أسست مبادرة الجماعة الإسلامية والجهاد المصريتين منذ نهاية القرن الماضي الخاصة بوقف العنف للقطيعة المؤقتة في العلاقة المتوترة بين الإسلاميين والأنظمة الموروثة عن مرحلة ما بعد الاستقلال العربي. وخلال ثلاثة عقود، طفا على السطح مفهوم ما سمي"المراجعات" لدى الفاعل الإسلامي في محاولة لتأسيس علاقة سلام بين الإسلاميين والأنظمة، وترسخ الخيار المصري مع مبادرة الوئام والمصالحة الجزائرية وأخيرا مع مراجعات الجماعة الليبية المقاتلة، التي زكاها علماء مشهود لهم بالوزن العلمي. مبادرات "المراجعات"، وإن اختلف حولها مكونات الصف الإسلامي بين من يعتبرها مجرد "تراجع" ومن يراها "رجوعا للحق وتقييما للتجربة"، ما زالت تخفي جانبا مغيبا في طبيعة العلاقة بين طرفي المعادلة بالتساؤل: هل المراجعات عند استحسانها آلية لفض الاحتقان الدموي "فرض عين" على الإسلاميين فقط؟ وكيف تتعامل الأنظمة السياسية مع نهج المراجعات مما يكسبها المشروعية المستقبلية؟ المراجعات بين التراجع والتقييم بعيدا عن الاستغراق في بسط المفهوم اللغوي والدلالي لمصطلح "المراجعات"، يكتسى المفهوم مع مؤلفات الجماعة الإسلامية والجهاد المصريتين "أجرأة" إعلامية وسياسية جعلته أمرا مقبولا لدى الرأي العام المحلي والدولي، ومحددا رئيسا لطبيعة العلاقة بين الإسلاميين والأنظمة الحاكمة. وجاءت مراجعة الجماعتين المصريتين خلال التسعينات من القرن الماضي للتصورات المعرفية المركزية في عمل التنظيمات الإسلامية، خاصة مفهومي الجهاد والتكفير لتدعم هذه "الأجرأة" مما استبشر به كل المتلقين. غير أن المراجعات أشرت على أمرين حاسمين يختلف تفسيرهما حسب أديولوجيا هؤلاء المتلقين: فالنظام الحاكم أثبت بتفعيل المراجعات أنه كان على صواب عندما زج بالآلاف من أعضاء الجماعتين بالسجون مما دفعهم لخلوة معرفية تعيد النظر في المفاهيم المؤسسة للعلاقة مع الحاكم وآليات تنفيذ المشروع الإسلامي وتطبيق دولة الخلافة. والمؤشر الثاني، ويقف خلفه التنظيمات الإسلامية والمتعاطفين مع خطابها الحركي، حيث اعتبرت المراجعات "أوبة" للحق لما ظهر باستحضار المتغيرات المحلية والدولية، ولذلك حشدت لتثبيت توبتها مجموع الأدلة الشرعية والآراء الفقهية الراجحة أو المرجوحة ، التي تؤكد على أن المسلم دائم التوبة ومراجعة ما يقضى به بالأمس ليصلح به يومه ابتغاء مرضاة الله تعالى. ولم تتوقف هذه المراجعات عند التجربة المصرية، بل ترسخت مع التجربة الجزائرية بعد الانقلاب السياسي عن نتائج الانتخابات التي منحت جبهة الإنقاذ صدارة النتائج، لكن الواقع الجزائري جاء مخالفا للتجربة المصرية، حيث تميزت بتفعيل تجربة "الوئام والمصالحة" بالعفو العملي وعدم المتابعة كل من طرح السلاح جانبا ونزل من الجبال، وإن لم تستبعه تنظيرات فكرية لمنهج التعامل بين النظام الرسمي والمكون الإسلامي، مما أفرز تباعدا في النظرة للمراجعات الجزائرية بين رأي يعتبر النظام الحاكم حاليا لا يخرج عن دائرة الحكم الإسلامي، ومن يرى أن التماهي مع الاختيارات السياسية الرسمية "اقتيات " على عطاء جبهة الإنقاذ الإسلامية و"خيانة لحقها المغتصب". وفي حين اختار النظام التونسي آلية "العصا الخشنة" للتعامل مع الإسلاميين، ظل "الحياء" مهيمنا على تعامل النظام المغربي مع الإسلاميين بين الضغط