يعتبر عبدالرحمن بن خلدون الحضرمي الأصل، التونسي الولادة (سنة 732ه) المغاربي النشأة والأندلسي الهجرة صاحب سبق في وضع أساسيات لنظم العمران. ما يلفت النظر في توجهه العمراني هو الموقع الذي يوليه للتربية في الظاهرة العمرانية بما يتيح القول إن أحد أبرز وجوه التمدن في الحضارة الإسلامية مرتبط عنده بصورة عضوية بالنظام التربوي. بذلك جاز أن نقول إن المؤسسة التربوية تعدّ عامل مناعة وإبداع في كل تجمع متمدن واعٍ بأهمية المؤسسات المجتمعية والثقافية ومقدّر لخطورتها عند مواجهة المصاعب الكبرى والتصدي بنجاح للتحولات التاريخية. من ذلك الوعي وما يستتبعه من تنظيمات وإجراءات تتولد فاعلية الأفراد وحيوية الجماعات وتتمكن النخب من الإجابة السديدة عن التساؤلات العميقة التي لا تفتأ تُطرح عن الهويّة الفردية والجماعية وعن عوامل التوقف الإبداعي الذي يهدد الكائنات البشرية. كانت هذه المعاني التي قد تبدو معاصرة وغير متاحة للقدامى حاضرةً بشدة لدى ابن خلدون لجملة من الاعتبارات من أهمها منهجه الاستقرائي الطبيعي والعمراني الذي مكّنه من الوقوف على خصائص التركيب الإنساني وعلى دواعي تمدن المجتمعات الإنسانية. إلى جانب ذلك استفاد ابن خلدون ممن سبقه ممن اعتنوا بالمعضلة التربوية من علماء الأندلس خاصة ومن أهمهم القاضي أبو بكر بن العربي الذي كان قد خص منهاج التعليم لدى الأندلسيين بالبحث والتحليل. أشار إلى ذلك ابن خلدون في «المقدمة» حين قال: «لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وبدأ وقدّم تعليم العربية على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس». ذكر القاضي ابن العربي في كتاب «أحكام القرآن» أن لأهل الأندلس خاصية تميّزهم عن سائر المغاربة في تعليم الصبيان. قال: «وللقوم في التعليم سيرة بديعة وهو أن الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب»، أي أنه لم تكن هناك سنّ محددة لتلقي العلم, بل الأمر يظل متروكا لنضج الصغار وتقدير آبائهم حرصاً على نجاعة المؤسسة التربوية وسعيا إلى أمثل انتفاع بها. يضيف ابن العربي بعد ذلك ما يزيد في تبيان الخصوصية الأندلسية في التعليم زمن الرقي, موضحا ما تواضع عليه القوم من منهج يربي العقول أساسا. يقول: «فإذا عبر (الصبي) المكتب أخذه بتعلم الخط والحساب والعربية فإذا حذقه كلّه أو حذق منه ما قُدِّر له خرج إلى المُقري فلقّنه كتاب الله فحفظ منه كل يوم ربع حزب أو نصفه أو حزبا حتّى إذا حفظ القرآن خرج إلى ما شاء الله من تعليم العلم أو تركه». ذلك كان القدر المشترك بين صغار الأندلسيين في طور التمدن وذلك بالحرص على إيلاء العلوم العقلية منزلة متقدمة عن العلوم النقلية. هذا ما يعلن عنه صاحب «أحكام القرآن» حين يقول بعد ذلك: «ومنهم (صغار المتعلمين) وهم الأكثر، من يؤخر حفظ القرآن ويتعلم الفقه والحديث وما شاء الله فربما كان إماما وهو لا يحفظه وما رأيت بعيني إماما يحفظ القرآن ولا رأيت فقيها يحفظه إلا اثنين». ثم يقدم ابن العربي محصلة كل هذا المنهج معروضا إلى جانب المعضلة التربوية كما آلت إليها الأحوال في عصره قائلا: «ذلك لتعلموا أن المقصود (عندهم) حدودُه (القرآن الكريم) لا حروفُه وعُلِّقت القلوب اليوم بالحروف وضيعوا الحدود خلافا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم». ينطلق ابن خلدون من هذا التشخيص الذي يحدد طبيعة المعضلة التي واجهها المسلمون زمن التراجع الحضاري والمتمثلة في تعلق النظام التعليمي بالعرضي وإهمال الجوهري. يرى صاحب المقدمة أن في ذلك مؤشرا قويا ينذر بخلل فادح في سلّم القيم التربوية والحضارية لذلك خصه بعناية في الشرح والتحليل. يبدأ بالتعرض لما كان سائدا لدى أهل المغرب من اقتصار على تعليم القرآن فقط وما يرتبط به من رسم وما تتفرع عنه من مسائل، «لا يخلطون ذلك بسواه»، أي أن الرؤية المؤسسة للتعليم عندهم تعتبر حفظ القرآن أصل المعارف وغايتها. من ثم كان اهتمام الصغير بالفقه والشعر والحساب محدودا أو منعدما مما يؤدي بالمتعلم الذي اقتصر تحصيله على حفظ القرآن ورسمه عند انقطاعه عن التعلم إلى أن ينقطع عن العلم بالجملة. ثم يقارن هذا التوجه بما ساد لدى الأندلسيين الذين لا يختلفون عن المغاربة في اعتبار القرآن أصل التعليم وأساسه, إلا أنهم لهذا السبب بالذات لا يقتصرون عليه فقط «بل يخلطون في تعليمهم للولدان روايةَ الشعر في الغالب والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب». من هذا التوجه التعليمي المتكامل الجامع بين العلوم الدينية والعلوم اللغوية والآداب والفنون تتسع آفاق المتعلم وتتنوع ملكاته واستعداداته. أما أهل إفريقية فمذهبهم التعليمي أقرب إلى ما درج عليه الأندلسيون لأن «سندَ طريقتهم في ذلك متصلٌ بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك». هذا التنوع في مناهج التعليم في زمن ابن خلدون أدّى به إلى ترجيح المنهج الأندلسي لأن الاقتصار على حفظ القرآن يفضي إلى «القصور عن ملكة اللسان جملة» وإلى قلة الحذق في العلوم المختلفة وقصور الهمة المبدعة في الفنون والمعارف. يدعم صاحب المقدمة هذا الرأي بقوله إن «القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لأن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله» فلا ينشأ نتيجة ذلك إلا الاحتذاء بأساليبه «ولا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرّف في الكلام». هذا ما يجعل النص الخلدوني التربوي موجها إلى تقديم الحدود والمقاصد على الحروف والأشكال وما يستتبعه ذلك من تكامل المعارف الدينية مع غيرها من العلوم. هو من هذا الوجه يعد نصا معاصرا لأنه يلتقي مع ما أصبح يعرف اليوم بالتكامل المعرفي الذي يتيح للمتعلم رؤية أوسع للعالم, وعمقا أكبر في الوعي بالذات, وحذقا أشد عند مواجهة غربة الإنسان في عالمه, وما ينجم عن ذلك من المعضلات المؤذنة بزوال الحضارة. العرب القطرية 2009-08-27