صدر بالرائد الرسمي: إحداث قنصلية عامة للجمهورية التونسية بمدينة بنغازي شرق ليبيا..    شنوّة بش يقرا ولدك في التاسعة أساسي؟ دليل الكتب لسنة 2025-2026    الرابطة المحترفة الاولى : شبيبة العمران تعلن عن تعاقدها مع 12 لاعبا    لبنان يغيّر اسم شارع حافظ الأسد إلى زياد الرحباني    ماء الليمون مش ديما صحي! شكون يلزم يبعد عليه؟    عاجل/ بعد اتهام سائحة بريطانية لمرافقها على المظلة الهوائية بالتحرش بها جنسيا: نقابة القواعد البحرية للتّنشيط السّياحي تفجرها وتكشف..    عاجل - يهم التونسيين : فرصة عمل في الكويت    مصر.. الداخلية تنفي صحة فيديو إباحي "لضابطي شرطة"    عاجل: أمريكا تضرب البرازيل بداية من اليوم برسوم جمركية جديدة    80 سنة تعدّت على جريمة هيروشيما: أول قنبلة نووية في التاريخ... أما تعرف شنية الحكاية؟    عاجل: خبير يصرح....براكين نائمة في تونس والمنطقة العربية وقد تتحوّل إلى تهديد حقيقي    وسط تنديد فلسطيني.. مايك جونسون يزور الحرم الإبراهيمي    مكاتب التشغيل تبدّل النظام: ما عادش لازم تمشي، الكل ولى أونلاين    أوساكا تتأهل إلى قبل نهائي بطولة كندا المفتوحة للتنس وشيلتون يُسقط دي مينو    عاجل : وفاة بطل كأس العالم مع منتخب ألمانيا    آيك أثينا يتعاقد مع الصربي لوكا يوفيتش    حرارة معتدلة ورياح شرقية: شنوّة يستنا فينا نهار 6 أوت؟    جريمة مروعة تهز هذه الولاية..والسبب صادم..#خبر_عاجل    المنظمة الدولية للهجرة تدعُو إلى معالجة مخاطر الهجرة غير الشرعية..    بلطي، يروي هموم الشباب وقضايا المجتمع ويصنع الفرجة على ركح المسرح الصيفي سيدي منصور بصفاقس    اتهام بالتحرش بسائحة بريطانية في سوسة: كاتب عام نقابة التنشيط السياحي يوضح ويدعو إلى مقاضاة الادعاء بالباطل    فرنسا: حريق ضخم يلتهم آلاف الهكتارات بجنوب البلاد    الهياكل العظمية الحية" تشعل الخلاف بين إسرائيل وفلسطين في مجلس الأمن    طقس الاربعاء: الحرارة في ارتفاع طفيف    نصف قرن من الفنون... والكرّاكة ما زالت تنبض من 15 إلى 31 أوت الجاري    ولاية اريانة: جلسة عمل لمتابعة تقدم إنجاز مشروع إعادة تهيئة المسلخ البلدي برواد    مهرجان قرطاج الدولي 2025: الفنان "سانت ليفانت" يعتلي ركح قرطاج أمام شبابيك مغلقة    مستقبل القصرين.. انهاء التعاقد مع ماهر القيزاني بالتراضي    عاجل/ جريمة مروعة: شابين يقتلان صديقهما حرقا..وهذه التفاصيل..    تاريخ الخيانات السياسية (37) تمرّد زعيم الطالبيين أبو الحسين    استراحة صيفية    غدا انطلاق موسم التخفيضات .. صولد غير جاذب للتاجر والمستهلك!    أضرار فلاحية في القصرين    تراجع نسبة التضخم في تونس خلال جويلية 2025 إلى 5.3 بالمائة    الرابطة المحترفة الاولى - طارق جراية ينسحب من تدريب مستقبل قابس    اللجنة الأولمبية التونسية تحتفي بالبطل العالمي أحمد الجوادي بعد إنجازه التاريخي في مونديال سنغافورة    طقس الليلة    قابس: وفاة شخصين وإصابة 7 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة في حادث مرور بالطريق الوطنية رقم 1 بمارث    وزارة الشؤون الدينية تكرم مكتب حجيج تونس    الترجي الجرجيسي ينتدب المدافع مكرم الصغير    مهرجان سيدي بومخلوف الدولي : "الكاف تغني صليحة" عرض رائع امتع الحضور    زغوان: رفع 163 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية المنقضي    الفرص التصديرية غير المستغلة على مستوى السوق الهندية تقارب 214 مليون دولار    دبور يرشد العلماء ل"سرّ" إبطاء الشيخوخة..ما القصة..؟!    شنوّا يلزمك باش تاخذ قرض من بنك في تونس؟    