بمناسبة كل موعد انتخابي تتجدّد الدعوة إلى أن يكون هذا الموعد محطّة لتدشين مرحلة سياسية أكثر تطوّرا ولئن كانت هذه الدعوة مشروعة تترجم عن حرص أصحابها على بلوغ الأفضل فإنها لا تمثل بالنظر إلى السياق السياسي الراهن سوى جزء من المطلوب إنجازه لأن مثل هذه الدعوة تعبّر في الكثير من حالاتها عن مجرّد رغبة أو مطالبة للسلطة بإنجاز حزمة من الإصلاحات دون تكليف الذات عناء التأمّل في واقع المعارضة وما هو مطلوب منها في ضوء المرحلة التي أدركتها في مسار تطوّرها. إن التأمل في واقع المعارضة التونسية مهمّة متأكّدة لأن تجربة "التحول الديمقراطي" تقوم على وفاء كل الأطراف بواجباتها والتزامها بتعهّداتها من أجل الانخراط الجماعي في تنفيذ بنود "الميثاق المشترك" وتحقيق حالة من التطبيع مع قيم الديمقراطية تسمح بترسيخ نظام ديمقراطي مستقرّ يحفظ الحقوق الديمقراطية ويكرّس الواجبات الوطنية في الآن نفسه. إن مرحلة التحوّل الديمقراطي تستوجب بلوغ حالة من النضج السياسي وروح المسؤولية العالية حتى تكون قادرة على بلوغ أهدافها المرجوّة في أقصر الآجال. فهل بلغت المعارضة التونسية مرحلة النضج المطلوبة؟ نعتقد من منظور عقلانى بعيد عن السطحية والتضليل أنّ "الحركة الديمقراطية" بما هي "مبادرة جماعية" تهدف إلى تغيير وضع ما من أجل تكريس وضع أفضل تنخرط في مسار من التطور يتوّج ببلوغها مرحلة "الوضوح والاستقرار" لكنها تعرف في مسار تطوّرها حالة من الغموض والتردّد الفكري والسياسي تستحيل معها قاعدتها الإيديولوجية مزيجا من أفكار غير متجانسة تجمع بين "التقليدي" والملتبس ب "الوعي المباشر" غير العقلاني و"المجدّد" المرتبط بتوطين قيم الديمقراطي في الفكر. إنّ هذا التردّد يحضر بشدّة في النموذج التونسي إذ أن كثيرا من الأفكار والمفاهيم المتداولة في خطاب بعض القوى المنتسبة إلى الحركة الديمقراطية تعبّر عن حالة من الانشداد لأفكار مثلت موطن الجاذبية الأساسي في الموروث الإيديولوجي فليس من اليسير التخلص منها أو حتى "التخفف من أعبائها" خشية "انفراط عقد الأنصار" والوقوع في محنة "ضعف التعبئة " إن التشبث بالموروث الإيديولوجي تحت وطأة تلك المحاذير والمخاوف يجعل بعض مكوّنات "الحركة الديمقراطية" متردّدة بين أفكار تبني بها جدار الثقة مع أنصارها الحقيقيين أو الافتراضيين وأفكار يفرضها رغم انتمائها إلى "النادي الديمقراطي" وإذا كانت مرحلة التردّد والغموض مصاحبة لمسار تطوّر أيّة حركة ديمقراطية بما يجعلها من نفس المنظور العقلاني مرحلة طبيعية فإنه من غير الطبيعي أن تستمرّ كثيرا في الزمن إذ تتحوّل عندها إلى عائق بنيوي مربك للحياة السياسية معطّل لمسار تطوّرها وتحديثها. أمام هذا الوضع الذي يخشى فيه أن تتحوّل مكوّنات الحركة الديمقراطية أو بعضها إلى عائق أمام التحديث السياسي وتكريس النظام الديمقراطي في الوقت الذي تزعم فيه انتسابها إلى قوى التقدم والديمقراطية تبدو المهمة العاجلة بالنسبة إلى الحركة الديمقراطية تسريع وتائر الخروج من مرحلة التردّد والغموض وولوج مرحلة الاستقرار والوضوح لأن بلوغ هذه المرحلة هو الشرط الضروري لتسريع وتيرة الإصلاح السياسي على قاعدة روح المسؤولية المشتركة بين كل الفاعلين السياسيين. كما أن ولوج مرحلة