يقول الجاحظ في كتاب التربيع و التدوير: كيف يعرف السبب من يجهل المسبب، و كيف يعرف الوصل من يجهل الفصل، و كيف يعرف الحدود من لم يسمع الفصول. بل كيف يعرف الحجة من الشبهة، و الغدر من الحيلة، و الواجب من الممكن، و الغفل من الموسوم، و المحال من الصحيح و الأسرار من المجهول وكل الدلائل الخفية... من هو طائر مع العوام حيث طارت، وساقط معها حيث سقطت، مع الزراية و الرغبة عنها. قد طلبها بفضل طلبه لنفسه، و جرى معها بقدر مناسبتها لقدره... ... يا عمّ، لم تحملنا على الصدق؟ و لم تجرعنا مرارة الحق؟ و لم تعرضنا لأداء الواجب؟ و لم تستكثر من الشهود عليك؟ و لم تحمل الإخوان على خلاف محبتهم فيك؟... فقل معروفا فإنّا من أعوانك، و اقتصد فإنّا من أنصارك. و هات فإنك لو أسرفت لقلنا قد اقتصدت، ولو جرت لقلنا قد اهتديت، ولكنك تجيء بشيء ( تكاد السّماوات يتفطّرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدّا). لو غششناك لساعدناك، و لو نافقناك لأغريناك." يشق النخبة المعنية بالشأن العام في تونس خلاف منهجي عميق حول مناهج العمل الأنسب لإحداث التغييرات الضرورية لتجاوز مرحلة الإحتقان السياسي و توسيع مجال المشاركة السياسية بما يسمح بإدخال الإصلاحات التي يكاد يتفق الجميع على ضرورتها على آليات عمل مختلف مؤسسات الدولة تحقيقا للمواطنة السياسية في اتجاه القطع نهائيا مع حكم الحزب الواحد و الممارسة الشمولية للسلطة التي كرّست على مدى نصف القرن المنقضي على إعلان الجمهورية. و يتزامن هذا الخلاف مع بروز إختلالات خطيرة في عمل بعض المؤسسات على حساب دورها الطبيعى سواء من خلال توظيف بعضها في الأغراض الأمنية القمعية الحامية للسلطة أو من خلال إستغلال البعض لها بحكم موقعهم في السلطة للإثراء غير المشروع و تكديس الثروات. و قد خلقت هذه الحالة ضغطا مضاعفا إنعكس في تأجيج حدة الإنتقادات من جهة و زاد من درجة سياسة الإنغلاق و التعتيم التي تنتهجها السلطة وأكدها خطاب رئيس الجمهورية بمناسبة الذكرى العشرين لتوليه السلطة. و يبدو الوضع السياسي في حالة جمود مزمن منذ حوالي 20 سنة. حيث لم يطرأ على الخارطة السياسية تغيير يذكر، كما بقيت تحوم حول نفس المقولات و الرموز التي ظهرت مع الأزمة السياسية التي صاحبت نهاية حكم الرئيس الحبيب بورقيبة و التي تتجاذبها ثنائية متناقضة لخصها عنوان ورقة صدرت مؤخرا حول الإصلاح السياسي بموقف التردد بين "جاذبية التسلط و جاذبية الديموقراطية" و تعكس هذه الحالة موقفا إضافة إلى جموده يشكو من إهتزازه و تعويله أساسا على مبادرة السلطة و محاولة الضغط عليها سواءا بالمساندة أو بالمعارضة أو بالإحتجاج حيث أن الإستراتيجيات الثلاثة رغم ما يبدو من تناقض فيما بينها تتفق تماما في غاياتها و لا تنتظر سوى أدنى إشارة من السلطة لتنقلب للتهليل و التمجيد كما حصل في 7 نوفمبر 1987. و هو وضع خلف معارضة مهترئة لم يعد لها وزن تهدد السلطة أو حتى تفيدها به و هي السمة الغالبة على الوضع القائم حاليا. و يمكن تلخيص التيارات التي يتوزع حولها الرأي العام حول الموقف من السلطة إلى ثلاثة مواقف أساسية: تعتمد المقاربة الأولى