بلدية تونس تسلط 49 مخالفة صحية على محلات مفتوحة للعموم    الاولى من نوعها ... تظاهرة مخصصة للكفاءات الطبية التونسية المقيمة بالخارج يوم 19 جويلية الجاري    عاجل/ المنظمة العالمية للأرصاد الجوية تحذر: توقعوا في المستقبل موجات حر "أسوأ"..    ترامب يشهر سلاح الترحيل بوجه ماسك    صحيفة: إيران تدرس شراء مقاتلات صينية متطورة    الملعب التونسي ينتدب الياس الجلاصي وحسني قزمير ونور الدين الفرحاتي    كأس العالم للأندية: برنامج الدور ربع النهائي    غوف تودع ويمبلدون من الدور الأول    المنتخب الوطني للكرة الطائرة يشارك في دورة دولية ودية    الرابطة الأولى: الملعب التونسي يتعاقد مع 3 لاعبين    ماهي التيارات الساحبة وكيف نتعامل معها؟ خبير في المناخ يُوضّح..#خبر_عاجل    نحو شفافية أكبر في أسواق الجملة: توقيع اتفاقيتين لتركيز منظومة الفوترة الإلكترونية    ما تعومش عكسو! تعرّف على التيار الساحب وكيف تنقّذ روحك    ماهر الهمامي يدعو إلى إنقاذ الفنان التونسي من التهميش والتفقير    موش الكل ينجموا يستعملوه... الكليماتيزور خطر على برشة عباد!    ''التاي'' الأخضر: التوقيت المناسب يصنع الفارق    المرسى: 12 سنة سجناً وغرامة مالية ب20 ألف دينار لمروّج مخدرات داخل الملاهي الليلية    إنتقالات: مهاجم المنتخب الوطني في طريقه لخوض تجربة إحترافية جديدة    البطولة الفرنسية : جيرو يوقع عقدا لمدة عام واحد مع ليل    عاجل/ في نشرة متابعة للوضع الجوي..أمطار رعدية بعد الظهر..    باش تجي لتونس؟ رخصة الجولان ولات ''بكليك'' وانت في دارك!    كيفاش تستغل دارك والا محلك وتدخل منهم فلوس؟    رصد موجات تنبئ بتسونامي في المتوسط.. ما حقيقة الفيديو الذي أثار الرعب..؟!    بعد 57 عاما.. إدانة تسعيني بأقدم جريمة قتل في بريطانيا    أسامة الرمضاني يكشف عن تعرضه للسحر: "علاه شعملتلكم؟!"    تفاصيل مثيرة في عملية حجز 43 كلغ ''كوكايين'' في صفاقس    معبر غار الدماء: إمرأة تُهرّب المخدّرات بطريقة غريبة...التفاصيل    رئيس الجمهورية يشدد على ضرورة الإسراع بوضع نظام قانوني جديد يحفظ حقوق الأطبّاء والإطار شبه الطبّي والعُمّال    وزارة الفلاحة تصدرا بلاغا تحذيريا..#خبر_عاجل    ماهر الهمامي يدق ناقوس الخطر: "الفنان التونسي وصل إلى القاع... وقانون الفنان طوق نجاة لا يحتمل التأجيل"    عاجل : النادي الإفريقي يتعاقد مع هذا الحارس    شنوة عامل في دارك و القباضة تقيّمها أغلى من جارك؟    خبز الشعير أم السميد؟ أيهما الخيار الأفضل لصحتك؟    وفاة الفنان المصري أحمد عامر    ترامب: إسرائيل توافق على هدنة لمدة 60 يوماً في غزة    وزير السياحة يلتقي ممثلي الجامعة التونسية للمطاعم السياحية والجمعية التونسية لمهنيي فن الطبخ    عاجل/ اخترقوا بيانات حسّاسة لستة ملايين من عملائها: هذه الشركة تتعرض للقرصنة..    