عاجل- في بالك اليوم أقصر نهار في التاريخ ...معلومات متفوتهاش    عاجل: وفاة فنان مصري مشهور داخل دار المسنين بعد صراع مع المرض    مسؤول يوضح: ''لا اختراق شامل لمنظومة التوجيه... والتحقيق متواصل''    تأكلها يوميًا دون أن تعلم: أطعمة تقلل خطر السرطان ب60%    تُعطّس برشا ومكش مريض؟ هاو علاش!    التراث والوعي التاريخيّ    جامع الزيتونة ضمن سجلّ الألكسو للتراث المعماري والعمراني العربي    فنان الراب العالمي بلطي يروي قصص الجيل الجديد على ركح مهرجان الحمامات    حملات لوحدات الشرطة البلدية تسفر عن القيام ب 54 عملية حجز    بنزرت/ حجز 5,45 طن من مادة الدلاع وإعادة ضخها في المسالك القانونية..    اكتشاف علاج واعد لأحد أخطر أنواع سرطان الدم    سعيد يجتمع بعدد من الوزراء ويؤكد على اهمية اصلاح التربية والتعليم    تاريخ الخيانات السياسية (36) ..المعتزّ يقتل المستعين بعد الأمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل سيكون الانفجار الشعبي سبيل التغيير؟ : راشد الغنوشي
نشر في الفجر نيوز يوم 10 - 08 - 2009

مما غدت تعرف به المنطقة العربية أنها وضع استثنائي في موازين الحكم الديمقراطي الذي اجتاحت رياحه كل القارات وبالخصوص بعد انهيار المعسكر السوفيتي حتى أدرج هذا الاستعصاء الديمقراطي هنا في عداد الحتميات وقوانين الكون، ونسب ذلك إلى الإعاقة التي رسخها الإسلام في الموروث الثقافي!، استنادا إلى حجة الواقع، حيث ظل مسار الديمقراطية هنا لا يكاد يتقدم خطوة حتى يتراجع خطوات ضد اتجاه سير العالم، فما الاسباب والعلاج لهذه الإعاقة؟
1- تعدّ التنمية السياسية -التي هي قيام النظم السياسية على أساس مبدأ المواطنة وما يقتضيه من مساواة، وعلى أساس حكم القانون وعلويته، وعلى المشاركة بديلا عن الانفراد، وعلى احترام حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني ومبادئ العدالة واستقلال القضاء وتداول السلطة عبر انتخابات تعددية دورية نزيهة واحترام حقوق الأقليات والنساء، وخلاصة ذلك قيام الحكم الرشيد، الحكم الديمقراطي- أساس التقدم وعنوانه في هذا العصر.
"
إقامة نظم ديمقراطية حققت تداول السلطة سلميا عبر انتخابات تعددية نزيهة، ومنها دول تدين بالإسلام مثل السنغال وغامبيا.. يعفي الإسلام من تهمة التسبب في نشر السحابة الدكتاتورية السوداء التي تخيم على بلاد العرب
"
وكما أنه لا توجد جامعة عربية من بين الجامعات الخمسمائة الأولى في العالم، لا يوجد نظام عربي واحد مندرجا ضمن أكثر من مائة نظام ديمقراطي في العالم. هذه واقعة.
2- لقد فشلت كل محاولات ربط هذا الاستثناء العربي بمستوى معين من تدني متوسط الدخل الفردي العربي أو بمستوى التعليم، وذلك بوجود نظم في أفريقيا وغيرها أشد تأخرا، ولم يعقها ذلك عن إقامة نظم ديمقراطية حققت تداول السلطة سلميا عبر انتخابات تعددية نزيهة، ومنها دول تدين بالإسلام مثل السنغال وغامبيا.. وهو ما يعفي الإسلام من تهمة التسبب في نشر السحابة الدكتاتورية السوداء التي تخيم على بلاد العرب، رغم أن حكام الجور حاولوا من قديم التخفي والتسربل بالإسلام لتسويغ تألّههم وتعطيلهم لنظام الشورى بدءًا بالأمويين مدعين أن أيلولة السلطة لهم لم تكن بمكرهم، وإنما بقدر إلهي كوني!، ولكن الأمة لم تصدق فريتهم ولا خلفاءهم وظل السيف مشهرا في وجوههم كلما أمكن ذلك، بعد أن فشل الفقهاء في تطوير مبدأ الشورى إلى نظام سياسي، بآليات إجرائية محددة، تؤثم تارك الشورى أشد من تارك الصلاة، المهمة التي أنجزها التقدم الغربي عبر آليات الديمقراطية، وتجهّمها بعضنا تجهّم المريض للدواء.
