ماذا بعد إزالة "الحدود المُصطنعة" (على حدّ تعبير وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو) بين سوريا وتركيا؟ السؤال يبدو كبيرا، لأن ما حدث في منتصف شهر أكتوبر بين الأتراك والسوريين، كان كبيراً حقاً. وهنا، ليس المقصود فقط إلغاء التأشيرات على الحدود بين البلدين، رغم الأهمية الفائقة لهذه الخطوة، بل ثلاثة أمور دُفعة واحدة: القفز فوق معضِلة لواء الاسكندرون السوري المُحتل، والاتفاق على إجراء مناورات عسكرية كبيرة بين البلدين على الحدود السورية – التركية - العراقية، وإبرام اتفاق استراتيجي تضمّن 40 بروتوكولاً، غطّى تقريباً كل مجالات التعاون بين البلدين. إسرائيل شطْران الدّلائل العميقة لهذه التطورات برزت في ردود الفعل الإسرائيلية، حيث كانت المفاجأة شِبه تامّة بالفعل. فبدلاً من المناورات العسكرية الإسرائيلية - التركية المشتركة في إطار تدريبات حِلف شمال الأطلسي، التي تحمِل إسم "نسر الأناضول"، سيتِم إجراء مناورات عسكرية سورية – تركية، وأين؟ على الحدود السورية والعراقية والتركية، التي تقع على مرمى حجر من العُمق الإسرائيلي. وبدلاً من تعزيز التعاون الإستراتيجي التركي - الإسرائيلي، يتِم ترقية التعاون الإستراتيجي السوري – التركي، ليس هذا وحسب، بل يجري أيضاً فتح الحدود من دون تأشيرات بين البلدين، بصفتها "حدوداً مصطنعة"، على حدّ تعبير وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو. وبعد هذه المفاجأة، التي ربّما تُوازي في أهميتها مفاجأة حرب أكتوبر 1973، جاء دور الأسئلة الخطيرة في تل أبيب: هل هذه بداية نهاية التحالف الإستراتيجي التاريخي بين تركيا وإسرائيل والذي استمر بلا انقطاع نيفاً و60 عاماً؟ وهل الجيش التركي، الذي كان المُستفيد الأول من هذا التحالف، عسكرياً ولوجستياً، موافق على هذا الانقلاب؟ ثم: أين الولاياتالمتحدة من كل هذه التطورات الدرامية في الشرق الأوسط؟ المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة انشطرت قِسمين إزاء هذه الأسئلة القلقة. ففي ضفّة وقْف وزير الدفاع إيهود باراك ليحذّر الإسرائيليين من مغبّة تصعيد الموقف مع أنقرة، قائلاً خلال اجتماع مُغلق للقيادات العسكرية والمدنية الإسرائيلية، إن "العلاقات بين تركيا وإسرائيل استراتيجية وقد تمّ الحفاظ عليها لعشرات السنين. ورغم كل عمليات الصعود والهبوط الراهنة، إلا أن تركيا لا تزال لاعِباً مركزياً في المنطقة، وبالتالي، ليس من المناسب الانجِرار إلى انتقادها". بعض جنرالات إسرائيل يوافِقون على هذا الرأي، ويقولون إن قرار تركيا منْع إسرائيل من المشاركة في مناورات "نسر الأناضول" الجوية الأطلسية في مدينة قونيا التركية، في وسط الأناضول (والتي انسحبت منها الدول الغربية احتجاجاً على استبعاد إسرائيل)، لم يصدر عن رئيس الحكومة التركية أردوغان، بل عن قيادة الجيش التركي. لماذا؟ لأن المؤسسة العسكرية التركية، برأيِهم، كانت غاضِبة من تأخّر تل أبيب في تسليمها طائرات تجسّس من دون طيار، كانت أنقرة اشترتها قبل أكثر من سنتين. وبالتالي، فإن خطوة استبعاد إسرائيل من المناورات، لم يكن لها أبعاد سياسية، سببها الممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة، بل تتعلق بالأمن العسكري التركي، خاصة وأن الجيش يحتاج إلى هذه الطائرات بشدّة لمواصلة حربه ضد حزب العمّال الكردستاني. على الضفة الثانية من الجدل، تمترس