عندما تنتشر ظاهرة القمع تخلق بيئة مناسبة لبروز ظاهرة الرشوة وسرعان ما تنشأ بين هاتين الظاهرتين علاقة تلازم وتفاعل ويتكاملان في نخر جسد المجتمع فينهكانه ويشلان قدراته على النهوض وتحسس سبل العيش الكريم. وعموم التونسيين يكتوون يوميا ويتلظون بنار هاتين الظاهرتين اللتين أطبقتا على حياة المواطنين في جميع مناحي حياتهم بسبب انفراد التجمع الدستوري الديمقراطي(الحزب الاشتراكي الدستوري سابقا) لأكثر من نصف قرن بالحكم ومصادرته لجميع الحريات الفردية والجماعية وتحكمه بمصادر المعلومات ووسائل الإعلام وهيمنته على السلطات الثلاثة. وقد لعب جهاز البوليس دورا محوريا في إدارة القمع وتغذيته والاستفادة منه كما ينبغي في تحقيق الرغبات المادية والطموحات المهنية ومع ذلك بقي بعيدا عن نقد الكتاب والسياسيين كما لم تحظ ظاهرة الرشوة بالاهتمام المطلوب وبقيت مسألة هامشية يتم التطرق إليها بصفة عرضية وحتى الكتابات القليلة التي تناولت بالنقد هذين الموضوعين لم تنجح في جعلهما محوري الساعة وبالتالي لم يحظيا بأولوية في الفكر والممارسة وبقيت يد البوليس طويلة ويد المرتشين ممدودة. إن إخضاع البوليس كجهاز قمعي للنقد وفضح الرشوة كمرض مستشر أمران في غاية الأهمية ولا بد أن يلقيا الاهتمام اللازم وأن يحظيا بأولوية مطلقة نظرا لما لهما من آثار مدمرة على حاضر التونسيين ومستقبلهم. ومن هذا المنطلق أجد في نفسي دافعا قويا إلى الكتابة في هذين الأمرين من خلال عرضي لشهادات عايشتها شخصيا في محطات مختلفة من حياتي فرسمت في ذهني صورة قاتمة وخلفت في نفسي آثارا مؤلمة عسى في مساهمتي المتواضعة دعم لجهود غيري في الضغط على السلطات التونسية وإحراجها من أجل فتح باب الإصلاح السياسي كمدخل للإصلاح الشامل الذي ينشده التونسيون جميعا وسيكون عملي ضمن فصلين مستقلين الأول ينصب على جهاز البوليس التونسي والثاني يتركز على ظاهرة الرشوة. الفصل الأول: شهادات على البوليس البوليس التونسي مؤهل كما يجب للقمع ومهيأ له، وهو يقوم بهذا الدور داخل المجتمع بتفان غريب، بل إنه لحريص على الظهور في عيون الناس بالشدة والعنف ليزرع فيهم الخوف الدائم، حتى ينظروا إليه بصفة مواطن استثنائي يطال كل شيء ولا يطاله أي شيء، وحتى لا ينظروا إليه بصفة مواطن عادي وموظف يقوم كغيره بمهامه في إطار القانون والمصلحة العامة، حتى أنه يكون باستمرار ظالما لغيره، مبتزا له، متجاوزا للقانون، متعاليا، متعالما، عنيفا في اللفظ والحركة، ويجد ذلك من المقومات الأساسية للشخصية الأمنية. وما سأعرضه على القراء من شهادات من صميم حياتي الشخصية ومعايشاتي اليومية لدليل ساطع على ذلك، بل إنذار بمدى خطورته على عموم المواطنين، وأعتقد أن آلافا من التونسيين عايشوا وقائع شبيهة متعلقة بجهاز البوليس، ولكن أنى لهم أن يحدثوا بها أو يكتبوا عنها وهم يستبطنون الخوف ويستشعرون خطر الاستبداد في كل لحظة ولهم في أهاليهم أو أقاربهم أو أجوارهم أوأصدقائهم أو زملائهم أمثلة لأشخاص وقعوا ضحايا بين مخالب البوليس دون ذنب وكان مصيرهم مصيرا مشؤوما.