إن دينا يجعل محوره عقيدة التوحيد والكفر بالطاغوت "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى" 2/255، ويشن حربا لا هوادة فيها على الفراعين والقوارين ويجعل الجهاد ضدهم سنام تعاليمه ويحرض أهله على تحرير المستضعفين ويجعل نيل الشهادة أسمى أماني أهله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساس الخيرية فيهم، من العسف أن تنسب له أي تبعة في قيام دكتاتوريات أو استمرارها.
3- معنى ذلك أنه ينبغي البحث عن أسباب هذه الإعاقة والإفلاس في تحدي رهان التقدم: بناء نظام ديمقراطي، خارج مشجب الثقافة وما في الرؤوس من فكر وقيم، مظان البحث كامنة في الواقع الدولي والمحلي:
أ- هناك إعاقة خارجية تتمثل في وجود ميزان قوة عسكري واقتصادي وإعلامي مائل منذ مائتي سنة في الأقل لصالح أعداء أمتنا، يحول بينها وبين تحقيق طموحاتها النهضوية في التوحد والنهوض. لقد مزقوا صفها وأقاموا أساطيلهم وحكاما تابعين معزولين عن شعوبهم حراسا لتلك التجزئة والأوضاع المهينة. ومن ذلك غرزهم في القلب، الخنجر الإسرائيلي.
إن استمرار هذه التجزئة وهذا النهب لمواردنا كاستمرار هذه النظم الدكتاتورية المعزولة عن شعوبها واستمرار الكيان الصهيوني وتوسعه وغطرسته، وكل ذلك ضد إرادة شعوبنا، مرتهن باستمرار استبعاد شعوبنا من الحكم. وما حدث في فلسطين من فرض الحصار على حكومة حماس المنتخبة بشهادة كل العالم ومن قبل ذلك، رفض انتخابات الجزائر ودفع ذلك البلد الكبير إلى الدمار، وحصل الأمر نفسه في تونس بدعم مطلق من النظام الدولي، شاهد على حقيقة العائق الغربي في طريق دمقرطة المنطقة العربية. بينما أقدار من الديمقراطية مسموح بها خارج هذه الساحة ساحة الصراع العربي الإسرائيلي مثل تركيا، وهو ما يفرض أن يكون طريق الديمقراطية في هذه المنطقة يمر ضرورة بتحرير فلسطين والتحرر من النفوذ الغربي.
إذا كانت الديمقراطية في شرق أوروبا أتت بأنظمة شديدة التبعية للولايات المتحدة، فإن الديمقراطية في بلاد العرب ستأتي بأنظمة على رأس أولوياتها تحرير فلسطين وتوحيد المنطقة وتوظيف ثرواتها لصالح أهلها.
الديمقراطية في فلسطين أتت بحماس وفي الجزائر بالجبهة وفي مصر لن تأتي بغير الإخوان بما يمثل تهديدا حقيقيا لما يعتبر حتى الآن مصالح غربية مطلقة على رأسها أمن إسرائيل ونهب الثروات وحراسة التجزئة.
"
الإعاقة الداخلية للديمقراطية في منطقتنا تتمثل في تمزق عالم النخب، بأثر ما خلفه الغزو الغربي من أفكار وتيارات وبأثر مواريث ثقافة الملل والنحل والتشظي الفرقي والمذهبي وهو ما ذهب بالإجماع الضروري لكل اجتماع
"
ب- أما الإعاقة الداخلية فتتمثل في تمزق عالم النخب، بأثر ما خلفه الغزو الغربي من أفكار وتيارات وبأثر مواريث ثقافة الملل والنحل والتشظي الفرقي والمذهبي وهو ما ذهب بالإجماع الضروري لكل اجتماع.. عالم النخبة ممزق بين إسلاميين وعلمانيين وبين إصلاحيين وتقليديين وبين سلفيين وصوفيين وسنة وشيعة.. بينما التحول الديمقراطي يشترط ولا بد عملا فكريا وسياسيا يعيد الإجماع الغائب إلى عالم النخبة حتى تتشكل منها ما سماه بعض الفلاسفة بالكتلة التاريخية التي تقود مشاريع نهوض الأمة، وفي مقدمتها تحرير إرادتها من التسلط الأجنبي وعملائه المحليين وتضعها على طريق التوحد والنهوض.
وليس ذلك بعسير إذا تراضى الجميع على الإسلام والعروبة والحرية للجميع ومبدأ المواطنة أساسا لاستعادة الإجماع وبناء الجماعة السياسية والكتلة التاريخية التي تتحرر من أي نزوعات الوصاية والتعالي على الناس وإغراءات الإقصاء والتسلط وتجعل هدفها الأعلى التصدي للاحتلال وللتجزئة وللنفوذ الخارجي وللاستبداد، بسطا للعدل وللحرية. ويمكن في هذا الصدد اعتبار "اللقاء المشترك" في اليمن نموذجا يعبر عن حكمة يمنية معتبرة، جامعا بين أوسع مكونات الاجتماع اليمني.
4- لقد جربت في المنطقة كل أساليب العلاج لداء الاستبداد الراسخة تقاليده، فما أجدى شيء منها. فقد أحكمت الأنظمة القائمة إيصاد كل سبل التغيير: السلمي منها والعنيف، فزيفت الانتخابات والتعددية وأفرغتهما من كل محتوى تداولي للسلطة . وحتى في الحالات القليلة التي سمح فيها للمعارضة بما فيها الإسلامية بالحصول على بضعة مقاعد في المجالس النيابية، وحتى بالمنّ عليها ببعض الوزارات، لم يغير ذلك شيئا من جملة السياسات الاقتصادية والثقافية والخارجية، بل تعذر أحيانا على الكتلة الإسلامية في مجلس الشعب المصري حتى السماح لها بمجرد إدراج بعض المسائل المهمة ضمن جدول الأعمال لمجرد المناقشة، بل تم تمرير سياسات نكوصية عن برنامج التعريب القائم في ظل مشاركة إسلاميين في السلطتين التشريعية والتنفيذية في الجزائر، بما طرح السؤال: هل المشاركة البرلمانية وحتى التنفيذية هي في كل الأحوال سبيل للتغيير أم أنها تغدو أحيانا عقبة أخرى في طريقه وتقديم مزيد من المسوغات لاستمرار الواقع الذي يزداد تعفنا؟
5- أما سبيل التغيير عن طريق الأعمال المسلحة فإنه رغم إغراءاته بالتغيير السريع فإن جملة حصاده خلال ربع القرن الأخير -على الأقل- كارثية، لدرجة أن الأنظمة غدت تنسج على منواله لتشويه صورة خصومها ولتسويغ استمرار قوانين الطوارئ وتحكم رجال الأمن وتكميم الأفواه وكبح كل دعوة للإصلاح بذريعة التصدي للإرهاب. لقد نجحت الأنظمة في قمع التمردات المسلحة ولم تترك أمامها غير سبيل التوبة والاستسلام.
"
تمكنت أنظمة القمع والنفاق أيضا إلى حد بعيد من العبث بعملية التغيير عبر مؤسسات المجتمع المدني, غير مترددة في هش عصاها في وجهها وحتى ضربها على نافوخها للإجهاز عليها أو لإصابتها بشلل دائم، كما حدث في تونس والمغرب
"
6- أما التغيير عبر مؤسسات المجتمع المدني فقد تمكنت أنظمة القمع والنفاق أيضا إلى حد بعيد من العبث به، غير مترددة في هش عصاها في وجه تلك المؤسسات وحتى ضربها على نافوخها للإجهاز عليها أو لإصابتها بشلل دائم، كما فعلت سلطة البوليس مع الحركة الطلابية في تونس ومع أعرق وأقوى منظمة نقابية، عن طريق إغواء قطاع من النخبة الانتهازية، وقريب من ذلك حصل في المغرب.
وأنكى من ذلك ما عمدت إليه أنظمة القمع في زمن صعود شعار منظمات المجتمع المدني من النسج على نفس المنوال بالإيعاز إلى زبائنها ببعث مئات بل آلاف من الجمعيات الموازية لحقوق الإنسان وأخرى للبيئة وللطفولة ولكل شيء، بما ملأ الساحة وفاض.