الصقور الإسرائيليون الذين يروْن إلى التغيّرات التركية على أنها جزء من برنامج إسلامي طوّره حزب العدالة والتنمية التركي، ذو الجذور الإسلامية، وهو برنامج يتناقض بنداً ببند مع التحالف الإستراتيجي مع إسرائيل. ولكي يوضح هؤلاء وجهة نظرهم، يقولون إن السياسة التركية قبل وصول حزب العدالة إلى الحكم عام 2002، كانت تحبِّذ إلى حدٍّ كبير العلاقات الوثيقة بين أنقرة وتل أبيب، والتي كانت تترجم نفسها في التعاون الكامل في المجالات الاستخبارية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، لكن، بعد عام 2002 تجمّدت هذه العلاقات وتوتّرت، في حين كانت أنقرة تتصالح مع إيران وسوريا، وحتى مع أرمينيا وروسيا. ويتوقّف الصقور، كدليل على ذلك، أمام البيانات المتلاحِقة لأردوغان، التي أعلن فيها بعد حرب غزة أن "الله سيُعاقب إسرائيل على أعمالها، بعد أن حوّلت القطاع إلى معسكر اعتقال دموي"، ثم بعد المشادّة الكبرى التي حدثت بينه وبين الرئيس الإسرائيلي بيريز في مؤتمر منتدى دافوس، والتي خاطب خلالها الأخير بقوله:" أنتم تعرِفون تماماً كيف تقتلون". ويرى الصقور الإسرائيليون، ومعهم المحافظون الأمريكيون اليمينيون، كما الجُدد، أن مواقف تركيا الأردوغانية نابعة أساساً من المنظور الإسلامي الذي تُطل من خلاله على العالم، وهو بالضرورة منظور معادٍ للغرب وعلى رأسه إسرائيل، وبالتالي، يدعو هذا الجناح إلى فتح النار على تركيا وعلى كل الجبهات، خاصة منها جبهات الكونغرس وهيئات الضغط الكُبرى الأخرى في الولاياتالمتحدة. العثمانية الجديدة هل تحليل الصقور الإسرائيليين في محلِّه؟ كلا. فتركيا لا تطمح لا إلى إحياء الخلافة الإسلامية العثمانية ولا استئناف الحروب مع الغرب ومعاودة مُحاصرة فيينا أو احتلال أوروبا الشرقية. صحيح أنها تتبنّى هذه الأيام شِعار "العثمانية الجديدة"، لكن الوزير داود أوغلو أكّد مِراراً وتِكرارا رفضه لهذه التعبير، إذا ما كان يُوحي بأن أنقرة تريد وصل ما انقطع من دور اسطنبول الإمبراطورية. كل ما تريده تركيا هو ممارسة دور "القوة الليِّنة"، بوصفها الدولة السادسة عشرة الأكبر اقتصاداً في العالم (والسادسة في أوروبا) وهمزة الوصل في قارة أوراسيا والجسر بين الحضارتين، الإسلامية والغربية، والأهم: الأنموذج الجديد الذي يعقِد قراناً سعيداً بين الإسلام وبين الليبرالية والعَلمانية. هذه التوجهات ضمّنها البروفوسور أوغلو في كُتب عديدة منها "الأنموذج البديل: تأثير الإسلام والغرب على النظرية السياسية" و"التحوّل الحضاري والعالم الإسلامي" و"الأزمة العالمية"، لكن أهم هذه الكُتب الذي كان له التأثير الأكبر على السياسة الخارجية التركية الراهنة كان "العمق الإستراتيجي"، الذي وضع فيه أوغلو الخطوط العريضة لهذه السياسة. المبادئ الرئيسية لمقاربة أوغلو الجديدة، هي ما يمكن تسميته "سياسة اللامشكلة" حِيال الدول المجاورة، وهذا على عكس ما كان عليه الأمر في التسعينيات، حين كانت أنقرة تُقيم علاقات مُلتهِبة مع العديد من جيرانها. أيضاً، في الماضي، كانت تركيا تُحاول أن تضمن سلامة أراضيها عبْر السّعي إلى الدفاع عن نفسها ضدّ الأخطار الإقليمية المُحيطة، لكنها مع داود باتت تركيا تعرف أن الدول التي تمارس نفوذاً عبْر حدودها مُستخدمة "القوة الليِّنة"، هي وحدها القادرة حقاً على حِماية نفسها، كما يقول في "العمق الإستراتيجي". ويرى البروفسور، الذي يُطلق عليه