"لا أريكم إلا ما أرى..." عجائب الاستبداد لا تحصى... و قد يؤتى السحرة من معسول الكلام ما يزييون به أبشع الصور و أقبحها حتى يراها قصيرو النظر قد أوتيت من الحسن و الجمال ما لم تدركه ريشة أشهر الرسامين و الفنانين... فعرفنا الزعيم الملهم و القائد الفذ و المجاهد الأكبر إلى غير ذلك من أسماء ملوك لا ممالك لهم... و كانت تجربة الحزب الواحد في مشارق أرض بني يعرب و مغاربها الترجمة الفعلية لهذا الوجه من الاستبداد.. و بعد ما عرفت الأقطار العربية في عهد الاستعمار المباشر تعددية فكرية كان من نتاجها تعددية سياسية أفرزت بدورها تعددية حزبية ساهمت معا في معركة التحرر الوطني في أول لبناته... و لم تكد تغادر جيوش الاستعمار المباشر أرض العروبة حتى حل محلها من يمكن اختزال أبرز ملامحه في الشعار الذي رفعه أفضل المستبدين أي " لا أريكم إلا ما أرى"... فكانت "جبهة التحرير الوطني"في الجزائر و "الحزب الحر الدستوري" في تونس و "الاتحاد الاشتراكي" في مصر ... و غيبت بقية الأحزاب إما بملاحقة مناضليها أو سجنهم أو تهجيرهم... و تفردت تلك الأحزاب بالسلطة حينا من الدهر حتى أصبحت التعددية السياسية حلما يراود المثقفين و المفكرين و فضاء الحريات قاعا صفصفا لا ترى فيه عوجا و لا أمتا... و قد زاد فساد الأحزاب الحاكمة ( الفساد بمختلف معانيه) من حرص زعمائها حرصا على المكث على العروش إلى أن يتكفل بإزاحتهم قاهر اللذات و مفرق الجماعات ... و قد انطبعت في ذهنية الفرد أن التعددية مجلبة للضعف و ذهاب الريح و تشتت الكلمة و تفرقها فترى من يستنكر التعددية النقابية و التعددية الحقوقية و التعددية الثقافية....حرصا على تاريخ بناه رجال و مجدا صنعه أبطال لم يعرفوا بأثرتهم إنما عرفوا بإيثارهم، و اشتهروا بتضحياتهم دفاعا عن المصلحة العامة و ذودا عن مكاسب تحققت بالدماء و الدموع و العرق.... فهل كان الاتحاد العام التونسي للشغل ليعرف ذاك الصيت إن لم يعرف رجلا مثل حشاد تضحية و إيثارا و نضالا لصالح من انتخبوه... هل كان الاتحاد العام التونسي للشغل ليعرف هذا الصيت إن كان هناك في تاريخه رجال يحيون ذكرى حشاد و يخالفون عن سيرته و صدقه و إخلاصه و حرصه على مصلحة العمال... و قد ارتفع الأصوات في مناسبات عدة مستنكرة سعي بعضهم لبعث اتحاد مواز لضرب الاتحاد العام و تهميشه عندما استعصى عليهم تحجيمه و جعله خادما طيعا لمشاريعهم، يسير في ركابهم دون اعتبار لمنخرطيه... و قد يكون مبعث هذا الاستنكار الظروف التي كانت تحف بالتجربة و القصد الجرمي لباعثي الاتحاد الموازي... و كان الأمر كذلك عندما بعثت منظمة حقوقية ضرارا سعيا لإضعاف دور الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان تلك المنظمة العتيدة في التاريخ الحقوقي التونسي... و اليوم و قد تعددت المنظمات الحقوقية و ها هي تتعايش و تتعاون و تنسق و لم يدع سابق احتكار هذا المجال و لم ينتقص لاحق عمل من سبقوه بل كل يسعى للدفاع عن الحقوق التي من المفترض أن يتمتع بها كل آدمي.. فإن كانت التعددية السياسية من مفاخر الدول و الأمم فلم لا تكون التعددية النقابية و الحقوقية من المفاخر كذلك؟؟؟ و ها هي الدول التي تتمتع شعوبها بقسط من الحريات قد كرست التعددية في مختلف المجالات.. فلم لا تنظر للتعددية النقابية على أنها عامل صحي شأنها في ذلك شأن التعددية السياسية... و إن عدنا إلى المجال النقابي و ما نشر هذه الأيام فإن المرء ليبارك ما ذهب إليه مؤسسو نقابة الصحفيين التونسيين سنة 2004 من فك ارتباط بالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بعد الانقلاب الأسود على هيئة شرعية افرزها صندوق انتخاب لم يعرف- طيلة خمسة عقود- أياد أمينة تسهر على سلامته و تفتح مغاليقه و تؤمن دوافنه إلا في القليل القليل من المرات.. أقول هذا و في القلب غصة فطيلة عام ونصف من مباشرة