أثار الجدل.. سحب كُتيّب يروّج للمثلية من معرض تونس للكتاب    "بنات ألفة" يتوج بثلاث جوائز في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الباحثين    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    حريق بوحدة تصدير التمور يُخلّف خسائر مادية بدوز الشمالية    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    وفد "مولودية بوسالم" يعود إلى تونس .. ووزير الشباب والرياضة يكرم الفريق    هطول كميات متفاوتة من الامطار خلال الاربع والعشرين ساعة الماضية    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    صادم في المنستير: مناوشات في مطعم تتطوّر الى اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه!!    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    عاجل/ انتشال نحو 392 جثمانا من مجمع ناصر الطبي ب"خان يونس" خلال خمسة أيام..    الداخلية تشرع في استغلال مقر متطور للأرشيف لمزيد إحكام التصرف في الوثائق    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    Titre    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة: هذا ما تقرر في حق الموقوفين..#خبر_عاجل    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    رئيس الجمهورية يجدّد في لقائه بوزيرة العدل، التاكيد على الدور التاريخي الموكول للقضاء لتطهير البلاد    الكيان الصهيوني و"تيك توك".. عداوة قد تصل إلى الحظر    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها على البلجيكية غريت    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    اليوم: عودة الهدوء بعد تقلّبات جوّية    شهادة ملكية لدارك المسجّلة في دفتر خانة ضاعتلك...شنوا تعمل ؟    شهداء وجرحى في قصف صهيوني على مدينة رفح جنوب قطاع غزة..#خبر_عاجل    ماذا يحدث في حركة الطيران بفرنسا ؟    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    "تيك توك" تتعهد بالطعن على قانون أميركي يهدد بحظرها    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    سعيد في لقائه بالحشاني.. للصدق والإخلاص للوطن مقعد واحد    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    وزارة الصناعة تكشف عن كلفة انجاز مشروع الربط الكهربائي مع ايطاليا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأشعرية في خريطة الفكر الإسلامي : مجدي خضر
نشر في الفجر نيوز يوم 01 - 07 - 2009

المذاهب الإسلاميةيُمثل علمُ الكلام على مرِّ تاريخه وتطوره الفكرَ الإسلامي بامتياز، وقد نشأت الحركة الكلامية أو الفكرية في شكلها الأول على أيدي المعتزلة وأسلافهم من الجهمية والقدَريَّة؛ حيث أُثيرت على نحو عقلي مشكلة القضاء والقدر، ومشكلة الصفات الإلهية، اللتان خرجت من عباءتيهما سائر الخلافات الكلامية، وطُبع معهما الفكر الإسلامي بطابع عقلي مسرف، بلغ من شأنه أنه شكَّل موجة خطر باتت تهدد حاكمية النص ومرجعية الوحي.
وكان المتوقع في هذه الفترة أن تتجه الأنظار والسيادة إلى الحنابلة أو السلفية من أصحاب الحديث وأتباع الإمام أحمد بن حنبل (ت241ه)، لكنهم كانوا على النقيض تمامًا من الموقف المعتزلي الذي غالى في العقل؛ إذ وقفوا على ظاهر النص والتزموا حرفيته، بحيث أصبح الدين على أيدي الحنابلة والحشوية نصًّا جامدًا لا حياة فيه.
والحال هذه قد هيَّأت الأجواء لمن يريد أن يأخذ على عاتقه إعادة التوازن الفكري الذي اختل بين المعتزلة والحنابلة، أو بين العقل والنص قرآنًا وسنة، وإلى إقامة فكرٍ جديد تكون أول سماته الوسطية والقصد والاعتدال.. وهو الموقف الذي قام به أبو الحسن الأشعري رأس الأشعرية ومؤسسها.
الأشعري.. النشأة الاعتزالية
من الغريب أن عامة أهل السنة بل ومثقفيهم لا يعرفون شيئًا كثيرًا عن مذهب الأشعرية، مع أن أغلبية أهل السنة -الذين يمثلون بدورهم أغلبية المسلمين- تدين به، أو بالأحرى بالمذهب المنسوب إلى الأشعري!
