منذ الصيف الماضي، على الأقل، والموضوع الإخواني يحتل صفحات الصحف الأولى، في مصر وفي قطاع واسع من وسائل الإعلام العربية. كان التطور مصدر الاهتمام في البداية هو تصعيد القيادي الإخواني عصام العريان إلى مكتب إرشاد الجماعة بمصر. وقد حدث عندها أن أكثرية مكتب الإرشاد رفضت اقتراح المرشد، محمد عاكف، بتصعيد العريان، وقالت بضرورة أن ينتخب انتخاباً من مجلس الشورى. خلال الشهور القليلة الأخيرة من العام الماضي، برز تطور جديد في الملف الإخواني، وهو ذلك المتعلق بانتخابات مكتب الإرشاد الجديد، وما واكبه من خلافات حول انتخاب المكتب من قبل مجلس الشورى الحالي، أو الانتظار حتى انعقاد مجلس الشورى القادم، الذي تكتمل انتخاباته في أشهر الصيف. وأخيراً، جاء انتخاب المرشد العام الجديد، المرشد الثامن للجماعة، بعد أن أصر المرشد السابق محمد عاكف على الاستقالة، في خطوة غير مسبوقة في مسيرة الإخوان المسلمين الطويلة. ما الذي يعنيه بروز الملف الإخواني إلى مركز الاهتمام، من جهة تطورات الوضع الإخواني الداخلي، وما دلالته، مصرياً وعربياً؟ في كل الحلقات الثلاث السابقة، كان الجدل يدور حول التدافع الإخواني بين تيارين: الأول، ويوصف بالراديكالي، الانعزالي، المحافظ، أو التنظيمي، والثاني، ويوصف بالإصلاحي، أو تيار العمل العام. التيار الأول، الذي يغلب على قياداته عناصر من التنظيم الخاص لمرحلة ما قبل 1954، وأعضاء سابقين في تنظيم 1965، المتأثرين بكتابات سيد قطب، يعمل على تقديم العمل التنظيمي والدعوي والتنشئة الدينية الأيدولوجية؛ أما التيار الثاني، الذي يغلب على قياداته عناصر من جيل السبعينيات من القرن العشرين، فيسعى إلى انفتاح الإخوان على المجتمع والقوى الوطنية المصرية الأخرى، والانخراط في الحياة السياسية العامة. وقد برز ما يشبه الإجماع بين مراقبي الشأن الإخواني، وهم كثر بلا شك، أن التيار الراديكالي (المحافظ) الانعزالي نجح في السيطرة على مكتب الإرشاد الجديد، سواء بإطاحة إصلاحيين كبار مثل عبدالمنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب، أو بضبط العملية الانتخابية لاختيار أعضاء المكتب؛ وأن هذا التيار نجح إضافة إلى ذلك في الإتيان بمحمد بديع، أحد القطبيين المعروفين، مرشداً ثامناً للجماعة. بذلك، يسود الاعتقاد، ستشهد الحياة السياسية المصرية انسحاباً هادئاً للإخوان من العمل الوطني العام. بعض هذه الاستنتاجات صحيح، وبعضها، على الأرجح، ليس كذلك. لا يجب أن يكون هناك شك في أن الإخوان يعيشون أجواء أزمة. جدل وجهات النظر داخل صفوف الإخوان يمثل العامل الثانوي في هذه الأزمة. السبب الرئيس يتعلق بالوضع المصري السياسي ككل. تعتبر جماعة الإخوان في مصر جماعة غير شرعية، بمعنى أن وجودها غير مرخص قانونياً. وقد حاول الإخوان التعايش مع هذا الوضع منذ إعادة تأسيسهم الثانية في منتصف السبعينيات، ولكن كثافة الحملات الأمنية على الجماعة خلال العقد الأخير، أوجدت أجواء من التوتر وفقدان المناخ الطبيعي داخلها. ما يفاقم من هذا الوضع، هو انكماش الحياة السياسية في البلاد. ثمة حرية صحافية هائلة في مصر، حرية لا تتمتع بها أي من دول المشرق العربي، ولكن المعارضة المصرية تقول ما تريد، والحكم يفعل ما يريد، ليس ثمة أهمية للرأي العام، لا رأي النخبة، ولا رأي القوى والأحزاب السياسية، ولا المنظمات الاجتماعية والمدنية، وتعيش البلاد مناخاً من عدم الجدوى، بل فقدان الأمل. وفي مثل هذا الوضع، حيث يرى الإخوان أنفسهم، ويراهم الآخرون، أكبر وأبرز قوى المعارضة المصرية، لم تعد هناك من