مبادرة «ميبي» دفعت ضريبة السياسة الأميركية اللاشعبية في المنطقة رشيد خشانة عرضت «مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط» التي أطلقتها الخارجية الأميركية والمعروفة اختصارا ب»ميبي» المنظمات الأهلية في المنطقة. وأعلن أخيراً مكتبها، مقره في تونس، عن فتح باب الترشيحات للحصول على مساعدات موجهة للمنظمات المهنية والجامعات والهيئات غير الحكومية وجماعات النساء. وتصل المبالغ المُخصصة للعام الجاري إلى 3 ملايين دولار، أما حجم التمويل الممنوح للمشاريع الفردية فيُراوح بين 15 ألفا و25 ألف دولار للمشروع الواحد. وأفاد المكتب بأن «المبادرة» التي أطلقتها الإدارة الأميركية في كانون الأول (ديسمبر) 2002 منحت مساعدات زادت قيمتها عن 430 مليون دولار لتمويل 350 مشروعاً في 17 بلداً من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفتحت «ميبي»، ثلاثة مكاتب اقليمية الأول في تونس ويشمل لبنان وشمال أفريقيا والثاني في أبو ظبي وهو موجه لبلدان الخليج والثالث في القاهرة مُخصص لمصر. وأتى إطلاق المبادرة في أعقاب مراجعة تقويمية لعلاقات الولاياتالمتحدة مع العالم العربي التي ركزت طوال ستة عقود على التعاون مع الحكومات بصفتها قناة التخاطب الوحيدة مع المجتمعات المحلية، متغافلة عن المجتمع الأهلي. وتزامنت المراجعة مع صدور التقرير الأول للتنمية البشرية في العالم العربي عام 2002. وبرأي بيتر مولريان المدير الإقليمي لمكتب «ميبي» في شمال أفريقيا فرضت تلك المراجعة إحداث تغيير توخى طريقين متكاملين أولهما حض الحكومات على السير في نهج الحكم الصالح، والثانية تقديم مساعدة ملموسة للجماعات التي تعمل من أجل الإصلاح. ومن بين المشاريع التي رعتها «ميبي» تمويل إرسال مراقبين لمتابعة عمليات الاقتراع في فلسطين ولبنان واليمن ومصر، وقد شملت كذلك إرسال مراقبين من بلد عربي لمراقبة العمليات الانتخابية في بلد عربي آخر (اليمن). وامتد قوس التمويل إلى دورات تكوينية استفاد منها أعضاء أحزاب سياسية في المغرب العربي ولبنان والأردن، وإرسال خبراء إعلاميين إلى وسائل الإعلام المحلية لتدريبها على التزام القواعد المهنية والاستقلالية، ويستمر عمل الخبير ستة أسابيع ثم يعود بعد فترة للتأكد من مدى استيعاب النصائح التي قدمها. كما شملت البرامج تكوين البرلمانيين من خلال تنظيم موائد مستديرة وحوارات تكوينية شارك فيها نواب من اليمن وعمان والمغرب، وكذلك تكوين قضاة ونشطاء. وفي هذا المجال كان الجدال الذي دار في المغرب في شأن «مُدونة الأسرة» مناسبة لتلقي قضاة وعناصر من المجتمع المدني مثل ذلك التدريب. وفي تونس موَّلت «ميبي» ندوة أقامتها غرفة التجارة التونسية الأميركية حول موضوع تكريس حرية التبادل التجاري وأعطت مساعدات لمعهد الصحافة من أجل إنشاء صحيفة خاصة لطلاب المعهد. لكن واشنطن تسعى إلى معاودة النظر في وسائل التعاطي مع النخب العربية من خلال مراجعة وسائل «ميبي»، بسبب التجاوب المحدود الذي لقيته لدى المنظمات الأهلية العربية. وعلى رغم أن السياسات الأميركية في العراق وفلسطين هي السبب الأساس لتحفظ القيادات الأهلية العربية على التعاطي مع المبادرة، يعتقد الأميركيون بأن هامش العمل لتحقيق أهداف «ميبي» ما زال واسعا مستدلين بالأعمال التي تمت طيلة السنوات الأخيرة بالإشتراك مع منظمات محلية في بلدان، وأحيانا بمشاركة مؤسسات حكومية مثلما هو الحال في المغرب. في الوقت الذي أبدى كثير من الجمعيات والمنظمات الأهلية المستهدفة من «المبادرة» تحفظات صريحة على التعاطي معها. وخصص الكونغرس في السنوات الثلاث الأولى من عمر «ميبي» 253 مليون دولار لتمويل برامجها. إلا أن الرئيس بوش طلب من الكونغرس تخصيص 150 مليون دولار إضافية ضمن برامج المساعدات المالية الخارجية لسنة لعام 2005 لتمويل المشاريع المدرجة في إطار «ميبي»، لكن لوحظ أن الغالبية في المجلس لم توافق سوى على نصف تلك الإعتمادات. وطبقا لوثيقة تقويمية أصدرها مكتب تونس مطلع العام الماضي تنهض «ميبي» على أربع ركائز ترمي لإزالة عوائق التنمية من خلال ضمان المشاركة السياسية وإزالة القيود الإقتصادية وتحسين نوعية التعليم وتسهيل الوصول إلى المؤسسات التربوية وتثقيف النساء. لكن هل تُقبل النخب بشراهة على الشرب من بركة «ميبي» لإطفاء عطشها إلى الإمكانات المالية التي عادة ما تشكل عقبة تحد من نشاط الجمعيات الأهلية في العالم العربي؟ دروس من روسيا ما من شك بأن «ميبي» اختارت الإبتعاد عن القنوات الحكومية ويبدو أن الأميركيين استفادوا من تجاربهم السابقة في روسيا ويوغسلافيا السابقة حيث اقتصروا على الأدوات الرسمية أو لجأوا إلى وكالة التنميةUSAID والتي يعتبرون أهدافها مختلفة عن هدف مبادرة «ميبي». كذلك اعتمدوا في حالات ثالثة على منظمات أهلية محلية لا يستطيعون مراقبتها. لكن هذه المبادرة ابنة شرعية لوزارة الخارجية، فالحكومة الأميركية عهدت للوزارة بمشروع المبادرة من الألف إلى الياء واستطرادا ببرنامج المساعدات، ولذلك فلا شيء يمكن أن يُنجز من دون الخارجية. ويمكن القول إن «ميبي» باتت تشكل حجر الزاوية في تعاطي الإدارة الأميركية مع المجتمعات الأهلية العربية، إذ هي الشريان الذي يضخ مياه «الإصلاحات» من المنظور الأميركي في القنوات «التقليدية» العربية، علما أن الكونغرس هو الذي يوافق على الإعتمادات المقترحة لتمويل مشاريع «ميبي». وتعتبر الولاياتالمتحدة تلك الإعتمادات استثمارا بالغ الأهمية للأمن الإقليمي و»للتوصل الى مستوى من التقدم والإزدهار الإقتصادي يحققان للمجتمعات المعنية الإستقرار السياسي دعما للسلام». وهنا يجابه هذه المبادرة نوعان من الصعوبات الأول مع بعض الحكومات التي لا تخفي ضيقها من نشاطه، ويبرز في هذا المجال اسم تونس بقوة إذ يشعر العاملون في المكتب وكأنهم في حصار إذ قلما توافق الدوائر الرسمية على برنامج نشاط يعتزمون القيام به. أما الثاني فمع النخب الغاضبة من السياسات الأميركية في العالم العربي. وعلى رغم أن القائمين على «ميبي» يعلنون أن مشاريعهم ترمي لتوسيع فرص الحرية السياسية والإقتصادية وتحسين خدمة التعليم لسكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن المتجاوبين مع المبادرة ما زالوا قلة، وكثير منهم يشعر بالحرج من الإنخراط في هذا النوع من النشاط. غير أن مولريان يعتقد بأن الوضع تغير في السنتين الأخيرتين مؤكدا أن موقف النخب أصبح أكثر مرونة «لأن شركاءنا يدركون أين هي مصلحتهم ونحن لا نطلب منهم أن يحبونا». وفي هذا الإطار لا يخفي المسؤولون في «ميبي» ارتياحهم لحجم العمل الذي قاموا به في مصر ولبنان وكذلك في الجزائر التي ضاعفوا التمويلات المخصصة لها استعدادا لما يعتبرونه «آفاقا مفتوحة». وهم يعتقدون بأن الجزائريين «عاقدو العزم على التغيير، وهذه فرصة لنا لكي ننخرط في هذا المسار ونستثمر في الإصلاحات». لكنهم ينبهون إلى أن دورهم «لا يتمثل في اختيار الحكومات وإنما في الدفاع عن الحكم الصالح من دون التدخل في خيارات أهل البلد». سخاء من جانب واحد ويلقى هذا البعد بعض التجاوب لدى قسم من النخب التي تعتبر العمل على دفع المجتمعات العربية نحو الديموقراطية أمرا إيجابيا. ورأى السفير التونسي السابق أحمد ونيس أن فكرة «ميبي» تقوم على سخاء من جانب واحد، رابطا المبادرة بالطبيعة المنفتحة للمجتمع الأميركي ومؤكدا أن «مما يبعث على الأمل أن يكون برنامج المبادرة نشر الديموقراطية». غير أن القسم الأكبر من النخب مازال يرفض التعاطي مع «ميبي» لأنه يتوجس خيفة من المشاريع الأميركية ولا يثق بأهدافها. ومن الأمثلة على تلك المواقف المتحفظة رفض رابطة حقوق الإنسان التونسية (التي هي أقدم رابطة من نوعها في العالم العربي وأفريقيا) التعاطي مع «ميبي» على رغم قبولها مبدأ تلقي مساعدات من الإتحاد الأوروبي، وإن كانت السلطات تحول بقوة دون تلقيها أي نوع من الدعم. من هذه الزاوية يمكن القول إن مبادرة «ميبي» دفعت ضريبة السياسة الأميركية اللاشعبية في المنطقة. صحافي من أسرة «الحياة».