7- أما الضغوط الخارجية من أجل حمل أنظمة القمع والانفراد على الانفتاح فقد نجحت في مقايضتها بالمزيد من التنازلات للخارج عما تبقى من الاستقلال كالاستعداد للتطبيع مع الصهاينة، أضمن وأقصر طريق إلى القلب الغربي. وبالأمس القريب وصف الرئيس الفرنسي نظاما بوليسيا غاشما في شمال أفريقيا بالمبدع في الحداثة والتصدي للأصولية. أما أوباما فقد طمأن الأنظمة الدكتاتورية جاعلا أولويته استقرارها مقابل إقدامها على خطوات تطبيعية ومشاركتها في الضغط على إيران لتطويعها أو تدميرها. فماذا يبقى من أمل في التغيير الديمقراطي بعد كل ذلك؟
8- ليس في ذلك ما يبعث على اليأس، فاليأس ضرب من الكفر "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" يوسف. وفي الحديث "ما خلق الله داء إلا وخلق له دواء"، والاستبداد ولا شك أفدح البلاء وأشد الداء على أمة محمد عليه الصلاة والسلام الذي كان من أعظم مقاصد رسالته رفع الآصار والأغلال عن البشرية "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" 7/156.
وإذا كان الإسلام صالحا لكل زمان ومكان وهو كذلك، وإذا كان قد جعل عنوان رسالته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى عمارة الأرض بالحق والعدل وتطهيرها من الظلم والعدوان، والجهاد بكل أنواعه السياسي والإعلامي والاقتصادي والقتالي والتربوي السبيل لإقامة الحق، كلاّ في موضعه، بدءا بالأيسر فالأيسر، فالواجب على دعاة الإسلام وعلمائه ومفكريه أن يتفكروا في حصائل تجارب التغيير وبالخصوص في زمننا ليستخرجوا من قصصها العبرة. وهي تتلخص فيما يلي:
أ- إنه لئن أثبت الجهاد القتالي في تجاربنا الحديثة فعالية كبرى في التصدي للاحتلال الأجنبي فتحرر عالم الإسلام من رجس الجيوش الأجنبية عدا مواطن قليلة تتلقى ضربات المجاهدين، فقد كان فشله في معالجة آفة الاستبداد والظلم ذريعا بل كارثيا، بما يفرض وبخاصة في ظل التوازنات الدولية القائمة سد هذا الباب، قولا واحدا، ولذلك أحسنت صنعا الجماعات الإسلامية التي أقدمت على مراجعة فكرها وخططها فأعرضت عن الجهاد القتالي سبيلا للتغيير، فالعودة إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
"
بقدر ما كان الجهاد في التصدي للاحتلال مثمرا مباركا بقدر ما كان كارثيا على المسلمين وعلى صورة الإسلام ودعاته في العالم، إذ استخدم في غير موضعه، سبيلا لتغيير الأنظمة أو لإعلان حرب شاملة على العالم، كما تفعل جماعات القاعدة
"
إنه بقدر ما كان الجهاد في التصدي للاحتلال مثمرا مباركا بقدر ما كان كارثيا على المسلمين وعلى صورة الإسلام ودعاته في العالم، إذ استخدم في غير موضعه، سبيلا لتغيير الأنظمة أو لإعلان حرب شاملة على العالم، كما تفعل جماعات القاعدة.
ب- وقريب منه سبيل الانقلابات العسكرية فلم يكن حصادها أقل مرارة من سبيل جماعات العنف. ويمكن القول باطمئنان إن وضع العالم العربي قبل موسم الانقلابات في الخمسينيات والستينيات، كان أقل سوءا مما آل إليه في ظلها. ولقد أحسن شعب موريتانيا صنعا إذ تصدى لانقلابين خلال سنتين فارضا على القائمين بهما التنازل عن السلطة لصالح الشعب، ورفض تخويلهم أي شرعية حتى يعيدوا الأمانة إلى الشعب صاحبها. وهو درس مهم ينبغي أن يظل حاضرا باستمرار للتعامل مع أي انقلابي: تتكتل قوى المعارضة في مواجهته وتعلن عدم شرعيته حتى ينزل عند حكم الشعب.
