خلال حقبة الوجود العربي في الأندلس لندن: أعاب وزير خارجية مغربي سابق على المؤرخين اليهود عدم اقرارهم بوجود ما أسماه 'حلفاً تلقائياً' بين المسلمين واليهود القدامى الذين عاشوا في الاندلس خلال حقبة الوجود التاريخي للعرب فيها، حيث جرى تفعيل هذا الحلف أثناء الظروف الحرجة التي واجهها الطرفان مع انتهاء هذه الحقبة وطردهم منها. وشمل محمد بن عيسى وزير خارجية المغرب السابق الذي يشغل حالياً منصب الامين العام لمؤسسة منتدى أصيلة بانتقاده هذا الجزء الاعظم من المؤرخين اليهود واستثنى أعداداً قليلة منهم، مبرهناً على حقيقة وجود هذا الحلف بالمعاملة الطيبة التي حظي بها اليهود في المغرب بعد أن نزحوا اليها مع مسلمي الاندلس في أعقاب حرب الاسترداد. وقال ان اليهود أمكنهم في ذلك الوقت أن يستأنفوا حياتهم بسهولة في موطنهم الجديد بأمان واطمئنان وهو مصير مختلف كليةً عما كان ينتظرهم في الاندلس فيما لو مكثوا فيها بعد أن استرد الاسبان الاندلس من العرب. كما أرجع الى العرب والاندلس الفضل في حفظ الكثير من التراث العبراني، بما يشكل حقيقة تاريخية يصعب انكارها على حد تعبيره. ووردت آراء بن عيسى هذه خلال محاضرة ألقاها في قاعة الموزاييك في لندن مساء الاربعاء بعنوان 'التفاعل الحضاري بين المغرب والاندلس: أصيلة قاسماً مشتركاً'، دعا اليها اتحاد المدارس العربية في بريطانيا. وتحدث بن عيسى في محاضرته باسهاب عن الجوانب المضيئة للوجود العربي في الاندلس والذي امتد لنحو ثمانية قرون، معتبراً أن سمة هذا الوجود كانت التفاعل والتداخل والتمازج الحضاري بين ثقافات الشرق وتلك التي كانت قائمة في بلاد الاندلس وشبه الجزيرة الايبيرية ذات الحضارة اللاتينية، واصفاً المنتج الحضاري لهذه الحقبة ب'الاستثنائي' من حيث أثره ومداه الزمني وما توافر عليه من 'منظومة القيم الانسانية' استقطبت اهتمام الباحثين والمؤرخين. وقال ان ما تم انجازه على طريق البحث والاستقصاء فيما يتعلق بحقبة الوجود العربي في الاندلس لا يفي الحقبة كل حقها من البحث والتأريخ، مشيراً الى جهود بعض الجامعات الاسبانية حالياً على هذا الصعيد بأدوات البحث العلمي الحديث حيث يساندها في ذلك عدد من المستعربين الذين يؤمنون بأثر الحضارة الاندلسية في تشكيل هوياتهم القومية. ولفت الى بعض مظاهر المنجز الحضاري للوجود العربي في الاندلس ومنها الانجازات في المجال الفكري والثقافي برموزها وأعلامها المشهورين من أمثال ابن طفيل، وابن ماجة، وابن حزم، وابن خلدون، وابن عبد ربه، وابن بسام، وابن حيان، وابن رشد الذي ترك أثراً بالغاً في نتاج رينيه ديكارت الفيلسوف الفرنسي الشهير الذي يوصف عادةً بأنه أبو الفلسفة الحديثة. كما لفت الى اسهام الحضارة الاندلسية في تشكيل التيار الفلسفي العقلاني في الحضارة الغربية. وفي اطار حديثه عن أوجه التفاعل الحضاري بين المغرب والاندلس، قال بن عيسى ان الانشطة الفكرية التي يجري تنظيمها في مدينة أصيلة ضمن مواسمها الثقافية والفنية السنوية تتم في جامعة أطلق عليها اسم الشاعر الاندلسي 'المعتمد بن عباد' في استحضارٍ للبعد الاندلسي في الثقافة المغربية وما يحمله الاسم من رمزية ثقافية يتقاسمها