فالأشعرية تُنسب إلى إمامها ومؤسسها أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وقد وُلد أبو الحسن الأشعري بالبصرة سنة 260 - وقيل 270 - للهجرة، وتوفي ببغداد سنة 324 على أرجح الروايات، ونشأ في بيت علم ودين، فكان أبوه من محدِّثي أهل السنة والجماعة، وقد أوصى به عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي (ت 307ه) الذي كان من أئمة الحديث والفقه.
وإن كان الأشعري قد نشأ في بيتٍ سُنِّي إلا أن زواج أمه بعد وفاة والده من أبي علي الجُبَّائي (ت 303ه) رئيس معتزلة البصرة في ذلك الوقت، كان له تأثيره الكبير على تفكير الأشعري، حيث درس عليه وتعلم منه، فانتمى إلى فكره، وتبحر في معرفة آراء المعتزلة، حتى وصل إلى درجة أنه حاز ثقة أستاذه الجُبَّائي، فكان يُنيبه عنه في حضور مجالس المناظرة!
الأشعري والتحوُّل إلى مذهب أهل السنة
وإذا كان الأشعري قد تربى على مائدة المعتزلة حتى بلغ الأربعين من عمره، وحتى صار فيها علمًا من أعلامها، فإن أسبابًا قوية دفعته إلى ترك الاعتزال والتحول عنه إلى مذهب أهل السنة والجماعة، فتذكر المصادر أنه رَقِيَ كرسيًّا في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة، ونادى بأعلى صوته: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فإني أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه الأبصار، وأن أفعال الشرّ أنا أفعلها، وأنا تائبٌ مقلع، متصدٍّ للردِّ على المعتزلة، مخرجٌ لفضائحهم ومعايبهم.
وتثبت المصادر أسبابًا عدة لهذا التحول الفكري في حياة الأشعري، من أهمها تلك المسائل والإشكاليات التي صادفته، والتي لم يجد لها جوابًا عند شيخه الجبائي؛ الأمر الذي أوقعه في حيرة وتشكك في مذهب المعتزلة، بصورة جعلته غير راضٍ عنه بالمرة، وبوجه عام يمكن تحديد دواعي الموقف المعارض الذي اتخذه الأشعري من المعتزلة، والذي أدى به إلى التحول - كما يذكر المستشرق هنري كوربان- بأمرين أساسيين:
الأول: أن منح العقل أهمية مطلقة لا يُفضي إلى دعم الدين، كما زعم المعتزلة، بل على العكس قد يُفضي إلى نفي الدين، أو إلى استبدال العقل بالإيمان، وأي قيمة لتشريع سماوي إذا كان العقل أسمى منه وأرفع؟!
الثاني: يؤكد القرآن في كثير من آياته على الإيمان بالغيب كمبدأ أساسي في التصور الديني، إذا انهارَ انهارت معه أركان الدين، والغيب هذا أمر يُجاوز حدود الفكر البشري ونطاق البراهين العقلية، فاتخاذ العقل إذن كمقياس مطلق في أمور العقيدة يتنافى والحالة هذه مع مبدأ الإيمان بالغيب.
معالم المذهب الأشعري
ومن هنا رأى الأشعري إنشاء منظومة عقدية ومذهب وسطي متكامل، يوحِّد بين العقليين والنقليين، لا يتطرف فيه إلى عقلانية المعتزلة، وفي الوقت ذاته لا يقف عند ظاهرية الحشوية والحنابلة وجمودهم عند النص، بما سيؤدي إليه ذلك من إعادة الوحدة إلى الأمة، واحترام العقل والنقل معًا، وإقامة توازن وتكامل بين الأدلة العقلية والأدلة الشرعية؛ وهذه الوسطية تتبلور في مجال المعرفة في توسطه بين الوحي والعقل، وفي الإلهيات بين التشبيه والتنزيه، وفي الإنسانيات بين الجبر والتفويض، وإن كان هذا الوسط لا يقاس حسابيًّا، بمعنى أنه كان هناك تراوح إلى مزيد من الميل إلى النص، كما جاء في مؤلَّفه (الإبانة عن أصول الديانة)، ونزوع إلى شيء من التأويل العقلي، كما في (اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع).
