بعد المعادلة التي راجت في التسعينات بين نظام الرئيس الراحل صدام حسين والأمم المتحدة، والمتمثلة في النفط مقابل الغذاء. يبدو أن معادلة جديدة في طريقها إلى التطبيق، والمتمثلة في النفط مقابل الاستبداد، والتي اتضحت خلال زيارة العاهل السعودي مؤخرا إلى بريطانيا، حيث حاولت الحكومة البريطانية لجم المعارضين للزيارة، والذين استغلوا الفرصة للحديث عن سجل السعودية في حقوق الإنسان، وبعد تلك الزوبعة التي كان وراءها شخصيات سياسية في المعارضة، جاءت زيارة القذافي إلى فرنسا لتصبح هذه المعادلة أكثر وضوحا من ذي قبل، بكل ما رافق الزيارة من تصريحات وتصريحات مضادة، وتأكيد وتكذيب، حتى تحول وجود القذافي في باريس إلى مأزق للحكومة، التي وافقت على كل طلباته، حتى وهي تدين بشدة سجله في حقوق الإنسان. كلام يدعو للرثاء لعل ما ساهم في كل ذلك هو أن القذافي وصل إلى فرنسا بعد 34 سنة من زيارته الأولى في اليوم العالمي لحقوق الإنسان. في مثل هذه المناسبة لم تجد وزيرة حقوق الإنسان مفرا من الإدلاء بتصريحات قاسية ضد القذافي قائلة "أن بلادها ليست ممسحة أقدام يمسح فيها المرء دماء جرائمه"، وهذه التصريحات تعتبر سابقة في العرف الدبلوماسي، فعادة يتم التوافق على القبول بزيارة الضيف أو رفضها، ولكن ما حدث هو الحماس الشديد للزيارة ثم عدم التوقف يوميا عن إهانة الضيف. هذا ما فعله وزير الخارجية كوشنير، وليس زعيم المعارضة عندما صرح أن القذافي "منتهك محترف لحقوق الإنسان"، ثم عبر عن سعادته بعدم حضوره لحفل العشاء الذي أقيم على شرف القذافي، وأخيرا وصف تصريحات القذافي حول معاملة أوروبا للمهاجرين قائلا إنه كلام "يدعو للرثاء"، ولم يسلم الرئيس ساركوزي من احراجات سببها تصريحه بأنه تحدث مع القذافي عن حقوق الإنسان في ليبيا، وفي اليوم التالي كذب القذافي ما قاله ساركوزي، ليعود الأخير مستشهدا بسكرتير الرئيس الذي شهد بأن رئيسه تحدث عن حقوق الإنسان مع القذافي في مناسبتين.
إهانة للديمقراطية لم ينجح القذافي بالمليارات العشرة من اليوروهات في لفت انتباه الرأي العام الفرنسي بعيدا عما يحدث في بلاده من انتهاكات. لم ينجح في ذلك حتى باستخدام الخيمة البدوية، والحارسات الفاتنات، وخاصة عندما كانت الإجراءات الأمنية المشددة تغلق الشوارع في وجه الباريسيين أثناء مرور موكبه، وعندما قام بجولة في نهر السين أقفلت كل الجسور التي مر مركبه تحتها الواحد تلو الآخر، وتساءل الفرنسيون "هل عدنا إلى عصر لويس السادس عشر؟"، ربما لذلك مزقوا كل صور القذافي التي تولت شركات الإعلان إلصاقها في شوارع باريس. انسحب أيضاً نواب اليسار وبعض نواب اليمين من الجمعية العامة "البرلمان" بسبب زيارة القذافي لها، وبالرغم من أن الجمعية رفضت أن يلقي القذافي كلمة أمام برلمانيي فرنسا، وأقتصر لقاؤه على رئيس البرلمان، وبعض النواب الذين يؤمنون بجدوى الزيارة، فقد عبر بقية النواب عن غضبهم، واعتبروا أن دخول القذافي إلى الجمعية العامة يعتبر "إهانة للديمقراطية". موغابي الفقير لم يواجه القذافي مثل هذه المعارضة في لشبونة عندما حضر القمة الأوروبية الإفريقية، ربما لأنها ليست زيارة رسمية للبرتغال، وأيضا بسبب حضور الرئيس الزمبابوي روبرت موغابي الذي تحمل لوحده سهام النقد، لدرجة أن رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون رفض حضور القمة، احتجاجا على حضور موغابي، دون أن يشمل الاحتجاج بقية رؤساء إفريقيا الذين على شاكلة موغابي. ومعروف أن هناك انتخابات دورية في زيمبابوي، ويسمح نظام موغابي بوجود أحزاب في بلاده، ومن بينها أحزاب المعارضة التي تعاني في ظل نظامه، وهي أشياء يعترض العقيد القذافي على وجودها في بلاده. فلماذا يهاجم موغابي ويستثنى غيره؟ هل لأن بلاده فقيرة، ولا يوجد بها النفط الذي يوجد في السعودية وليبيا؟ ساركوزي البرغماتي عمليا نجح ساركوزي في الحصول على عشرة مليار يورو من القذافي، وفي بيع طائرات رافال التي لم تنجح فرنسا في بيعها لأي زبون، وفي بيع تكنولوجيا نووية من مزاياها أن مالكها الجديد لن يستطيع من خلالها صنع أسلحة نووية، وقبل ذلك نجح في عقد صفقتين مع المغرب ثم الجزائر، ولا يزال يمضي قدما في مشروعه المتوسطي الذي يتحمس له دول شمال إفريقيا، ويشعر الأوروبيون من خلاله أن فرنسا فقدت الحماس في الإتحاد الأوروبي، وتتجه لضمان مصالحها بعيدا عن مصالح أوروبا. كل ذلك يحدث بينما لا يزال الرئيس بوش عالقا في وحول العراق، وهي أفضل فرصة لفرنسا التي استفادت مرتين من معارضتها لخطط بوش، ومن فشل هذه الخطط فيما بعد. ولكن النجاح الفرنسي البرغماتي يحتاج إلى أن تغض فرنسا النظر عن الاستبداد المستشري في جنوب المتوسط حيث الشركاء الجدد. الاستقرار وليس التغيير لم يكتف ساركوزي بالدفاع عن زيارة القذافي بل فعل كل ما يستطيع من أجل ضمان راحته، فليس كل يوم متاح الحصول على مثل هذا المبلغ، الذي قد يصرف جزء منه لحل مشكلة الضواحي، لذلك لم تتردد الشرطة الفرنسية من اعتقال كل المعارضين الليبيين الذين وصلوا إلى باريس للتنديد بزيارة القذافي، وأطلقت سراحهم بعد ساعات. في الأسبوع القادم سينصب القذافي خيمته في حدائق قصر البارود في أسبانيا، وعندها سنتأكد مما إذا كانت أوروبا قد اتفقت على معادلة جديدة تنسجم مع التوجه الأمريكي بعد فشله في العراق، والذي يهدف بعد ترويجه لفرض الديمقراطية بالقوة إلى الحفاظ على الأنظمة الحاكمة، طلبا للاستقرار، مع فرض بعض الضغوط لتحسين سجل حقوق الإنسان في هذه البلدان، والتي يمكن تلخيصها بالنفط مقابل الاستبداد.