البلدان ووشائج قوية تربط بينهما. وتحدث أيضاً عن الروابط الاقتصادية التي تطورت لاحقاً بين البلدين لدرجة الوحدة رغم حالة العداء التي لم يكن بد من الاذعان لأحكامها في نهاية المطاف، مشيراً أيضاً في هذا السياق الى الروابط الاجتماعية التي فرضت نفسها على العائلات المغربية بعربها وأمازيغها من جهة والعائلات الاندلسية من جهة أخرى، وما خلفه ذلك من تمازج في الاديان والثقافات. وتحدث عن الدور الذي تلعبه جامعة المعتمد بن عباد الصيفية في اطار المواسم الثقافية التي تنظمها مؤسسة منتدى أصيلة في توفير مناخات النقاش الهادئ والحر بين النخب المغربية والاسبانية بمختلف مشاربها الفكرية من أجل التأمل في صفحات التاريخ المشترك، لافتاً الى أن الجهود في هذا الخصوص امتدت لتشمل أوروبا وأمريكا اللاتينية التي استفادت من الحضارة الاندلسية في مجالات المعمار والموسيقى والازياء وغيرها. وقدم لمحاضرة بن عيسى السيد ضياء فلكي الذي أشار في تقديمه الى الدور المميز الذي لعبه بن عيسى في 'نسج علاقات دولية عززت دعم الأصدقاء لقضايا المغرب العادلة في الحفاظ على وحدته الترابية ومناصرة القضايا العربية في المحافل الأممية'، مشيداً على نحوٍ خاص بمشروعه الذي وصفه بالطموح في منتدى أصيلة الثقافي الدولي، الذي أطلقه في عام 1978 تحت شعار: الثقافة والفن من أجل التطوير، داعيا مجموعة من الفنانين لرسم الجداريات في مدينة أصيلة، ما أدهش أهالي المدينة الذين لم يأخذوا المشروع بجديةٍ بادئ الأمر ذلك الوقت. وقال ان مصداقية بن عيسى واستمراريته في ادارة مجلس مدينة أصيلة، وتوعيته للسكان وحثهم على المشاركة بالرغم من توزيره وانتقاله الى واشنطن سفيراً، جعلت من أصيلة محجاً سنوياً للشعراء والأدباء والفنانين . وأدلى بشهادة شخصية في هذا الخصوص حيث قال انه زار أصيلة هذا العام ووجدها 'في عرس مهرجان، يشارك فيه الطفل الصغير والشيخ الكبير، المرأة الى جانب الرجل كل يؤدي دوره، ومحمد بن عيسى ابنهم بينهم يستحثهم للعمل فيستجيبون له طواعية وعن طيب خاطر، فقد انتقلت مدينتهم خلال العقود الثلاثة الماضية من قلعة منسية على ضفاف الأطلسي الى جسر وصل بين القارات والثقافات والحضارات. وأول معبر لهذا الجسر هو الأندلس التي ترتبط بأصيلة برباط تاريخي وثَقَته جامعة المعتمد بن عباد في دوراتها الصيفية السنوية'. وقال أيضاً ان العرب فاجأوا العالم 'بتجربتهم الأندلسية المبنية على التسامح ومشاركة كافة مواطني دولة الخلافة بتنوع أعراقهم ومنابتهم الفكرية في ادارة شؤون العباد، وأصبحت هذه التجربة احدى المناهل للنهضة الأوروبية الحديثة، وأملنا أن نستعيد دروس هذه التجربة علّها تساعدنا على تلَمس نهضة جديدة لعالمنا العربي ودائرتنا الحضارية الإسلامية' . واختتم فلكي تقديمه قائلاً 'أن هنالك دَيْن لمحمد بن عيسى في عنقنا نحن الجالية العربية في بريطانيا، لا بد لنا من أن نعترف به ونتعهد بالوفاء به، فقد كان السّباق في إطلاق اسم شاعرنا المرحوم بلند الحيدري (أحد أقطاب العمل الثقافي في بريطانيا) على احدى حدائق أصيلة وتخصيص جائزة دورية باسمه للمبدعين من أجيالنا الناشئة منذ عام 1997 . القدس العربي هيام حسان