يقول الأشعري موضحًا معالم المذهب: إن التزام حرفية النص وتحريم استعمال العقل في تأييد ما ورد به من حقائق أمر خاطئ لا يقول به إلا كسول أو جاهل، ومع هذا فالجري وراء العقل غير محاط بسياج من الشرع، وبخاصة في الآراء التي تتصل بالعقيدة أمر خاطئ أيضًا، بل يعتبر أشد خطأ وأكثر خطرًا، وإذن فمن الخير للحق في ذاته وللجماعة التي تعمل على اكتشافه أن تتخذ في ذلك منهجًا وسطًا يزاوج بين العقل والنص، حتى نتجنب الأخطاء التي تنتج عن الاعتماد على أحدها.
أعلام الأشاعرة.. وتطور المذهب
على هذا النحو قُدِّر للمذهب الأشعري من العلماء والمفكرين الأفذاذ ما لم يُقدَّر لأي مذهب آخر، وبفضلهم استطاع المذهب الأشعري أن تكون له الغلبة دون سائر المذاهب، فضلاً عن تلك التي تشاركه في القصد والاتجاه الوسط، كالماتريدية والطحاوية، وقد جمع ابن عساكر في كتابه (تبيين كذب المفترى) أعدادًا كبيرة منهم قسمها -حتى عصره- إلى خمس طبقات وترجم لهم باستفاضة، ويرى السبكي أن ابن عساكر لم يذكر إلا نزرًا يسيرًا وعددًا قليلا، ولو وفَّى الاستيعاب حقه لاستوعب غالب علماء المذاهب الأربعة.
ومن أبرز هؤلاء الأعلام -على سبيل المثال لا الحصر - في القرن الخامس الهجري: ابن فورك وأبو إسحاق الإسفراييني وعبد القاهر البغدادي والأصبهاني والبيهقي والخطيب البغدادي والقشيري، وفي القرن السادس الهجري: الشهرستاني وابن عساكر وابن العربي المالكي، وفي القرن السابع: العز بن عبد السلام وابن الحاجب المالكي والبيضاوي، وفي القرن الثامن: ابن دقيق العيد وابن الزَّمَلْكاني وصفي الدين الهندي والإيجي والسُّبْكي، وفي القرن التاسع: الشريف الجُرْجاني وابن خلدون والمقريزي وابن حجر، والسيوطي في القرن العاشر الهجري.. وغيرهم وبعدهم كثير، حتى إنهم مثَّلوا جمهور الفقهاء والمحدثين من شافعية ومالكية وأحناف وبعض الحنابلة.
فكان في هؤلاء الأتباع أئمة كبار، استطاعوا أن يقووا الآراء التي انتهى إليها الأشعري، ويستكملوا بناء المذهب ويضيفوا إليه ويطوروه، حتى باتت لهم آراء لم توجد للأشعري، بل ربما وصل الأمر أحيانًا إلى شيء من التعديل أو المخالفة لبعض آراء الأشعري نفسه، وكان على رأس هؤلاء: الباقلاني (ت 403ه) والجويني (ت 478ه)، والغزالي (ت 505ه).
وكان لاختلاط المسائل الكلامية بالفلسفة والمنطق اليوناني، وظهور العناصر الصوفية، أكبر الأثر في هذا التطور الذي بات ملحوظًا على يد الأتباع منذ القرن السادس الهجري وحتى نهاية القرن التاسع، وبالأخص على يد الرازي (ت 606ه) والآمدي (ت 631ه)، حتى سُمي إنتاج فترة الأتباع هذه بإنتاج المتأخرين في مقابل فترة المتقدمين من أتباع المذهب نفسه.
ومن أبرز مظاهر هذا التطور: الميل إلى فكر المعتزلة العقلي، وظهور قضية التأويل في التعامل مع الأدلة النقلية لصالح الدليل العقلي؛ الأمر الذي جعل المذهب عرضة للمقاومة والطعن، وخاصة على يد السلفية أتباع الإمام ابن تيمية الذي أحيا مذهب الحنابلة، كما سيأتي بيانه.