إجابة واقعية ومنطقية ومقنعة لسؤال ما العمل. لا الإخوان ولا غير الإخوان يبدو قريباً من الإجابة على هذا السؤال؛ وهذا هو جوهر الأزمة، أزمة الإخوان وأزمة الحياة السياسية المصرية. عندما تصبح قوة سياسية ما غير قادة على الإجابة على السؤال السياسي المحوري، فليس من المستغرب أن تتضخم مساحات التباين بين وجهات النظر داخلها. عندما يقول البعض إن أولوية الجماعة لا بد أن تكون الانخراط في العمل السياسي العام، في التحالف مع القوى السياسية الأخرى، وفي التصدي للقضايا الوطنية الرئيسة، تجد آخرين يجادلون بأن ما الفائدة من ذلك، إن كان مثل هذا النهج سيضع الإخوان في موقع الاستهداف الدائم من نظام الحكم، ولن يحقق أية نتائج إيجابية؛ فالدولة، من ناحية، لا تستجيب لضغوط الرأي العام، وتقوم بإجهاض أي تحرك شعبي، كما فعلت مع التحرك الشعبي الاحتجاجي في 2005، ومن ناحية أخرى، تبحث عن أي مسوغ لتوجيه ضربات متلاحقة للإخوان. الأولوية الآن، يقول هؤلاء، هي التركيز على بناء تنظيم إخواني متماسك وفعال، والانتظار إلى أن تتغير الأوضاع؛ التنظيم هو حصن الإخوان الحصين، وهو أداة قوتهم وفعاليتهم، وضمان وجودهم وتأثيرهم. هذا هو، باختصار، جوهر الجدل الدائر داخل الإخوان المسلمين. وربما فاجأت تصريحات المرشد الجديد للجماعة الكثيرين وهو يؤكد على استمرارية نهج الجماعة الإصلاحي، واستمرارية انخراطهم في العمل السياسي العام، باعتباره واجباً وطنياً، أليس هذا هو من وصف بالإخواني المحافظ الذي نشأ على ميراث سيد قطب؟ ولنفترض أن الأوضاع السياسية في البلاد قد تغيرت قليلاً، وأن السياسات الرسمية أصبحت أكثر استجابة للرأي العام، هل سيكون من معنى لهذا الجدل حول العمل العام والعمل التنظيمي؟ للواقع، كما يعرف طلاب التاريخ السياسي، قوة لا تقاوم، ولا حتى بالمفاهيم الأيديولوجية الصلبة؛ وفي جماعة سياسية تعد بمئات الألوف، لن تستطيع مجموعة أيديولوجية صغيرة، مهما بلغت من حنكة ودهاء، أن تصنع جداراً بين الجماعة والواقع. بيد أن هذا ليس كل شيء؛ فما شهدته الجماعة خلال الشهرين الماضيين لم يخل من محاولة إقصائية لمن يعرف بالإصلاحيين. لم تر المجموعة المحافظة حقيقة الارتباط بين تأزم الحياة السياسية المصرية والأزمات المتلاحقة في كل القوى والأحزاب السياسية المعارضة، بما في ذلك الإخوان المسلمون، وذهبوا إلى حسم الخلافات في وجهات النظر تنظيمياً. وليس ثمة شك في أن انتخابات مكتب الإرشاد انتهت إلى ما يشبه عملية الإقصاء المنظمة لبعض الشخصيات، بغض النظر عما إن كانت العملية الانتخابية صحيحة أم لا؛ ففي التنظيمات السياسية، لاسيما غير العلنية منها، ثمة عشرات الطرق لإمضاء إرادة ما من دون المساس الفعلي بالقوانين واللوائح. ولكن هذه ليست 1954 أخرى، على أية حال، ليس فقط لأن التاريخ لا يكرر نفسه، ولكن أيضاً لأن الإخوان المسلمين اليوم، على مستوى الخبرة والعقل السياسي والنوعية والبناء المؤسسي، وفوق ذلك مستوى الخصوم، لا يعيشون أزمة من صنف وحجم أزمة مطلع الخمسينيات. على مستوى آخر، من نافل القول إن الإخوان المسلمين محل تقديرات مختلفة ومتفاوتة في مصر والعالم العربي، تاريخاً ووظيفة ومستقبلاً. ولكن أحداً لا يجب أن يشك في أن سياسة لا يمكن أن توجد اليوم في مصر من دون الإخوان المسلمين، وأن سؤال دور الإسلام وموقعه في الحياة العربية العامة لا يمكن أن يجاب عليه في النهاية من دون مساهمة الإخوان. تفاقم أزمة الإخوان الداخلية ليس في مصلحة أحد، وليس في مصلحة مصر ولا العالم العربي بالتأكيد. العرب القطرية \2010-01-21