بنزرت: وفاة عامل كهرباء بصعقة كهربائية    موسم الحبوب: تجميع 8.325 مليون قنطار    وزيرة المالية.. تسجيل فائض في ميزانية الدولة بنحو 2 مليار دينار مع نهاية مارس    بومهل البساتين.. الحرس الوطني يطيح بمروع المواطنين قرب "ازور سيتي"    كيف تؤثر حرارة الصيف على مزاجنا وسلوكياتنا اليومية؟    تاريخ الخيانات السياسية (2)... قصّة أبي رُغال في هدم الكعبة    عاجل/ قريبا.. هذا موعد الإنتهاء من مشروع "جسر الطاقة" بين تونس وإيطاليا    إطلاق إستشارة عمومية حول مشروع كُرّاس الشروط المتعلق بممارسة نشاط خدمة شحن السيّارات الكهربائية    هدى بوسيف رئيسة جمعية تواصل بايطاليا: " نعمل على تعليم أطفال المهجر و علاج أطفال الداخل "    عاجل/ أوّل تصريح من وليد التونسي بعد شائعة وفاته    أشغال صيانة على الطريق السيارة أ1: دعوة إلى الحذر وتخفيف السرعة    صبّ المال وهات"... أغنية جديدة للفنانة زازا "    "نغمات 3" في مدينة الثقافة:الدخول مجاني لسهرة الطرب و"الربوخ"    البحر المتوسط يُسجّل أعلى درجة حرارة في جوان المنقضي    وزير التجارة يدعو الى استغلال الفرص المناحة لتحقيق عقود تجارية تعود بالنفع على الميزان التجاري    مهرجان مالطا السينمائي لأفلام البحر المتوسط : الفيلم التونسي "وين ياخذنا الريح" لآمال القلاتي يفوز بجائزة النحلة الذهبية لأفضل فيلم طويل    فلاحة : متابعة المراقبة والتصديق على حصص بذور الحبوب الممتازة بعدد من الشركات المنتجة للبذور    أولا وأخيرا: «قرط» وتبن وقش    استبدال كسوة الكعبة مع بداية العام الهجري    ما هي الأشهر الهجريَّة؟...وهذا ترتيبها    مطرزا بالذهب والفضة والحرير.. السعودية تكسي الكعبة ثوبها السنوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثائر ضد الحريم :عزيز العرباوي
نشر في الفجر نيوز يوم 29 - 11 - 2009

هو في هذا العالم وحيد فريد، وفقير، وضائع في أرقى درجات الضياع، أما الناس الآخرون الذين يعيشون حياتهم في سلاسة، وطبيعية، رغم المشاكل التي قد يكونون يعانون منها، لكنها لا تظهر له إلا مجرد تفاهات سرعان ما يمكن التغلب عليها حسب فهمه. أما حياته هو، فهي معنىً جديد للحياة التراجيدية التي يمكن أن يستغرق فيها أي امريء. لو كان يعلم أن حياته ستؤول في الأخير إلى هذا الضياع، لتوسل لأمه أن لا تنجبه وتخرجه إلى النور أبدا، ولأبقت عليه داخل أحشائها، على الأقل سيكون في راحة تامة، يأكل ويشرب، ويتسكع بحرية داخل رحم أمه، ويحس بدفء الحياة الذي أصبح يفتقده في كل الأوقات.
إن المسافة التي تربط بين مكان عيشه في "كراج" ، لا يبدو عليه أي شيء يوحي بالحياة، وبين أمكنة أخرى في ذات المدينة، قد ملت من افتراسه لها في كل وقت وحين وكرهت رؤيته في لحظات كانت تود أن تغير من الوجوه التي ترتادها وتقطعها. كانت تتمنى أن ينسى أو يتناسى في يوم من الأيام عادته القبيحة هذه. لكن دون جدوى. فعزاؤه الوحيد هو التنقل والحركة ورؤية الناس والأماكن والمرافق التي يراها في مخيلته أنها مجرد أشياء جامدة وميتة لا تسمن ولا تغني من جوع.