الأشعرية في النهضة الحديثة
منذ القرن العاشر الهجري وحتى منتصف القرن الثاني عشر دخل الفكر الأشعري - والفكر الإسلامي بصفة عامة - مرحلة غلب عليها الجمود والتقليد، والاكتفاء بإعادة العرض واجترار الماضي، فكان جل إنتاجها شرحًا أو تلخيصًا أو نقدًا لمؤلفات السابقين.
وما إن برز التحدي الثقافي والحضاري الذي مثَّلته الثقافة الغربية منذ عصر النهضة مطلع القرن السادس عشر أو السابع عشر الميلاديين (العاشر والحادي عشر الهجريين)، بما حملته من منهج وضعي ونظرة علمانية إلى شئون المجتمع - حتى عاد النشاط والحيوية إلى الفكر الأشعري، ليواجه التحديات والمستجدات الحضارية الجديدة.
وكان أبرز تمثيل لهذه الفترة الكتاب الكبير الذي عدَّه البعض كتاب القرن بلا منازع، وهو (موقف العقل والعلم والعالم من الله رب العالمين)، للعالم التركي الشيخ مصطفى صبري التوقادي (ت 1373ه - 1954م)، وهو يُعدُّ من أهم الأعمال الفكرية الأشعرية المعاصرة، وبالأخص في مواجهة النزعة العقلية الاعتزالية الجديدة.
وقد ألَّف الشيخ مصطفى أيضًا في إطار الفكر الأشعري كتاب (موقف البشر تحت سلطان القدر)، ردَّ فيه على من زعم أن تأخر المسلمين وانحطاطهم إنما يرجع إلى إيمانهم بعقيدة القضاء والقدر، أما الماديون الذي يشككون في وجود الله تعالى، وكذا الذين ينكرون الغيب والنبوة والمعجزات.. فقد رد عليهم الشيخ صبري بكتابه الذي يجسد آراء الأشاعرة (القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون)، إضافة إلى غيره من الكتب التي تدافع عن الدين وتواجه ما يعرض للفكر الإسلامي الحديث من أخطار، بمنهج يعتمد الدليل النقلي وأحكام العقل والمنطق.
وفي وقتنا الراهن يعد الأردني سعيد فودة من أبرز الأشعريين المعاصرين المنافحين عن الأشعرية والفكر الأشعري، وله في هذا الاتجاه مؤلفات عدة تصبُّ في إحياء الفكري الأشعري والدفاع عنه ضد منتقديه، من قبيل: (الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية)، و(التعليقات على الإخميمي)، و(تهذيب شرح السنوسية)، و(تدعيم المنطق) وغيرها.
وعلى صعيد الدراسات الأكاديمية، فهناك العديد من رسائل الماجستير والدكتوراة التي تناولت الفكر الأشعري بالدرس والشرح والنشر، لعل من أبرزها كتاب الدكتور جلال موسى: نشأة الأشعرية وتطورها‏،‏ وهو في الأصل رسالة ماجستير، وأيضًا كتاب سعيد بن سعيد العلوي: الخطاب الأشعري مساهمة في دراسة العقل العربي الإسلامي، وهو في الأصل رسالة دكتوراه.
وعلى مستوى المؤسسات الدينية فقد كان دور الأزهر الشريف - قلعة الإسلام وأعرق مؤسسة إسلامية في العالم الإسلامي - في النهضة الحاضرة للفكر الأشعري، أساسيا ورائدا، وإلى يومنا هذا، وعلى رأسه جُل علمائه البارزين، ليس الدكتور علي جمعة مفتي مصر إلا واحدًا منهم، إضافة إلى مؤسسة القرويين في فاس، والزيتونة في تونس.
الأشاعرة والسلفية.. صراع قديم جديد
لم يسلم المذهب الأشعري من المعارضة والنقد، وخاصة من الطرفين الذي جاء وسطًا بينهما: المعتزلة والحنابلة، إلا أن أشد معارضة للأشعرية كانت على يد الحنابلة الذين وقفوا في الصف المعادي للأشعري، وتمسكوا بحرفية النصوص، فثارت بينهم وبين الأشاعرة خلافات وصلت في بعض الأحيان إلى فتن.