وصف "كسينجر تركيا"، أن التغييرات في منطقة الشرق – الأوسط - آسيا الوسطى – قزوين، تتطلب إستراتيجية ديناميكية جديدة، وهذه بدورها تتطلّب نمطاً جديداً (أنموذجاً PARADIGM) من التفكير". ويقول: "تركيا كلاعب دولي، كان يُنظر إليها سابقاً على أن لديها عضلات قوية ومعِدَة ضعيفة ومشاكل في القلب وقوة دِماغ متوسِّطة. بكلمات أخرى، هي جيش قوي واقتصاد ضعيف، وتفتقد إلى الثقة بالنفس وليست جيِّدة في التفكير الإستراتيجي. أما الآن، فتركيا موجودة في مُستويات عدّة من السياسات الدولية وتوّسطت في العديد من النِّزاعات في البلقان والشرق الأوسط والقوقاز، فحوّلت بذلك أعداء سابقين، كروسيا وسوريا،إلى حلفاء حميمين". كان أوغلو هو الذي لعِب دور الوسيط السرّي في كل هذه الوساطات، بما فيها إنهاء الحرب بين روسيا وجورجيا، والمحادثات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل عام 2008، والتقارب بين تركيا وكلّ من أكراد العراق وأرمينيا، وكل هذا يجب أن يجعل أوروبا، برأيه، محتاجة إلى تركيا لتهدِئة منطقة شاسِعة، تمتد من الشرق الأوسط إلى البلقان، مروراً بآسيا الوسطى. هذه إذن، هي أهداف السياسة التركية الجديدة: ضمان الأمن القومي التركي، ليس عبْر التقوقع والعُزلة، بل عبْر الانفتاح وممارسة سياسة القوة الليِّآنة، وهذا الدور بالتحديد، لا يروق البتّة للدولة العِبرية التي كانت تخطِّط منذ أمَد بعيد لاستخدام تركيا كقوة دعم لها (مجرّد قوة دعم)، في مشروعها، لإقامة نظام "الشرق الاوسط الجديد". بيد أن الرياح الأردوغونية جرَت بِما لا تشتهي سُفن إسرائيل، فشبّت أنقرة عن الطّوق الإسرائيلية وبدأت تشق لنفسها طريقاً "إستراتيجياً" مستقلاً في الهلال الخصيب والشرق الأوسط ككل، كما في القوقاز والبلقان، كما حتى مع الدبّ الروسي. البداية كانت العام الماضي في العراق ففي 11 يوليو 2008، وقّعت تركيا والعراق "الاعلان السياسي المشترك لتأسيس المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بين حكومتَيْ العراق وتركيا"، وتعهّدتا ب "تطوير شراكة إستراتيجية طويلة الأمد، تهدف إلى تعزيز التضامن بين شعبَيْ العراق وتركيا"، وهذه البنود نفسها وردَت في الاتِّفاق الإستراتيجي السوري- التركي، الذي تضمّن 40 بروتوكولاً، لكن مع إضافتيْن أخرييْن بالِغتَيْ الأهمية. الأولى، أن الطرفيْن اتفقا على إجراء مناورات عسكرية "أكثر شُمولاً وأكبر حجْماً" من تلك التي أجراها البلدان في الربيع الماضي. والثانية، الاتفاق على إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين. وعلى أي حال، التصريحات التي تلَت توقيع الاتفاق في مدينة حلَب "ملِكة الشرق" (كما وصفها داود أوغلو)، أبرزت الدلائل التاريخية العميقة لهذا التطور. فقد صرّح وزير الخارجية السوري وليد المعلّم خلال مؤتمر صحفي مُشترك مع نظيره التركي: "إن مجلس التعاون الإستراتيجي المُشترك السوري – التركي، الذي أعلن بين البلدين قيامه خلال زيارة الرئيس (السوري بشار) الأسد لاسطنبول قبل شهر تقريباً، يشكِّل في هذا اليوم حدثاً تاريخياً، حيث سنحتفل بعد قليل بعبُور الحدود المُشتركة إيذاناً بالتوقيع الرسمي لإلغاء سِمات الدخول بين البلدين. هذا اليوم، كما سماه الوزير داود أوغلو، هو عيد للشعبيْن الشقيقين، السوري والتركي، وهو نموذج نقدِّمه لكل الأشقّاء في المنطقة". وأمل أن "يحذو البلدان حِذوه في علاقات إستراتيجية، تشمل