أما الزوار الذين يزورونه بين الفينة والأخرى، في النهار، لكي يقضوا معه ساعات الروتين القاتل أو لكي يسمعوا منه قصة حياته التي رواها لكل من يعرفه ومن لا يعرفه. المهم هو أن يجلس إليه المرء ويطرق معه موضوع النساء، أو تمر من أمامه فتاة أو امرأة متزوجة يظهر عليها عدم الحشمة في لباسها أو في مشيتها أو نظراتها، حتى يسترسل في سب النساء وقذفهن بأقذع النعوت والشتائم، ويهيم في قصة حياته مع زوجته التي جرجرته في المحاكم بالقضايا والدعوات والشكايات وأظهرت له الوجه البشع للمرأة وكيدها وكرهها للرجل، بل جعلته يعيش حياته الباقية على حكي قصتهما، فصار حكيم زمانه ينصح هذا بأن يحترس من النساء، ويتوعد ذاك بما سيؤول إليه لو هو وضع ثقته العمياء فيهن... فكان من زواره من يشاركه نفس الهموم فيذهب معه في نفس الاتجاه، ومن يحاول الدفاع عن المرأة ويغير من رؤيته التشاؤمية عنها. وكنت أنا من الصنف الثاني، كلما طرح قصة حياته للنقاش إلا وأحاول أن أثنيه عن أفكاره السوداوية وأبين له أن ليس كل النساء سواء كما أنه ليس كل الرجال سواء، وأنه لو حاول إصلاح ذات البين بينه وبين زوجته لنجح في ذلك. ولكن لا حياة لمن تنادي. فالرجل متشبع بفكر الكراهية لعموم النساء، وليس بمقدور أي أحد أن يغير اقتناعه ذاك.
لو كان باستطاعته فقط أن ينتقم من جميع النساء بلا رحمة وبدون متابعة أو محاكمة، ثم بعد ذلك يرتاح، ولا يطلب من الدنيا شيئا آخر، لفعلها وأراح ضميره منذ أن ذاق أول طعم للخيانة والمرارة من قبل زوجته. ولسوف تصبح هذه الحالة عنوان خروجه من الأسر الذي طوق نفسه به. لكن ريح الزمن جرت بما لا يشتهيه " نور الدين"، وبقدر قوة هذه الريح وطغيانها وجبروتها، والتي ما استمعت إلى توسلاته، كانت نهايته التي شارك في صنعها بيديه فأصبح يئن أنينا عظيما، ويعاني معاناة ما بعدها معاناة.. !
إنه تماما كالصدى يصدر من أعمق نقطة في جب الحياة الدفين ! بل كقطعة خشب تطفو فوق محيط عظيم !
في ذاك المكان الضيق في "كراج" بارد، كان عقله يحمل آلاف الأفكار السوداوية حول المرأة، ويملك ما لا يملكه أي شاعر في الدنيا من الأقوال والحكم التي تنزل المرأة من أعلى هرم في عقل وقلب أي عاشق، وغالبا ما كان يعلن بصفة الحقود أفكاره تلك ومواقفه المتطرفة أمام الجميع، وحتى أمام النساء أيضا، كي يثير حفيظتهن ويدخل معهن في نقاش حامٍ سرعان ما ينقشع بمجرد انسحابهن من أمامه.
كان الروتين والوحدة عاملان إضافيان لتتجه قناعاته نحو التطرف والحقد والضغينة للجنس اللطيف، ظنا منه أن المرأة هي سبب تشرده وضياعه وروتينه القاتل هذا، فلولاها لما اضطر إلى الاغتراب عن أولاده لينتقل إلى مدينة أخرى من أجل العمل وتحقيقه لقمة العيش لها ولأولادها، إنها بالنسبة إليه، تلك اللعنة التي أصابته منذ أن عرفها وارتبط بها. ورغم ذلك الشعور الحاقد عليها وعلى الارتباط بها، فإنه مازال يتصلبالمرأة ويمارس معها الجنس، وغالبا ما يترك مقر عمله ليذهب إلى قريته بمدينة أخرى لقضاء ليال ملاح في حضن عشيقته هناك ليشبع رغباته الحيوانية ثم يعود بحمولة فكرية متطرفة أكثر حول المرأة، إنه يعيش انفصاما في الشخصية تجاه المرأة بصفة عامة.