ج -إن سبيل المشاركة السياسية في ظل الأنظمة السلطوية القائمة سواء في مستوى المجالس النيابية أو في المستوى الحكومي لئن ضمن للمعارضة إسلامية أو غيرها حق البقاء ونأى بها عن المواجهة وأفسح أمامها بعض فرص العمل الدعوي، فليس دائما هو السبيل لتحقيق الأهداف العليا في التغيير والإصلاح الشامل الذي تتطلبه أوضاع قائمة تغلغل فسادها حتى النخاع، بل قد تكون المشاركة في ظل مثل هذه الأوضاع ليست في المحصلة سوى مشاركة في الغنيمة وضرب من التخدير وعقبة أخرى في طريق التغيير، دعما لواقع الظلم والتسلط على الجماهير ونهب الثروات والتفريط فيما تبقى من استقلال، بل قد ينتهي إلى تمييع المعارضة ومنها الإسلامية وتحويلها من قوة تغيير إلى عامل تخدير، فتنفصل عن الجماهير لتتحول جماعة مصالح دنيوية فينفرط عقدها تنازعا حول منافع الدنيا وتنافسا على التقرب من المستبد عودا إلى قصة فقيه السلطان، كما أخذ يبرز مع بعض التجارب الإسلامية في المشاركة.
9- تظل هناك أبواب كثيرة للتغيير مفتوحة لعل أهمها التغيير عن طريق العمل الشعبي الجماهيري، ومن أبرز عناوينه العصيان المدني، وهو درجة من درجات النهي عن المنكر: المقاطعة، وكانت المسيرة التي قامت بها المجموعة الإسلامية الأولى، صفين قاد أحدهما حمزة والثاني عمر، في اتجاه الكعبة سابقة مهمة. ويندرج في هذا كل عمل يتجه إلى الإنسان بالتوعية لإخراجه من خويصة ذاته وتجديد الأمل والثقة في إمكاناته الذاتية وتربيته على العمل الجماعي ومقاومة الظلم عبر كل الطرق السلمية من الكلمة والمنشور والإضراب والتظاهر والمقاطعة.. غيث تتجمع قطراته لتتحول مجرى عظيما تقوده تجمعات وجبهات تبلور شعاراته وأهدافه، بما يضطر الاستبداد إلى الاستجابة لمطالبه أو يجرفه التيار.
ومن هذا الطريق جاءت التحولات الديمقراطية التي حصلت خلال ربع القرن الأخير في أوروبا الشرقية ومواطن كثيرة.. وإرهاصات ذلك قائمة في أكثر من بلد عربي بأثر سياسات النهب المحلية والدولية على شعوبنا، وبأثر تصاعد الغضب على تخاذل الحكام إزاء قضية الأمة المركزية قضية فلسطين والاستسلام للمخططات الصهيونية الغربية، فجاءت بأثر كل ذلك التحركات الشعبية السنة الماضية، من سيدي إفني بالمغرب، وهو ميناء لتصدير الأسماك، بينما أهله محرومون من الضروريات.. إلى انتفاضات في أكثر من مدينة جزائرية احتجاجا على أوضاع اجتماعية مهينة في بلد يفيض بالخيرات.. إلى انتفاضة حوض المناجم في تونس التي مثلت أكبر وأطول انتفاضة في أي منطقة تونسية، حيث تصدر ثروة الفوسفات إلى العالم بينما تفشو البطالة ويتسع الفقر في أبناء المنطقة لدرجة لجوء عشائر إلى الهجرة الجماعية إلى الجزائر وقد عضتهم المسغبة.. إلى أحداث المحلة الكبرى وغيرها في مصر حيث بلغ عجز النظام ونهب ثروات البلد الطائلة من قبل حكومة رجال الأعمال درجة سقوط ضحايا أمام المخابز.. إلى أحداث الجنوب اليمني احتجاجا على ما تعرضت له منطقتهم من نهب حيث ساد منطق الغنيمة عقب سقوط حكم الانفصال، فضلا عن الانتفاضة المسلحة في الشمال، بما عرّض استمرار الكيان الأمني ذاته للخطر وفتحه أمام ذوي الأطماع.
10- المسألة الاجتماعية، مضافة إليها المسألة الفلسطينية، عاملان أساسيان ورافعتان مهمتان للتغيير، مرشّح أثرهما ليتضاعف أمام تصاعد وتيرة النهب الدولي وشركائه المحليين وانعكاسات الأزمة الاقتصادية الدولية وإمعان المشروع الصهيوني في مخططاته التهاما لما تبقى من فلسطين وتصفية القضية جملة. فرص كثيرة للتغيير في الآفاق ربما لا تتكرر، يضعها القدر بين يدي قوى التغيير، يعين عليها وضع دولي مهتز مرهق بمعالجة أزماته الخانقة، فهل من لاقط؟
المصدر: الجزيرة
10.08.2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.