هذه الهيئة المنتخبة لمهامها لم تشر و لو تلميحا للمضايقات التي ما فتئت أرزح تحت كلكلها في الوقت الذي نشرت هيئات مهنية عالمية العديد من البيانات حول ما أتعرض إليه، بل سارعت بعض المنظمات إلى إرسال مندوبيها لزيارتي في منفاي ألقسري إطلاعا على واقع مرير لا يزال يزداد مرارة و قتامة و أخص بالذكر هنا كلا من "مراسلون بلا حدود" و " لجنة حماية الصحفيين".... بل لم أر بيانا واحدا انتصارا لزملاء عرفوا شتى أنواع المضايقات بل وصل الأمر إلى سجن السيد سليم بوخذير لأسباب "مهنية" معلومة لا يتغافل عنها إلا من يحرص على إغماض عينيه كي لا يبهره وهج الحقائق... و رغم تلك الغصة فإني كنت أتفهم فعل الهيئة الحريصة على تجنب ما يغضب السلطة عساها بذلك تتقي سوء منقلب تخشاه... لكن حساباتها قد بان خطؤها... فنحن أمام سلطة تعتبر أن الذي لم يصرح جهارا نهارا أمام الثقلين أنه مع "التغيير في كل صغيرة و كبيرة و انه لا يرى إلا ما يراه التغيير و رجال التغيير و نساء التغيير و أطفال التغيير و حاشية التغيير و حاشية حاشية التغيير" فإنه عدو لدود للتغيير لا مكان له في نور الشمس في بلد التغيير"... و قديما قيل "إن العاقل من اتعظ بغيره" فهلا يكفي ما تعرض له العديد من الصحفيين حتى يقف كل من في القطاع إلى جانب الضحايا... فإن كان من البديهي أن ترتفع عقيرة المظلوم مستنكرة منددة محتجة عما لحقها من أذى، فإنه من الإنساني أن يقف الآدميون و العقلاء و الشرفاء و الوطنيون إلى جانب المظلوم كائنا من كان الظالم؟؟ أما الذين ملأ لغطهم أذاننا يوم دارت عليهم دائرة الاستبداد و استهدفوا تعنيفا و إقصاء و تجويعا و تحرشا فكذلك تفعل العجماوات و يربأ المرء بنفسه أن ينزل إلى درجتهم... بل إنه لمن المعيب أن يصمت المرء على ظلم أي آدمي كان فما القول عن صحفي لا يشهر الحقيقة و هو من صميم عمله و مهنته بل يعمد إلى إخفاء المظالم و التستر على الظلمة أيا كان ظلمهم، بل يعمد إلى نشر الأباطيل و الأراجيف فيزين القبيح من القول و الفعل ... إن المهنة في حاجة إلى فدائيين يدافعون عنها و عن منظوريها... فدائيون على يقين أن موقعهم قد يكلفهم الكثير من المتاعب... أليست هي مهنة المتعاعب؟؟؟ فدائيون لا يرنون إلى ترقية أو تسمية أو مسكن أو سيارة شعبية أو ... إنما سعيهم الدؤوب من أجل إعلام صادق و حر و نزيه و شفاف... يمتازون بالجرأة في القيام بواجبهم و يترفعون عن الرؤية الضيقة للمسؤولية و للمهنة... إن التعددية النقابية لهي الحل الأمثل في حالات كثيرة و في بلدان مختلفة و لعل واقع البلد على قتامته و انغلاقه و انسداد آفاقه لا مخرج منه إلا تعددية نقابية فعلية من شأنها أن لا تحظى بالقبول الجماهيري و الشعبي إلا بمدى خدمتها لقضايا البلد الحقيقية ووقوفها في صف القيم السمحة التي رفعت من شأنها شرائع الأرض و شرائع السماء... إن كل حسابات تنبني على رؤى ضيقة و غايات وقتية و مصالح خاصة لن تحدث النقلة النوعية نحو عمل إعلامي في مستوى التحديات يضمن للمواطن الحق في إعلام شفاف و نزيه و متعدد كما تضمن للصحفي الحياة الكريمة و القدرة على الوصول إلى المعلومة حيثما كانت دون أن يكون تحت مقصلة القوانين الجزرية التي تعوق مثل هذا العمل... و لعل الضمانة الأهم لمثل هذا التمشي استقلالية تامة عن المرجعيات السياسية و لتكن هي بدورها تعمل في سبيل استقلالية تامة واضحة بعدم التدخل في شؤونها... إن التجربة في العقود الخمسة الأخيرة أفادت أن كل نفس يسعى للمحافظة على استقلاليته توضع في طريقه العوائق المختلفة وما جمعية القضاة ببعيدة و كذلك الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان و كذلك الاتحاد العام التونسي للشغل و المنظمة الطلابية "الاتحاد العام التونسي للطلبة"... و قد تكررت معها نفس السيناريوهات تقريبا... عبدالله الزواري جرجيس في 17 أكتوبر 2009