ونذكر هنا أن أبرز الانتقادات التي وُجِّهت إلى المذهب الأشعري - قديمًا وحديثًا - تمثلت في قضية التأويل، حيث أوَّل الأشاعرة المتأخرون صفات الله عز وجل على نحو يليق بجلاله؛ تقريبًا للأذهان، من قبيل تأويل اليد بالقدرة، والوجه بالذات، أو الوجود، والعين بالحفظ والرعاية، وهكذا..، في حين أن الحنابلة كانوا لا يرون تأويل ما ورد من الصفات.
ومن ثم هاجم الحنابلةُ الأشاعرة، وعلى أثرهم نهض ابن تيمية (ت 728ه) وتلميذه ابن القيم (ت 751ه)، لإحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومقاومة الأشاعرة من جديد، وقد بات لهم أتباع في العصر الحديث سمُّوا بالسلفية، ما زال الصراع قائما بينهم وبين الأشاعرة إلى زماننا هذا، يُكررون في ذلك الخلافات التاريخية القديمة، وكلهم يستنصر بلقب أهل السنة والجماعة ويدَّعيه.
وقد تجلى الصراع السلفي الأشعري في تلك المؤلفات التي باتت تُؤلف في الطعن والدفاع من قبل أتباع المذهبين، ولعل أبرز ما يُمثل ذلك قديمًا ما كان من ابن تيمية حين ألّف - على سبيل المثال - (نقض التقديس) ردًّا على (أساس التقديس في علم الكلام) للرازي.
أما حديثًا فقد ألف سفر الحوالي (نقد منهج الأشاعرة في العقيدة)، ورد عليه محمد صالح بن أحمد الغرسي بكتاب (منهج الأشاعرة في العقيدة بين الحقيقة والأوهام)، كما رد عليه أيضًا عمر عبد الله كامل في كتابه (كفى تفريقًا للأمة باسم السلف - مناقشة علمية لكتاب الدكتور سفر الحوالي: نقد مذهب الأشاعرة في العقيدة)، والعجيب أن يأتي الدكتور عبد الله بن حسين الموجان ويؤلف بدوره كتاب (الرد الشامل على عمر كامل - نقد علمي موثق لكتاب الدكتور عمر عبد الله كامل الموسوم ب "كفى تفريقًا للأمة باسم السلف"!).
كما ألف حَمَد السِّنان وفوزي العنجري (أهل السنة الأشاعرة - شهادة علماء الأمة وأدلتهم)، وقدماه بتقريظات لعشرة من العلماء، من بينهم الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية، والدكتور عبد الفتاح البِزم مفتي دمشق، والدكتور محمد حسن هيتو، والشيخ وهبة الزحيلي. فردَّ عليه فيصل بن قيزار الجاسم بكتاب (الأشاعرة في ميزان أهل لسنة - نقد لكتاب "أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم")، وقدمه أيضًا بتقريظات لعشرة من العلماء.
وألف كذلك أمين نايف ذياب (جدل الأفكار)، فردَّ عليه سعيد فوده بكتاب (الانتصار للأشاعرة)، وجاء سعيد فودة بالنكير الشديد على السلفية الوهابية، حتى إنه سماهم بالتيميين نسبة إلى ابن تيمية، وألَّف فيهم (السلفية المعاصرة وأثرها في تشتيت المسلمين)!
الأشاعرة والسلفية.. الغلبة والسيادة لمن؟
الحقيقة أنه لا يمكن إغفال التيار السلفي الحاضر بصورته الوهابية، ودوره البارز على الساحة، ولعل الربع الأخير من القرن المنصرم هو الذي شهد بداية انتشار ذلك التيار وامتداده إلى مناطق كثيرة من العالم العربي والإسلامي؛ ساعده على ذلك الإمكانيات المادية الكبيرة الناتجة عن الطفرة النفطية الهائلة للدولة السعودية القائمة على فكر محمد بن عبد الوهّاب؛ الأمر الذي شجع على نشر الدعوة خارج الحدود التي نشأت فيها، وقد كان للوافدين إلى السعودية من العاملين والمدرسين والأكاديميين دور مهم في ذلك، كما ساعدت تلك الطفرة على نشر كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بصورة كبيرة، في عصر تطورت فيه وسائل الاتصال ووسائل الإعلام، وكذا وسائل النشر.