يبدو في فكره الغامق، وكأنه مخلوق من عالم فريد وغريب عن باقي العوالم، كما لو أنه يسبح في فضاء عقيم لا يبين أي شعور أو حياة، والاقتراب منه أحيانا يولد عند المرء شيئا من السوداوية تجاه كل شيء. ليخرج قليلا من الحقيقة المتمثلة في الكون، والبادية لجميع الناس الذين عرفوا أننا مجرد عابرين في سكة الحياة هذه حتى ولو عمرنا عقودا من السنين. بينما كان الناس الآخرون يعيشون حياتهم كما هي بمحاسنها ومساوئها ثم يحمدون الله على كل شيء، لازال هو في مكانه يستغرق تفكيره في كيفية الوصول إلى الانتقام. كان ومازال يستمع لصوت واحد يحرضه على الضياع والبقاء خارج الظل، ألا وهو صوت الأمية والجهل.
- فلتنتقم لشرفك، إن النساء حبائل الشيطان، أفاعي، لا يليق بهن الحب والرحمة...
كان "نور الدين" رجلا بدينا وقصير القامة، ويبدو عليه الفقر وعدم القدرة على مواجهة الحياة الصعبة، فهو يريد الحياة السهلة، ولذلك قرر أن يتعاطى السمسرة في كراء الشقق في الصيف وغيرها من المهن التي تماثل السمسرة، إضافة إلى عمله القار الذي كلفه به صهره ليبيع له الشقق المتبقية من الإقامة السكنية.
إن الصوت الذي يدفع"نور الدين" إلى الانتقام، هو نفس الصوت الذي يدفع العديد من الناس إلى القتل المجاني للأبرياء، ويرمي بهم في عالم مليء بالظلام والسواد والضياع، وهو نفسه الصوت الذي يجعل بعض الذين يتحكمون في مصير هذا الكون بالمادة يقتولن ويحتلون ويذبحون باسم قيم لا نعرف عنها إلا أنها لا تمنح لأي كان الحق في التحكم في الناس باسم أي مبرر. فكان عليه أن يواجه هذا الصوت، على الأقل لأنه ليس لديه طموحات نفطية أو استعمارية أو غيرها من الطموحات التي تعطي لتلك القوى الأخرى لتفعل الأفاعيل.
من الأكيد، كان عليه أن يعيش حياة أخرى غير هذه الحياة العفنة، مثلما جميع الناس في بلادي من حقهم أن ينعموا بحياة سعيدة وهادئة، وعلى السياسيين الذين يتقدمون للانتخابات ببرامج غير ذات جدوى ولا منفعة أن يغيروا من رؤيتهم للناس على أنهم أغبياء وجهلة ومتخلفون ولا يعرفون غير منطق البيع والشراء في كل شيء. إنهم بهذا الفعل الشنيع يكرسون أمثال "نور الدين" ومن يسير في ركبه. كان عليهم أن يدرسوا حالة الناس قبل أن يقدموا برامجهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويحاولون الحفاظ على القدر الأدنى من الكرامة والشفافية التي يدعونها عند كل مدخل انتخابي. فالاستغلال ذميم ويجعل من البلاد فريسة لكل غريب ويجعل من أهلها لقمة سائغة لأي تيار ثقافي أو سياسي أو اجتماعي يقضي على قيمهم أبدا.
هل أصبح "نور الدين" خارج التاريخ بحمله لثقافة التطرف ضد ما هو أنثوي؟ أم أنه دخل التاريخ من أبوابه الواسعة بحكم التغير الحاصل في حقوق المرأة والدفاع عنها في كل مكان، وصار ورقة جديدة للضغط على المنادين بهذا التغير؟ من الضروري أن نضعه ومن هم في شاكلته في موقع المعارضة والوقوف ضد كل تغيير أو تقدم في هذه الأمور التي إذا تم التراجع عنها، فإننا سنكون قد فقدنا الكثير قبل الانطلاق من جديد. هذا ما يمكن لأي عاقل أن ينتهي إليه ويستخلصه من هذه الأفكار. !
عزيز العرباوي
كاتب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.