التأكيد على أولوية حماية المكاسب الحداثية التي تحققت على مستوى النموذج الإجتماعي الذي أصبح عليه المجتمع التونسي بفعل الإصلاحات التي أدخلها الرئيس الحبيب بورقيبة منذ بداية الإستقلال على تحقيق الإصلاحات السياسية الديموقراطية إذا كانت نتيجة هذه الأخيرة ستقود إلى فتح باب السلطة أمام تيارات من شأنها أن تهديد هذه المكاسب. و خلاصة هذه المقاربة التي يرمز لها الأستاذ محمد الشرفي أن في استمرار تعميق هذه المكاسب الإجتماعية توطيد لها بفضل دخول أجيال جديدة تربت عليها مرحلة الفعل و المشاركة تجعل منها الأغلبية الضاربة داخل المجتمع بما يكرس هذا النموذج الإجتماعي بشكل لا رجعة قيه و يسمح بالإنتقال إلى وضع قابل لتحول إلى الديموقراطية بدون مفاجآت. و لا يبدو على نحو ما تحقق فعليا في الواقع خلال العشريتين الأخيرتين من عودة قوية للمرأة للحجاب و اكتساح الفكر السلفي لأوساط الشباب أننا في حاجة إلى التعليق على النتائج العكسية التي قادة لها هذه المقربة خاصة إذا نضرنا إلى ما توفره لنا نتائج الأبحاث الإجتماعية الدولية و الرسمية سواء من حث ترتيبنا على المستوى الدولي في مجال المساواة بين الرجل و المرأة و أو في مستوى إنخراط الشباب في الإهتمام بالشأن العام. و لكن ما يجدر التوقف عنده في هذا المجال ينعكس أساسا في التداعيات السياسية الحاصلة على مكونات التيار السياسي القائل بهذه النظرية و المتجسدة في فشل "المبادرة الديموقراطية" و زيادة تشرذم المجموعات التي كانت تسعى إلى الإلتقاء في إطارها ثم الإنشقاق الحاصل داخلها إثر الإضراب عن الطعام من أجل الحريات و قيام هيئة 18 أكتوبر و أخيرا الأزمة المفتوحة التي تعيشها حركة التجديد بعد مؤتمرها الأخير فضلا عن تراجع حصتها في مجلس النواب إلى نائبين بعد أن كانو 7 نواب في الدورة السابقة. و لعل النضرة الموضوعية لهذه المحصلة لا تدع حاجة للتعليق عن نتائجها الكارثية لا فقط على الوزن السياسي لهذا التيار و لكن على وزن المعارضة بشكل عام. أما المقاربة الثانية فقد بنت استراتيجيتها على استشراف للتداعيات الكبرى المنتظرة لأحداث 11 سبتمبر و الغزو الأمريكي للعراق تجسدت من خلال القبول بصفقة سياسية مع النظام تنخرط بموجبها في نهج وفاقي تدعم به الجبهة الداخلية مقابل السماح لها بهامش من الحرة التنظيمية تراهن من خلاله على دعم موقعها على الخارطة السياسية الداخلية تهيئا للظروف السانحة بتحقيق النقلة الديموقراطية التعددية الحقيقية. و يرمز لهذا التيار ذي المنحى العروبي القومي بشكل أساسي السيد محمد مواعدة الأمين العام السابق لحركة الديموقراطيين الإشتراكيين و بدرجة أقل السيد عبد الرحمان التليلي. و قد كنت تناولت بشكل تفصيلي في مقال سابق التداعيات الحقيقية لهذا التوجه على الأحزاب المندرجة في هذا التيار( ) و يكفي التذكير هنا بوضع التهميش الذي حكم به على السيد محمد مواعدة و وضعية السجن التي آل إليها السيد عبد الرحمان التليلي و تعمق حالة التفكك التنظيمي التي أصبحت عليها هذه الأحزاب. و نذكر في الختام المقاربة الثالثة التي لخصها الدكتور المنصف المرزوقي في مقولته الشهيرة في