الاستقرار والوضوح سيمكن مختلف الفاعلين من الانخراط في سيرورة غرس القيم الديمقراطية في الفضاء العام انخراطا فاعلا ومنتجا لأن الديمقراطية ليست مجرّد انتخابات بقدر ما هي حراك لا يتوقّف من قبل الفاعليين السياسيين غايته توطين القيم الديمقراطية في الوعي الجماعي من أجل سدّ الطريق أمام قوى التخلف والغلوّ وقوى التيئيس وكل المشككين في أفضلية النهج الديمقراطي ومن أجل بلوغ المجتمع حالة من الاستقرار الراسخ المتمكن من الوعي العامّ. وإذا كانت الضبابية والتردد حالة متأكدة الحضور في القاعدة الإيديولوجية الفكرية فإن غياب التجانس في السلوك السياسي هو السمة البارزة في مستوى الممارسة العملية فالنضال من أجل الديمقراطية يتّخذ أشكالا عديدة بالنسبة إلى التجربة التونسية وقد يكون نقد الواقع نقدا علميا منتجا مولّدا للأمل في بلوغ الأفضل وقد يكون عاطفيا عفويا مباشرا سطحيا يهدف إلى التّيئيس وقد يؤثر الواقع بما ينتجه من سلوكات هنا أو هناك في إنتاج فعل سياسي أقرب إلى ردّ الفعل منه إلى الفعل المعقلن. وإذ تميل بعض أنماط السلوك السياسي إلى العشوائية فإنها تنتج كل أشكال التضليل للشعب عندما تتعالى على واقعه ودرجة وعيه ولهفته على المطلب الديمقراطي انخفاضا وارتفاعا لتعبّر عن مطالب ومهمّات لا ترتقي بحكم الواقع إلى مرتبة "العاجل" و"المتأكد" وهذه الأشكال لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود وإلى حال من الإحباط لأن الحلم إذا التبس في الأذهان بالواقع والممكن تحوّل إلى كابوس. إن المعيار الحقيقي – في نظرنا – هو التجربة والمراكمة العملية هي الطريق إلى إنجاح الحركة الديمقراطية وبلوغها مرحلة الاستقرار لأن هذه المراكمة ستبرز مدى نجاعة أساليب في العمل السياسي ومدى فشل أخرى وهذه المراكمة هي التي ستفرز وحدة في مستوى الخيارات الكبرى وتبني المعايير المشتركة للتحديث السياسي وتنتج قوى إيجابية مبدعة تؤسس لميلاد حركة ديمقراطية عقلانية مرتبطة بمفهوم المصلحة الوطنية. كما أن التجربة الميدانية هي وحدها الكفيلة بأن تحول مكوّنات الحركة الديمقراطية من خيار النضال " من فوق" إلى خيار النضال "من تحت" بما يعنيه ذلك من ترك أولوية "بلوغ السلطة" إلى أولوية تعميم السلوك الديمقراطي والحسّ المدني والوعي بأهمية المكاسب المشتركة (acquis communautaires). إن هذا التحول هو الذي سيمكن مكونات الحركة الديمقراطية من ولوج مرحلة النضج والوضوح والاستقرار الفكري والسياسي كمرحلة ضرورية لبناء الثقة والوقوف على أرضية صلبة ومشتركة بين كل الفاعلين السياسيين لإنجاح مرحلة التحول الديمقراطي ودون بلوغ هذه المرحلة ستسود بين بعض مكوّنات الحركة الديمقراطية نزعة عدمية انعزالية تميل إلى المزايدة الخطابية والهجومية والتعالي والشخصانية وكل ما يمكن أن يساهم في تعطيل نشر وعي عقلاني نراه ضروريا في عملية التحديث السياسي. إنّ الدعوة إلى تطوير التجربة السياسية لا بدّ أن يمرّ من طور الرغبة والمطالبة إلى طور الفعل المنتج ولا يتأتّى ذلك إلا بتأمّل مكونات الحركة الديمقراطية أو المعارضة لوضعها ونقد ممارستها وخطابها من أجل بلوغ مرحلة الوضوح والاستقرار ومن ثمّ الفعل المسؤول والانخراط الواعي في سيرورة التحديث السياسي. الوطن التونسية