على التيار السلفي المتشدد وغض الطرف عن التقليدي المهادن مع رقابة مستمرة للفاعل الحركي ممثلا في جماعة العدل والإحسان والتوحيد والإصلاح. أما التجربة السعودية فقد اختلط فيها المدخل الفكري بالأمني، مما جعلها تجرب كل الوصفات التي تضمن تعاملا حذرا بين الإملاءات الخارجية والوفاء بتمثيل التدين "السلفي" دون فتح المجال أكثر لاستغلال علماني للقضية. غير أن تجربة الجماعة الليبية المقاتلة، والتي زكاها علماء من المشرق والمغرب(علي الصلابي، أحمد الريسوني، سلمان العودة..)، وإن جاءت متأخرة عن سابقاتها، نجدها قد أصلت لمراجعات تصحيحية برؤى معرفية شرعية تؤسس لتكييف الخطاب الإسلامي مع المتغيرات المحلية والدولية. وهذا التباين بين دولة عربية وأخرى في ضبط العلاقة بين الإسلاميين والأنظمة السياسية، أنتج بدوره انقساما داخل الإسلاميين أنفسهم في الرؤية المرتبطة في تحديد العلاقة. فرأي يؤكد أن المراجعة خصلة محمودة لحقن الدماء وإنصاف الأبرياء من شطط المسؤول الأمني، الذي يتوجس خيفة من تقوية الحضور الإسلامي على رقعته الجغرافية، المتسلح بمرجعية دينية تهدد "كرسيه" واستمرار سلطته، وطرف يرى أنها مجرد"تراجع" عن المبادئ و"خنوع" لسطوة الاستبداد، ما دامت تجري داخل غياهب السجون. ويدلل الطرف الثاني على إصراره بأن المراجعة نوع التراجع، بالقول إن التماهي مع المراجعات دون أن تراجع الأنظمة علاقتها بالدين الإسلامي يوحي بأن منطلقات التيار الإسلامي في البدء كانت خاطئة، وهو أمى حسب هذا الرأي غير صحيح، لذا يحبذ تسميتها ب"التقييم" المرحلي لآليات الاشتغال وأولويات الاختيارات، فما كان في العشريات الأخيرة من القرن العشرين يمكن الوقوف عنده بالتقييم لبيان مواطن الخلل فيه، وما كان صائبا يحتفظ به وإن لم يحن أوان تطبيقه، وما كان خاطئا يلقى به في مزبلة التاريخ دون إملاء أو ضغط من طرف خارجي، حسب هذا الرأي. تعامل الأنظمة مع المراجعات اليد الممدودة التي بشرت بها مراجعات الإسلاميين دون تحديد تموقعهم بين السلفي وغير السلفي أوبين المعتدل والمتشدد، بقيت شهية إعلامية دون أن تستبعها آليات الإدماج الحقيقي للإسلاميين في صناعة القرار السياسي، وحتى إن تم، فبنسبة متحكم في حركتها. وقد انعكست طبيعة أي نظام عربي في التعامل مع المراجعات تبعا لطبيعته السياسية(ملكي / جمهوري). وتأرجح التعامل بين متفهم للمراجعات بأنها أفضل آلية لحق الدماء، وبين من يرى أن الحل الأمني هو الأصلح والأجدى، مما يؤجل استشراف أي أفق لمشروعية المراجعات ودورها في تصحيح العلاقة المتوترة. وقد ساهمت الشروط الدولية في هذا التأجيل المؤقت، فالأنظمة العربية عندما أحست بثقل "الدمقرطة"، التي رفعتها أمريكا خلال الولاية الثانية ل"جورج بوش" واستعداد أمريكا لمحاورة الإسلاميين المعتدلين، سارعت إلى إظهار "حسن النوايا" بأنها الأجدر بمحاربة "الإرهاب" بإغراق السجون بالإسلاميين، الذين يناصبون الغرب العداء، وهي وصفة مغرية، دفعت أمريكا وأوروبا إلى تغيير الخطاب من الإصلاح الديمقراطي إلى الإبقاء على الوضع كما هو عليه. فالأنظمة العربية لم تر في المراجعات أفقا للمصالحة مع مكون مجتمعي، بل سارعت إلى تفكيك مصادر قوة الإسلاميين الدعوية والخيرية لدفعه للتلاشي وتصويره اجتماعيا بأنه "المهدد للأمن القومي" وقاتل