الحكم على النظام القائم بأنه لا يصلح و لا يصلح و التي إعتبرها مؤخرا الدكتور راشد الغنوشي بأنها الأقرب إلى تشخيص الواقع. و لا يبدو لنا هذا التيار قائم على إستراتيجية سياسية منسجمة وواضحة المعالم قابلة لتفعيل مختلف الطاقات الملتقية موضوعيا مع أفكاره كما أن الصراع على الزعامة داخله بين قطبيه الأستاذ الشابي و الدكتور المرزوقي قد افشل كل المحاولات لبناء جبهة سياسية حوله كما جسم ذلك تداعيات عقد مؤتمر إيكس للمعارضة التونسية أو تشكيل هيئة 18 أكتوبر حاليا. و لابد من الإشارة إلى أن كل هذه المواقف منتشرة و إن على درجات مختلفة داخل أوساط الحزب الحاكم كما داخل أوساط المعارضة وقد حصل أول تصدع في المنظومة الشمولية للحكم بانشقاق الجناح اللبرالي للحزب الحاكم الذي تغلب في الإنتخابات الداخلية للحزب في مؤتمر المنستير بعد أن رفض الرئيس بورقيبة نتائج المؤتمر و أمر بإعادته و قاموا بتأسيس حركة الديموقراطيين الإشتراكيين التي واجهت الحزب الحاكم في الإنتخبات التشريعية سنة 1984 و تفوقت عليه في عدة ولايات إلا أن الرئيس بورقيبة رفض نتائجها و أمر بتزويرها لفائدة إحتكار الحزب الحاكم للسلطة و أجهض بذلك الولادة الطبيعية للتعددية السياسية. ثم إنشقت على الحزب الحاكم المركزية النقابية الإتحاد العام التونسي للشغل و هي ثاني تنظيم من حيث الحجم بعد الحزب الحاكم في تونس و كانت السبب في ترجيح كفة الحبيب بورقيبة عند إعلان الإستقلال على حساب صالح بن يوسف الأمين العام للحزب و قد تم مواجهة إنشقاقها بإلقاء القبض على قيادتها و نشطائها و إيداعهم السجن. ثم ظهرت أخيرا حركة الإتجاه الإسلامي التي دخلت في مواجهة شاملة مع النظام في عهد الرئيس الحالي معتمدة على المد الشعبي الذي عرفته في تلك الفترة مما جعلها تثير توجس الجميع و سهل القضاء عليها و لا يزال الكثير من قادتها رهن الإعتقال أو منفيين لحد اليوم. و قد أدت هذه الإنتكاسات لكل محاولات تكريس التعددية إلى أن الأدوات التعبوية و الجماهيرية التي كانت قائمة منذ عشرين سنة لم تعد متوفرة اليوم و ما بقي منها يمر بمرحلة إنحلال و حصار مضيق يحرمها من القدرة على الإقدام أي مبادرة حقيقية لكسر القبضة الأمنية التي أطبقت على المجتمع ككل. لذلك نجد أن الخطاب السياسي المعارض في الوقت الحاضر يراهن أساسا على توتر الوضع الإجتماعي داخليا أو التوسل بالضغوط الأجنبية و خاصة الأوروبية و هي استراتيجية نجح النظام لحد الآن في إحتوائها سواءا بالمحافظة على نسبة نمو مستقرة أو من خلال تعميق علاقاته الخارجية بما يستجيب لمصالح الدول التي من شأنها الضغط عليه. و لكن هذا الوضع لم يحقق سوى إستقرار نسبي على حساب مصداقية العمل السياسي و أدى بشكل غير مسبوق إلى إهتراء الطبقة السياسية بشكل عام و التي أصبحت في نظر الرأي العام مرادفا للإنتهازية و الخضوع أو الديماغوجية و الفشل فضلا عن عدم تجددها و شيخوختها بما يؤشر لفراغ خطير لن يملأه الرئيس بن على إلى ما لا نهاية له مهما بولغ في النفخ في هالته عدى خطورة الآثار العكسية لهذه الإستراتيجية الدعائية البدائية. المختار اليحياوي – تونس 13 ديسمبر 2007