو عودة حقوقية أو سياسية؟
لماذا لا نكاد نسمع - في أحاديثنا وحواراتنا وكتاباتنا العامة والخاصة - هذه المعاني والقيم التي تحفظ لهذه العودة خلوصها إلى الله ورسوله ؟ وهل يمكن - بما تطورت إليه حركة النهضة من اختزال سياسي وتضييع عمقها الإسلامي - أن تحفظ لهذه العودة هذا الخلوص وهذا العمق ، وهي توشك أن تضيّعه في نفسها ، كما رأينا في حلقتي "تصحيحات"؟
إن فهمي أن هذا المؤتمر من أغراضه ترشيد عودتنا التي نسعى إليها ، وأرشد الرشد بالنسبة لأهل الإيمان هو ما وجّه إليه الحديث النبوي الشريف .
4 - لا تستقيم قضية العودة إلا بوضعها في إطار العودة الكبرى إلى الله :
إن العودة قضية هامة ، ولكن وضع بلادنا يعاني من قضايا هامة أخرى كثيرة ، هذا من ناحية؛ والوجود بكل قضاياه سيعود إلى ربه عودته الكبرى من ناحية أخرى ، قال تعالى :”كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى".
هذه هي آفاق الحياة، وآفاق الوجود كله، ومنتهى كل شيء، فلا يستقيم أمر، ولا تستقيم حياة ولا أفراد ولا مجموعات إلا إذا وُضعتْ ووضعوا أنفسهم في سياق هذه الآفاق .
لا تستقيم إذن قضية العودة إلا بوضعها في إطار وضع البلاد كله ، وفي إطار العودة الكبرى للبشر جميعا بكافة أجيالهم وأصنافهم وملوكهم ومملوكيهم وأغنيائهم وفقرائهم وظالميهم ومظلوميهم....
نحن في حاجة أكيدة لهذا التذكير حتى لا تتجاوز قضية العودة قيمتها وحجمها، فهي على أهميتها جزئية من جزئيات الحياة ، إن حصّلناها بهذا العمل (المؤتمر وما انبثق عنه) فالحمد الله ، وإن لم نحصّلها فذلك حجمها ، وما فاتنا شيء يدعونا إلى اليأس والإحباط ، ولنحذر أن يُفسد علينا حياتنا أو علاقاتنا أو أعمالا كسبناها عند ربنا..