كل ذلك وغيره أسهم في انتشار واسعٍ وكبير للسلفية المعاصرة، بصورة جعلتها منافسًا قويًّا للمذهب الأشعري صاحب السيادة والهيمنة على الفكر الإسلامي والأوساط الكلامية في الجامعات الدينية السنية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
وإذا ما ثمَّنَّا الحضور السلفي على الساحة الفكرية، فإن ثمة أسبابا عدة تحول دون بلوغ هذا المذهب السيادة التامة وتحقيق الغلبة على المذهب الأشعري، يكمن أبرزها في الجمود الفكري والفقهي، وخاصة فيما يتعلق بالمستجدات الحياتية التي يفرضها الواقع المعاصر، والموقف السلبي من العقل والاجتهاد، وغياب الفكر السياسي وقضايا الأمة المصيرية، وفوق هذا كله الإصرار على خوض معارك قديمة لم يعد ميدانها ميدانًا أساسيًّا في حياة الأمة، تلك التي فرضت عليها النهضة الحديثة جدالات وتساؤلات من نوعٍ جديد.
هذه الجدالات وتلك التساؤلات التي فرضتها النهضة الحديثة، والتي تبحث عن إيجاد حلول لها، إضافة إلى مناقشة الوجوديين والماديين والعلمانيين، وغيرها من التيارات الفكرية المعاصرة التي لا تؤمن إلا بالعقل والمحسوس - تقصر دون مجابهته الحركة السلفية المعاصرة، ويمكن أن يتم ذلك على الوجه الأتم والأكمل للأشعرية، وللفكر الأشعري الذي يعتمد المنقول والمنطق والبحث والنظر العقلي، وخاصة إذا ما ظهرت رِدَّة فكرية نخبوية قوية تدعو إلى آراء المعتزلة العقلية وتجاوز الفكر الأشعري الوسطي!
------------------
باحث في الفلسفة الإسلامية
أهم مصادر الدراسة
- الأشعري: استحسان الخوض في علم الكلام، نشرها الأب يسوعي مع اللمع، حيدر أباد - الهند، 1344ه.
- الأشعري: الإبانة عن أصول الديانة، تقديم وتحقيق د. فوقيه محمود، دار الكتاب - القاهرة، ط 2، 1987م.
- ابن عساكر: تبيين كذب المفترى فيما نسب للإمام الأشعري، طبعة دمشق 1347ه
- السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح الحلو، دار إحياء الكتب العربية.
- ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر – بيروت، ط1، 1971م.
- ابن النديم: الفهرست، دار المعرفة - لبنان، 1978م.
- المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (خطط المقريزي)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الذخائر.
- مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007م.
- حسن محمود الشافعي: المدخل إلى دراسة علم الكلام، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1991م.
- جلال محمد موسى: نشأة الأشعرية وتطورها، دار الكتاب اللبناني – بيروت، ط1، 1975م.
- علي محمود عكام: نقد الأشاعرة للمذهب من القرن الرابع حتى نهاية القرن السابع الهحري، أطروحة ماجستير بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة.
- محمود سعيد حميدة: ظاهرة التحول في الفكر الكلامي عند الأشاعرة حتى نهاية القرن السابع الهجري، أطروحة ماجستير بكلية دار العلوم - جامعة القاهرة.
- خالد كبير علال: الأزمة العقدية بين الأشاعرة وأهل الحديث خلال القرنين 5-6 الهجريين، دار الإمام مالك، البليدة - الجزائر، ط1، 2005م.
- هنري كوربان: تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة نصير مروة وآخرون، ، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، ط2، 1998م.
- عبد الحميد مدكور: الأشعرية، مادة ضمن موسوعة الفرق والمذاهب في العالم الإسلامي، وزارة الأوقاف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة، 2007م.
- أحمد محمود صبحي: الأشاعرة، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، 1992م.
- حموده غرابة: أبو الحسن الأشعري، مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية – القاهرة، 1973م.
مدارك
01-07-2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.