في السوق الأسبوعية لمدينة المحمدية قصدتُ صباح ذات خميس المدرسة الإعدادية أحمد ابن أبي الضياف بمدينة المحمدية، عبر شارعها الرئيسي 7نوفمبر 1987، رفقة أحد زملائي في العمل وفي المسؤولية النقابية. ولمّا بلغْنا مدخل السوق الأسبوعية المُتمدّد في موقف الحافلات التابع للشركة القومية للنقل العمومي، استولى على أنظارنا مشهد غريب، استفزّ مشاعرنا، وخدش كرامتنا، فتسمّرنا في أماكننا نواكب فصوله في ذهول وفضول. أربعة من أعوان الكومندوس لفرقة التدخل السريع التابعة لمنطقة الأمن الوطني بفوشانة، يحلّون بالمكان على وجه السرعة، ويُوقفون سيارتهم في غير نظام على حافة الطريق المختنقة، غير مكترثين بشلّ حركة السير، ويندفعون مهرولين نحو كهل بدين من تجار السوق كان مشغولا بترصيف بضاعته وتنميق عروضه، وحالما يصلون إليه ينقضّون عليه، ينهشونه نهشا كما لو كانوا سباعا جياعا، يلكُمونه فيتثنّى، ويركُلونهُ فيتلوّى، ثم يطرحُونه بينهم أرضا، ويتولون دوسه في أماكن حساسة من جسده، ثمّ يُحكم أحدهم قبضته في رقبته ويظل يلطم رأسه على الإسفلت، وقد نزف أنفه من اللكم وتكدّم جبينه من اللطم، ثمّ يُقيّدون يديه إلى الخلف، وبعد ذلك يرفعُونه مرذولا ويدفعونه أمامهم مذلولا، يقذفونه برشّات أيديهم وزخّات أرجلهم، وحالما يبلُغون به سيّارتهم يرمونه كالجيفة داخلها، ويُغلّقون عليه الأبواب، ثمّ يُقلعُون في قيادة انفعالية مُنطلقين به إلى منطقة الأمن الوطني بفوشانة، مُخلّفين وراءهم موجة من الذهول والاستياء، لدى جمهور واسع من السُّوقة وبعض من السابلة. المسكينُ حين أغار عليه أعوانُ الأمن، لم يجدْ في نفسه حوْلا ولا قوة، ولم يلق في عموم المتفرّجين مُنجدا أو مُجيرا، فاستسلم لشهية جلاّديه الذين تباروا في النّيْل من جثته الثقيلة، وأذاقوه ألوانا من الأذى الجسدي والنفسي، وقدّمُوا في الوقت نفسه لنا نحنُ معشر الأشهاد، صورة مُعبّرة عن المدى الذي يُمكن أن يبلغه أعوان الأمن في انتهاك الحرمة الجسدية للمواطنين، وفي الحطّ من كرامتهم الإنسانية. عندما انتهى المشهدُ، خاض الجمهور في التحليل، وتباينوا في التأويل. أحدُ المواطنين غير بعيد عنّي علّق على الضحيّة بالقول: "لا شك أنّ ذلك الكهل قد قتل نفْسا بغير ذنْب" وقال آخرُ يُسايرُه في القول: "ربّما يكونُ رئيسا لعصابة خطيرة وقع كشفُ خيوطها للتوّ، قد يكونُ تاجر مُخدّرات" وقال ثالثُ يُخالفهما الرأي: "أنا أعرفُ جيّدا ذاك الكهل، إنّه فلانُ بن فلان، هو عائلُ عائلة يُسخّر أيامه وبعضا من لياليه في كسب القوت، وما وقع اليوم، لم أجدْ له تفسيرا" وقال رابعُ في حذر كأنّي به يحتجّ: "أيّا يكن الذنبُ المقترفُ، وأيّا يكن السببُ المكتنفُ، لا شيء يبرّرُ تصفية الجسد وكسر النفس، لأنّ المحاكم وحدها مُخوّلة لتقويم الأخطاء ومؤهلة لتقرير الجزاء". أما أنا وزميلي، فقد ازددنا في الأمر استغرابا واندهاشا، حين وجدْنا الضحيّة في اليوم الموالي جالسا بمقهى النسيم الواقع على شارع 7نوفمبر 1987 وآثارُ الغارة الأمنية بادية على وجهه، ممّا يعني أنّه لم يرتكبْ جُرما من شأن أعوان الأمن أن يبرّروا به انتهاكهمْ لحُرمته الجسدية والمعنوية. يتبع جيلاني العبدلي: كاتب صحفي