الإصلاح لفظ يحيل في الأصل على مفهوم واضح المعالم، جليّ الصفات، مرسوم الحدود، يتداوله الناس تداولا يتصل بحاجاتهم اليومية التي يقتضيها معاشهم، ويمليها عليهم غدوّهم ورواحهم، ويتداوله الخاصة فيستحيل على ألسنتهم لفظا اصطلاحيا يخص علما مخصوصا كعلم التربية، أو التاريخ، أو الاقتصاد، أو القانون، أو حتى علم السياسة، بل هو أيضا مصطلح على غاية من الدقة في تاريخ بعض الأديان لما يمثله من لحظة تاريخية فارقة أقدمت فيها المؤسسة الدينية الأمّ على مراجعات جذرية طالت تأويلَ نصوصها المؤسِّسة. ولكن لفظ الإصلاح قد تتضافر عليه رغبات متباينة في الاستخدام، فتتجاذبه المقاصد بين حقيقة الدلالة ومجازاتها، ويكون ذلك لا بدافع استغلال طاقة اللغة من الجمال والإبداع ولكن بحافز المخاتلة مكرا بالمتلقي، أو تحاشيا لمواجهة إكراهات التأويل بناءً على الحرج المكشوف للمباينة الحاصلة بين الخطاب والسلوك، ولاسيَّما في مجال الحكم والسياسة. ومِن الذي سبق نفهم كيف غدا لفظ الإصلاح -في سياقنا العربي تعييناً- لا يحيل كما هو في الثقافات الأخرى على متصوَّر مسيَّج الدلالة، وإنما هو فضفاض منسرحُ المقاصد، طاقاته التضمينيّة أقوى من طاقته التصريحية، وفضاؤه الإيحائيّ أوسع من حقله التعيينيّ. ولا مغالاة في القول إن الإصلاح -عربياً- قضية إشكالية قاهرة، وسرّ غلبتها على الفكر كما على الوعي أنها تنبع من توظيف للغة غير بريء، وأنها تصدر أحيانا من لدن المستعملين لهذا المصطلح عن سابق إضمار يبيّت على مخاتلة وتضليل. من هنا جاز أن نتحدث عن «قصة الإصلاح» في بيئتنا العربية الراهنة، ولا يَسْلم سرد الحكاية إلا بالتنقيب عن أصول نشأة الضباب الذي يحوم حول اللفظ ودلالاته. ولئن كان في كل سرد قصصي إمتاعٌ كأنه يَرْجُح على الإفادة فإن ما سَيَلي من سرد يتنزل منزلة الضرورة التي لا يستقيم الجزم بشيء إلا من خلالها. دأب المجلس الأعلى للثقافة في مصر على عقد مؤتمرات تختص بموضوع الثقافة فضلا عن مؤتمراته حول الشعر، أو الرواية، أو النقد، وكان المجلس قد حظي بإجماع المثقفين العرب بمختلف توجهاتهم دائما، وعلى تباين حساسياتهم الفكرية والمنهجية والمذهبية في أغلب الأحيان، كانوا يفدون من الأقطار العربية، ومن سائر البلاد الأخرى شرقا وغربا. من بين تلك المؤتمرات العديدة ثلاثة مثلت في تعاقبها وفي ما جدّ بينها من تطور مفاجئ لحظات فارقة، هي التي ستعيننا على كشف النوى الذريّة الأولى التي تخلقت معها إشكالية الإصلاح في حجمها السياسي الراهن تحت سقف العمل العربي المشترك ثم تحت أفياء المجتمع المدني لاحقا. تناول الأول (مستقبل الثقافة العربية) وانعقد في الفترة (11- 14 مايو 1997) وكان مرامُه تدارسَ القضايا الفكرية والحضارية التي يفرضها الحلول القريب للقرن الجديد، وذلك ابتغاءَ تأسيس مشروع ثقافي عربي يتيح تحقيق النهضة الثقافية الشاملة، وكان من المصرّح به أن سياق المؤتمر يتواءم مع مرور ستين عاما على إصدار طه حسين كتابَه (مستقبل الثقافة في مصر) وهو ما يوفر فرصة مناقشة المشروعات التي أنجزها جيل النهضة، والانطلاق من حيث انتهى الرواد بغية صياغة التصوّرات الممكنة عن مستقبل عربي واعد في عالم متغيّر. ومن أهم ما عالجه المؤتمر عوائق التقدم الثقافي، والأفق الجديد للتعددية، وتخلق أنظمة عالمية جديدة، وكذلك دور العرب في صنع مستقبل العالم، وهو سؤال كان من الجرأة على التاريخ بحيث لم تبطئ الأحداث حتى أعادته على وجوه الذين ألقوه. ولا شك أن المشهد الدولي سرعان ما بدأ يتكشف عن معادلاته الجديدة مع خواتم عقد التسعينيّات، فجاءت المبادرة في أقل من عام لعقد مؤتمر حول (الهوية الثقافية والعولمة) وذلك في الفترة (12– 16 أبريل 1998) وكان من بين المقاصد المعلنة تعميق الحوار حول الأسئلة الإشكالية التي طرحها المشاركون في المؤتمر السابق. رجاني الساهرون على تنظيم المؤتمر أن أتولى في افتتاحه إلقاء كلمة باسم المشاركين في المؤتمر وضيوفه، وهي من المهمّات التي تَسعَد بها إذا عُرضت عليك ثم تتهيّبها إذا قبلتها، ففيها امتحان عسير حين لا تقف بها عند مراسم الشكر وأعراف الامتنان، وامتحانها أن تسعَى إلى الإفضاء بما يُجمع عليه الوافدون ويرضي مستضيفيهم دون التفريط في جواهر المسائل، فيبقى ملاذك إلى مجازات اللغة تسعفك بالإيماء كي لا تخلّ بالمقامات. كان لزاماً أن أشير إلى أن اللحظة الحضارية دقيقة حَرِجة، ارتبكت فيها المنظومة الفكرية الإنسانية على قدر ارتباك المنظومة الاقتصادية العالمية، فالمثقفون والمؤرخون وعلماء الاجتماع لم يكونوا وحدَهم ساعتئذٍ يتساءلون عن المصير الإنساني، بل كان الاقتصاديون أنفسُهم أكثر منهم عنه تساؤلا، وأكثرَ منهم فيه حيرة وارتيابا. ولنتذكرْ أننا كنا إذّاك في أواخر التسعينيّات، ولم تمض إلا أربعُ سنوات على توقيع اتفاقيات التجارة الدولية التي بها انتهى عهد ما كان يعرف بالجات، وأنشئت بدلها منظمة التجارة الدولية، وذلك في المؤتمر الذي انعقد في مراكش (15 أبريل 1994) وكان لزاما أن نضيف ونحن نتكلم باسم ضيوف المؤتمر أن اجتماع المهمومين بالعولمة وبالهوية في آن إنما هو مؤشر على تعقد الشطرنج الكوني، ولن يكون بوسع أي سياسي عربي أن يَزهد في فك شفرته ولا أن يتعلل في التأجيل والمماطلة بضغوط الشأن اليومي ولا بأثقال الإدارة الجماعية. قلنا إن المؤتمنين على الضمير الثقافي، وإن المختصين بحزام الأمان الاقتصادي يعالجون موضوع الهوية الثقافية والعولمة وهم واعون بوظيفة المثقف حين يَهَبُ أولي الأمر ثمارَ تأملاته، وعلى السياسي -بحسب حيثيات الظروف بين ارتقاء وانكسار- أن يستصفيَ منها ما يؤمّن للمجتمع وئاما منشودا بين الحادث الكوني الطارئ ومرجعيات الهوية الراسخة. لقد كان سؤال المؤتمر السابق (1997) في موضوع «مستقبل الثقافة العربية» دائراً على: مَن كنا؟ ومن نكون؟ وإلى أين المآل؟ ثم -بين عامٍ وعامٍ- خطا السؤال بثبات خطوته الاضطرارية لمواجهة سؤال الهوية الثقافية في تفاعلها المتحتم مع الناموس الكوني الطارئ: العولمة. لذلك أضفنا: إن سؤال الهويّة هو سؤال الإحياء الحضاري، وسؤال الاستنهاض الفكري، وسؤال التصويت الجماعي لانتخاب العقل فَيْصَلاً رائداً حَكَماً. ولكنه أيضا سؤال القَلَق: كيف السبيل إلى مواجهة الأصوات القادمة من الغرب والتي تُزَايد علينا في الإنارة باسم العقل، وفي الاستشراف باسم العلم، وفي المسارعة باسم الآلة، وفي التوظيف باسم سلطة السوق إمعانا منها في تغييب الذات الحضارية من وراءِ ستائر العولمة الشفّافة. لقد انتفضت العولمة ثائرة على الأيديولوجيا، وَزَهِدَ الناس ردحا من الزمن في التبصّر بها احتفاءً بانتصارها على عصر الأيديولوجيا، حتى غدا من حق الجميع أن يتساءلوا جميعا: أفلا تكون العولمة هي الأيديولوجيا الجديدة الناطقةُ باسم ما بعد الأيديولوجيا؟ على ذاك الأساس عكف المؤتمرون على النظر في حوار الثقافات بدل صراعها، وعلى التدفق الثقافي ذي الاتجاه الواحد، وعلى التناظر بين الثقافة الوطنية والثقافة الإنسانية، ثم بين الثقافة الوطنية والنقلة المعرفية، وكان بحثنا الذي شاركنا به في المؤتمر دائراً على (المثقف العربي والتحالفات المتعيّنة في عصر العولمة). كان المؤتمران (1997 و1998) موحييْن بإرهاص فاتك، بل حاملين لنذير متقلب الألوان متعدد المرايا، ومهما تكن عظمة حاسة الحدس عند الراصد المتعقب فلن يستطيع يومئذ أن يتوقع حجم زلازل التاريخ على الأرض العربية، تلك التي ستستوجب عقد مؤتمر ثالث ينعطف على السابقيْن ويكون شاهدا على ميلاد حَراك الإصلاح العربي. العرب القطرية 2009-10-14