مختلف المجالات". واعتبر داود أوغلو "هذا اليوم عيداً للشعبيْن اللذين يحتفِلان كل عام بعيديْن، لكن هذه السنة سيحتفلان بثلاثة أعياد، والعيد الثالث هو مُصادفة إلغاء التأشيرات بين العيديْن الفطر والأضحى. واليوم، نخطو الخطوة الأولى لهذا العمل الاستراتيجي". وبالنسبة إلى تعليق سوريا على قرار أنقرة إلغاء المشاركة الإسرائيلية في مناورات "نسر الأناضول"، قال المعلّم: "سوريا كدولة جارة لتركيا، يقلقها كثيراً أمنِياً مثل هذه المناورات وإلغاؤها من الطبيعي أن يسر سوريا، لأن إسرائيل برهنت أنها ما زالت تعتدي على شعبنا الفلسطيني وعلى المسجد الأقصى وتُواصل حِصار غزة وترفض كل جُهد باتجاه استئناف محادثات السلام". بالطبع، هذا الانفراج الكبير لا يعني أن كل المشاكِل قد حُلّت بين البلدين. فمسألة لِواء الاسكندرون المُحتل لا تزال عالِقة ولم يرِد ذِكرها في البيان، لكن يبدو أن مشكلة المِياه العويصة في طريقها إلى الحلّ بعد أن اتّفق الطّرفان على العمل لإقامة "مشروع سدّ الصداقة المشترك" على نهر الفُرات. ماذا الآن عن موقِف الولاياتالمتحدة من كل هذه الانقلابات التركية؟ ثمة تحليلان هنا. الأول، أورده مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، الذي لم يرَ في كل ما تفعل تركيا الآن خطراً على المصالح الأمريكية. لماذا؟ برأيه للأسباب التالية: كل ما تقوم به تركيا هذه الأيام يندرج في إطار لعبة الحياد والتوازن الدقيق التي تنتهجها في المناطق الجغرافية المحيطة بها والتي توفِّر لها (على سبيل المثال) ضمان إمدادات الطاقة من كل مِن روسياوإيران والعراق. إذا ما أصبح البحر الأسود منطقة نزاع رئيسية بين روسيا وأمريكا، فهذا سيفرض تحدِّيات جسيمة على تركيا، أو بالأحرى على الحِياد التركي. بيد أن تركيا ستنحاز دَوْماً في النهاية إلى الولاياتالمتحدة، إذا ما خُيِّرت بين واشنطن وموسكو. ثم أن تركيا لا تستطيع أن تتخلّى عن تحالُفها المكين مع واشنطن، بسبب اعتمادها الكلّي على التسليح الأمريكي وعلى دعم واشنطن لجهودها الهادِفة إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أن أمريكا بطاقة تأمين لها ضدّ الدبّ الروسي، في حال واصل ما انقطع من طموحات جيو - استراتيجية. لكل هذه الأسباب، إضافة إلى رغبة الولاياتالمتحدة في تحويل تركيا إلى نموذج ديمقراطي في العالم الإسلامي، لا تشعر واشنطن بكبير قلق من التغيّرات التركية الراهنة. التحليل الثاني يسير تماماً في عكس الأول. فهو يرى أنه ليست هناك سياسة خارجية أمريكية في الشرق الأوسط الكبير، بل مجرّد سياسة إسرائيلية ترتدي حلّة أمريكية، ولذا، لا ينتظر أن تكون واشنطن مسرورة بما يجري، لأن تل أبيب غير مسرورة. أما لماذا تسكت واشنطن عن توجّهات أنقرةالجديدة، فهذا عائد فقط إلى تضاؤل نفوذها في المنطقة بفعل ورطاتها الكُبرى في كل من العراق وأفغانستان، علاوة على الأزمة الاقتصادية العالمية، الأمر الذي خلق فراغاً تحرّكت أنقرة للإفادة منه. أي التحليليْن الأقرب إلى الصحّة؟ الجواب لم يعُد هاماً كثيراً الآن. الأهم أن تركيا تواصِل تطبيق إستراتيجيتها الجديدة في الشرق الأوسط – القوقاز – البلقان، وهي تبدو مُوحّدة في الداخل (الجيش والحكومة المدنية)، وغير عابئة بالصّراخ الإسرائيلي في الخارج، وهذا ما يجعل إسرائيل المتفاجئة تعيش حالة غير مريحة من القلق والتوتّر والانزعاج. سعد محيو – بيروت – swissinfo.ch