الأبرياء والآمنين باسم الجهاد، وحتى عندما رفعت بعض مكونات الصف الإسلامي نيتها أنها جزء من خدام الأمن القومي وتبرير سلوكاتها بأنها موجهة للعدو الخارجي، الذي يعيث فسادا في جزء من أراض المسلمين، لم تتلق الأنظمة هذا التحول بأنه فرصة للمصالحة، بل ضمت إلى سابق "التفجيريين" "تفجيريين جدد" بتهم أنها مجموعات تنتظم سريا لتسليح شباب للجهاد في العراق وفلسطين وأفغانستان. هذا الخطاب المتحول للأنظمة في طبيعة الرؤية الناظمة للعلاقة مع المكون الإسلامي، ساهم فيه وجود نقص معلوماتي لطبيعة اشتغال هذا المكون وتصوراته الفكرية، وزاد من هذا الغبش المعرفي والإعلامي "تأليب" الخصم السياسي العلماني، الذي يقدر أن أي تفاهم بين الأنظمة والإسلاميين لا محالة سيأتي على مكتسباته السياسية والإعلامية، لذلك جاء خطابه هو أيضا متماهيا مع أي مسوغ رسمي للاعتقال والضغط الأمني، ولو كان ضدا على الحرية والكرامة الإنسانية، التي انتصب محاميا عنها لما كانت العصا الغليظة مسلطة على رقبته في السابق. أفق المراجعات إن مراجعة الأخطاء وردم فجوات سوء الفهم المتبادل بين الأنظمة والإسلاميين يبقى مطلبا مجتمعيا أكثر منه سياسي، لأن المتأثر بتبعاته الآنية والمستقبلية ليس المتصارعين في حلبته راهنا، بل هو يحكم أفق الاستقرار والتعايش بين أفراد المجتمع مستقبلا. ولذا يمكن إنجاح هذه المراجعات ببدء الأنظمة بمراجعة ذاتية لآليات اشتغالها وتعاملها مع مواطنيها، فنظام يشجع مثلا على إنتاج الفساد المادي والمعنوي لاستدامة هيمنته السياسية، يبقى غير قادر على إعمال الحكمة لحل مشاكل مجتمعه. فالمراجعات ليست فرض عين على الإسلاميين لوحدهم ومباحة في حق الأنظمة القائمة، بل هي واجبة في حق الطرفين تستحضر التهديدات الداخلية والخارجية لتقليل "وباء العدوانية" داخل المجتمع، فالإرهابي لا يولد من بطن أمه إرهابيا، بل هو نتاج نشأة امتزج فيها ثالوث الظلم والجهل والفساد، الذي يجعل كل سلوك مبررا إما بمسوغات دينية (الطرف الإسلامي) أو بيافطة حفظ الأمن القومي (الأنظمة). فالتاريخ الإسلامي يختزن بتجارب من تعامل الأنظمة الحاكمة مع المرتدين والخوارج وكل الطوائف المتدينة، ومن الممكن أن تكون صفحات يستفاد منها إما بتغليب العفو أو بأسلوب القوة الضاربة بمحاربة البغاة والمفسدين. فاللسان الرطب كما يقول المثل المغربي يداعب الضب كحيوان مفترس ويجعله أنيسا، والإنسان بطبعه يختزن منابع الخير والشر، بتأكيد الآية القرآنية (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)، مما يجعله قابلا لكل تموقع. وإذا لم يتم الاستفادة بالمدخل الشرعي الإسلامي، فأولى بالمتدخلين في الملف، الاستعانة بالمعالجة العقلانية الغربية للملفات الإرهابية، حيث تبقى كرامة المتهم محفوظة طوال محاكمته منذ اتهامه إلى حين إصدار الحكم عليه بالإدانة أو البراءة. أما أن يلصق بالفرد، أيا كانت ديانته ولونه وعرقه، طابع الإدانة بالإرهاب منذ البداية، فهذا التعامل يغذي فيه نوازع الإرهاب ويجعله، أو أحد أفراد عائلته، يدخل في فترة "كمون مؤقت"، مما يفشل أفق المراجعات كآلية عقلانية لحقن الدماء، ويجعلها بصورة من الصور مجرد "تراجع" أو"تقية" لا تسمن من جوع أو لا تدفع خوفا محدقا بالأمة في كل حين. صحفي مغربي 18-10-2009 الإسلاميون