تكتسح العالم بنواحيه الأربعة ظواهر لا تليق بذلك المخلوق الذي كرّمه الله عزّ وجلّ وملائكته بالسجود له، يستدعي فيها هذا الإنسان بكل إفراط، وفقط الجوانب الماديّة في شخصيّته فينزلق بذلك إلى الانحراف في السلوك حيث تنتشر في العالم الآن الجرائم بأنواعها والشذوذ والمسكرات والمخدّرات والعلاقات الجنسية غير السّوية والدّوس على كل القيم من مراعاة الوالدين وتوقير الكبير واحترام المربّي والإحسان إلى الجار، ويزداد الحال سوءا بسبب تفشّي قيم الفردية التي تدفع بها الرأسمالية الجديدة إلى أقصى مدى إذ ترتفع نسبة عمليات التحيّل والاختلاس والسّعي إلى الكسب اللاّمشروع والسّريع بغية الاكتناز والاستهلاك ممّا لذّ وطاب وغلا ثمنه وندر وجوده لكي يشار بالبنان إلى صاحب أضخم قصر وأرفه سيارة وأترف الناس...ألخ. وتتقاسم الأقطار العربية هذا النمط من السلوك مع بقية أرجاء المعمورة ويسعى الإنسان العربي المثقل بالهموم وذي النفسية المنكسرة إلى الانزلاق إلى هذا الطريق إلى حدّ المسّ بالكرامة الشخصية بفعل التداين للظهور بمظهر القادر في محاولة يائسة للتعويض عن قرون طويلة من التهميش وعدم الاعتبار فيما تسعى الحكومات من خلال التوفير المثقل لموازينها وبالاستيراد المستنزف للعملة أحيانا وبالتوعية وبادإجراءات وقائية أخرى قانونية وجمركية واقتصادية ومالية أحيانا أخرى لتعديل هذا السلوك. ولئن يسرد لنا الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم قصصا عديدة يحذّر فيها من مغبّة الاكتناز في قوله بعد بسم الله الرحمان الرحيم" والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم". ويتوعّد فيها المترفين وينبه إلى خطورة ما يشيعونه من قيم تؤدي إلى تدمير الأمم في قوله تعالى "وإن أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليهم القول فدمرناها تدميرا" كما يشير في مواقع أخرى إلى سوء العاقبة في الحياة الدنيا التي تنتظرهم في سورة الكهف مثلا في الحوار الدائر بين رجلين، إذ يقول أحدهما:" أنا أكثر منك مالا وأعزّ نفرا" ويستمر على نفس الموقف بالرغم من تحذير محاوره له من مغبة العقاب وضرورة خشية الله فيما يقول، إلى أن يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر في قوله تعالى في سورة الكهف أيضا " وأحيط بثمره وأصبح يقلّب كفّيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربّي أحدا" وإلى سوء الدار الآخرة كذلك وهي أن يحشر الإنسان أعمى وقد كان في دنياه بصيرا، ويدعو بالقدر ذاته الذي يتوعد فيه المترفين إلى الاعتدال في الإنفاق" ولا تترك يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط..." وإلى التصدّق كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل وفي كل سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء" فوق هذا الوعد والوعيد يجعل الله من الصوم فريضة أبدية متجدّدة ذات أبعاد تربوية عميقة تؤهل هذا الكائن إلى تبوؤ المنزلة التي اختارها الله له كخليفة في الأرض يعبده ويسبّح بحمده " وما خلقت الإنس والجنّ إلاّ ليعبدون" "وإنا من شيء ألا يسبّح بحمده" ويبدأ هذا الدرس بتدريب الإنسان على التحكم والسيطرة على الرغبات المادية (الشهوات بأنواعها) التي يشترك فيها مع سائر المخلوقات تكريما له من جانب وإعدادا لتحميله الأمانة التي أبت السماوات والأرض أن يحملنها " وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" وإضعاف من جانب آخر لتأثير هذه الشهوات في رسم سلوكه العام ليرتقي بالتدرج سلم الإنسانية بالعمل الصالح والعبادة وصولا إلى مرتبة الصالحين بالمعنى الواسع للكلمة ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلّم أنفعكم الأنفع لعياله (لأمته) حيث تتنافس الأنفس في هذا " ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها". إذ تظهر الدراسات النفسية الحديثة إن التصرفات البشرية الشاذة من إسراف واختلاس وغش وبغاء وكل انحراف يعود في أغلبة إمّا إلى التعود على الإفراط في الاستجابة إلى الرغبات حدّ النزول بها إلى مستوى البهيمية أو كبتها إلى حدّ بلوغ مرحلة الانحراف عن الطبيعة لتنفجر في مرحلة معينة من العمر فيصعب عندئذ علاجها. بالصيام المتجدّد كفريضة تتعوّد الأنفس على كبح جماح جنوحها بالتعاطي بعقلانية بصفتنا مستهلكين مع كل ما توفره الطبيعة ذاتها من خيرات إشباعا للحاجة دون الوقوع تحت تأثير الدّعاية وفنونها مما هو غير ضروري أصلا تدفع به أنظمة السوق عبر كل الوسائل وإن نراعي قواعد الاجتماع الإنساني في تعاملنا مع بعضنا البعض متجاوزين عن وعي ما تبشر به الحضارة المادية من تمجيد ومدح للانتصارات والنجاحات الفردية ولو على حساب الآخرين فنهزم في أنفسنا الجشع واللامبالاة عبر كل موقع مسؤولية نطل من خلاله على الناس. بهذه الروح فقط انتصر الأجداد وبنوا الأمجاد، " ولا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت".