بقلم الحبيب بوعجيلة الفجرنيوز يعتبر المنهج الإصلاحي خيارا أصيلا في تاريخ المعارضة التونسية منذ نشأتها أوائل الستينات .إذ بالرغم من المواجهات الدامية التي حسمت الصراع بين قيادات الاستقلال أواسط الخمسينات و التي بلغت أوجها مع المحاولة الانقلابية الشهيرة ورغم قرار حظر " الحزب الشيوعي" ومنع التعددية وتحول حكم الحزب الواحد إلى خيار دولة فان فكرة الإصلاح والمطالبة السلمية بالحقوق والحريات ظلت حاضرة في نشأة المعارضة اليسارية مع حركة "آفاق" وفي نشأة المعارضة الليبرالية مع انشقاق التيار الديمقراطي عن الحزب الحاكم بل إن الحركة الإسلامية نفسها سوف تختار أوائل الثمانينات العمل العلني في إطار المنظومة القانونية القائمة وفي سياق الاعتراف بشرعية الدولة ومؤسساتها .أما غداة التغيير فقد أمضت مختلف الأطياف السياسية والفكرية الحاضرة والمؤثرة في الساحة على نص الميثاق الوطني تأكيدا على الانخراط في خيار العمل الإصلاحي ضمن سقوف القانون والمبادئ العامة للشرعية الدستورية لدولة الاستقلال . لا شك أن النزعة التسلطية وغلبة الحكم الفردي وهيمنة الحزب الواحد والالتجاء المبالغ فيه إلى الحلول الأمنية في معالجة الملفات على امتداد العقود الأولى للاستقلال كانت أسبابا كافية أدت إلى ارتفاع نبرة الخطاب الراديكالي و انزياح الحركات الشبابية و بعض الحلقات السياسية إلى خيار القطيعة والطعن في الشرعية القائمة خصوصا بعد اتجاه فصائل عديدة من اليسار التونسي إلى تبني أطروحات "الماركسيات" "الصينية" و"الألبانية" وغيرها من القراءات "الثورية" للمتن الكلاسيكي وبعد هبوب رياح الثورة الإيرانية و"الجهادية" الأفغانية على شباب "الحركة الإسلامية" المهيأة أصلا لمثل هذه الحلول بتأثير من مدرسة "سيد قطب" وما رسمته من "معالم طريق" إقامة المجتمع الإسلامي بالإضافة إلى استعداد التيار القومي أصلا إلى تبني المناهج "الانقلابية" باعتبارها الطريقة التي اعتمدها "الضباط الأحرار" في أقطار الشرق . لهذه الأسباب مجتمعة سوف يكون المزاج الغالب على امتداد السبعينات وأوائل الثمانينات مزاجا "ثوريا" بامتياز إلى درجة أن صفة "الإصلاحي" كانت سبّة ومعرّة خصوصا لدى أقراننا من شباب الحركة الطلابية و مناضلي "الحلقات السرية" في تلك الفترة. ولكن ذلك لا يمنعنا مرة أخرى من التأكيد على أن غلبة المزاج الراديكالي وإغراءه لم يمنعا من أن يظل صوت الاعتدال والمطالبة بالحق في كنف الدستور دون تفكير في قلب الشرعية القائمة هو أكثر الأصوات ارتفاعا رغم مبدئية التمسك بمعارضة القوانين اللادستورية والجائرة و رفض المنحى البوليسي والقمعي الذي كانت تتخذه باطراد دولة حزب "الدستور" ورغم المنحى اللاشعبي الذي كانت تنخرط فيه بشكل متسارع خيارات دولة "الحزب الاشتراكي" . إن التذكير بهذا المعطى الأساسي في منهج ورؤية حركة المعارضة التونسية تدفعنا إليه رغبتنا الأساسية في إعادة منح النهج الإصلاحي مكانته في الفعل السياسي بعد الخيبات المتتالية لمنهج القطيعة والتصعيد و دوره في تأخير الشروع في أولى خطوات الانتقال الديمقراطي خصوصا وان نهج "القطيعة" و"الطعن" في الشرعية القائمة يتخذ اليوم صيغا جديدة ويرتدي لبوسا ديمقراطية تحت مسميات عديدة غريبة ومغرقة في التناقض مثل "القطيعة الديمقراطية" و"الإصلاح الراديكالي" و"التغيير الجذري" و"المشاركات الاحتجاجية" و"المقاومة الديمقراطية " كما يستعير أساليبا في الفعل مفصولة عن السياق التاريخي ومعطيات الواقع وموازين القوى مثل دعوات "العصيان المدني" والإعلان عن المبادرات والتمسك بها رغم انف المنظومة القانونية السائدة ثم "ابتلاعها" سريعا بعد أن تفعل فعلها في إرباك الفعل الواقعي وفي خلط أوراق اللعبة .كما لا يفوتنا التأكيد على أن التذكير بأصالة النهج الإصلاحي في تاريخ المعارضة التونسية ينبع من رغبتنا في إبراز حدود واقع سياسي تردى إليه خطاب وأسلوب الفعل المعارض في تونس و تحول بمقتضاه المطلب الديمقراطي في تونس إلى "حوزة" شخصيات ومنظمات "معولمة" تفاوض باسم "النازلة التونسية" في الهيئات والمراكز الدولية الرسمية وشبهها وتحولت بمقتضاه النخب الإصلاحية التونسية أحزابا وجمعيات إلى موقع المتفرج الصامت أو المنخرط طوعا أو كرها في سجال لا سياسي مغرق في الشخصنة والثلب المتبادل بين المواقع الالكترونية والقنوات الفضائية من جهة وأعمدة الصحافة الصفراء من جهة أخرى بل وتحولت أجندة تجديد الحياة السياسية إلى مهام ومعارك تفرضها على الساحة السياسية غالبا مبادرات فردية أو شبه فردية لشخصيات و قوى قد لا نختلف في رصيدها النضالي التاريخي وان كنا سنختلف حتما في وزنها الحقيقي في "المضارع" وفي قدرتها على رسم تمشيات الحراك المعارض في المستقبل . لقد أصبح الآن من شبه المؤكد حاجة المعارضة الوطنية إلى فرز جديد يرتفع بمقتضاه وبلا خجل صوت الإصلاح كخطاب ثالث في مقابل معارضة "لا تعارض" وأخرى لم تنتج غير العدمية المتشنجة المفصولة عن معطيات الواقع والمغرقة في الأوهام بداية من "صنع الزعامة" لفرض التداول و قيادة "الجماهير" المستعدة للانتفاض وصولا إلى حشد وسائل الضغط عبر تصدير الملفات الحقوقية والسفرات المكوكية بين العواصم والفضائيات . إن هذا الخطاب الإصلاحي الثالث أصبح اليوم ودون شك يجد صداه داخل صفوف هذين النوعين من المعارضات "الموالية" و "المغالية" على حد السواء ولا شك أن الأيام القادمة ستشهد بالضرورة هزات متوقعة في المشهد الراكد في اتجاه صياغة خارطة طريق الانتقال الديمقراطي المتدرج دون بطء والمبدئي دون توتر وبناء على ما تقدم من ملاحظات في هذا المقال وغيره يمكن أن أوجز بعض النقاط التي أراها إطارا نظريا وعمليا لكل مشروع يهدف إلى صياغة خطاب إصلاحي فاعل ومثمر : 1 – إن المنهج الإصلاحي في معناه الدقيق هو أسلوب فعل سياسي يعمل على تحقيق شروط التنمية السياسية الحقيقية التي تضمن شروط التنمية الوطنية المستقلة والشاملة وتمكن البلاد من الحفاظ على المكاسب الاجتماعية والثقافية لدولة الاستقلال وتمكنها من مواجهة التحديات الراهنة والقادمة في مناخ إقليمي ودولي يضع السيادة الوطنية للدول في مواجهة امتحانات صعبة تقتضي إعادة صياغة مبادئ التعاقد وتوزيع الأدوار بين القوى والأطراف الوطنية.(تعرضنا في نص مفصل أمضاه الإخوة القوماني والتوزري وكفيف إلى مكاسب الجمهورية وما تواجهه من تحديات تقتضي تجديد الحياة السياسية ) ومن منطلق هذا المبدأ التأسيسي لنهج الإصلاح مضمونا وغايات يصبح من الضروري أن تؤكد المعارضة الوطنية في خطابها وأساليب فعلها أن المطلوب هو تجديد الحياة السياسية عبر وفاقات وطنية تكون السلطة الشريك الأساسي فيها بعيدا عن منطق "البديل الشامل" و"التغيير الجذري" و منطق التنافي . ولا يمكن أن يكون تحفظ السلطة ووقوعها حاليا تحت جاذبية التسلط مبررا مريحا للانزياح عن واقعية واعتدال المطلب الإصلاحي إذا كان بالفعل قناعة جوهرية تؤسسه خلفية نظرية ديمقراطية متماسكة . 2 – إن الخيار الإصلاحي هو اسلم السبل وأقوم المسالك في إدارة الشأن الوطني بين الدولة ومواطنيها وان فشل هذا الخيار سابقا في تطوير الحياة السياسية يقتضي أولا البحث الهادئ في جذور وأسباب إغراء الأسلوب التسلطي الذي ظلت تنتهجه السلطة منذ الاستقلال وهي أسباب مؤسّسية وثقافية لا يمكن مواجهتها بأساليب مفصولة فكريا وعمليا عن معطيات الواقع ومقتضيات التاريخ كما يقتضي ثانيا البحث المعمق في الأسباب الرمزية والمادية التي منعت موضوعيا المعارضة من التحول إلى رقم أساسي وشريك فعلي في تقرير مصير الحياة السياسية ويحتاج ثالثا إلى تدشين مرحلة نقد ذاتي يضع التراث الفكري والتنظيمي والعملي للمعارضة التونسية بجميع أطيافها موضع المساءلة القاسية والدقيقة .(يمكن الاطلاع على نصنا المطول في هذه المسالة بعنوان الإصلاح السياسي في تونس بين جاذبية التسلط وجاذبية الديمقراطية ...بوعجيلة ..القوماني ..التوزري وآخرون ) 3- ومن خلال ما تقدم فان خطاب الإصلاح وفرقاءه الحقيقيين يحتاج – بعد التسليم بما تقدم - إلى تدشين حوار عميق يفضي إلى صياغة عقد تحرك يتقدم إلى السلطة والمجتمع بمشروع مشترك في خطوات الانتقال الديمقراطي لا نراها إلا متدرجة من حقبة مطالبة واقعية بإجراءات انفراج شامل إلى حقبة انفتاح قبل الوصول لاحقا إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي الناجز وهي مرحلة نراها آجلة وإستراتيجية وكل من يتوهم توفر شروط تحققها العاجل فانه لا يفعل غير أن يدفع بالعمل الإصلاحي إلى أتون المواجهات والتوترات وتعميق الخلافات إن الانفراج مرحلة انتقالية هامة قد تطول وقد تقصر بحسب إرادة الإصلاحيين وقدرتهم على الاستفادة منها كما أن الانفراج عملية تفاوضية باعتباره لا يلبي إلا الحد الأدنى من بناء الثقة والتواصل بين الفرقاء السياسيين ويشكل فرصة للانطلاق في حوار هادئ دون شروط أو إقصاء .الانفراج يتطلب من المعارضة الإصلاحية ضبط الأولويات الحقيقية والتحلي بالصبر وعدم الانزلاق وراء ضغط المزايدات والاستفزازات والعمليات الاستعراضية وامتلاك قدرة تفاوضية عالية وكوادر وطنية مسؤولة و ماسكة بمعطيات الواقع وطبيعة السلطة والمجتمع .وان النجاح في تفعيل مرحلة الانفراج سيمكن المعارضة لا محالة من بناء المقدرة و تفعيل الحوار وتجسير العلاقة مع المجتمع ومنظماته الأساسية ومع السلطة وأطرافها المؤمنة بالإصلاح و الضامنة له كما سيمكنها الانفراج على حدوده من بناء مواردها البشرية والهيكلية بعيدا عن أوهام الشعور المغلوط بالقوة الافتراضية كما سيسمح لإطاراتها بتمثل المشاكل الحقيقية للواقع و انتظارا ته جهويا ووطنيا ودوليا مما يطور لديها قوة الاقتراح بعيدا عن الاكتفاء بتدبيج البيانات البيانية اللابرهانية بامتياز . سوف ترتفع أصوات عديدة لا محالة لتذكرني بالطابع "الاستبدادي" و"الدكتاتوري" للسلطة ولترجمني بتهم الموالاة وتغيير رصيف الوقوف من مواقع "الصمود" إلى مواقع "المهادنة" وغيرها من مصطلحات "حربية" لا أؤمن بها في الحقيقة إلا في مواجهة الأعداء الغزاة والمحتلين . وسوف ترتفع أصوات أخرى لتؤكد أن ذلك هو ما ظلت تحاوله المعارضة دون جدوى من زمان ولكن السلطة ضربت بالمطالب الانفراجية عرض الحائط مما يؤكد طبيعتها "المعادية للديمقراطية" منذ ولادتها إلى يوم يبعثون . غير أن هذه الأصوات وغيرها لا تستطيع أن تقدم لنا في المقابل بديلا آخر للإصلاح غير الإمعان في الخطاب والفعل العدميين المورّثين للإحباط و الفشل المتكرر كما أن هذه الأصوات لا تستطيع أن تنكر ما قلناه سابقا عن أخطاء المعارضة القصووية وانزياحاتها وأخطائها النظرية والعملية التي لا ينكرها سوى جاحد وأخيرا فان هذه الأصوات لا تستطيع أن تمنع بدايات تنامي أصوات النقد الذاتي في أوساط النشطاء السياسيين والحقوقيين الصادقين ممن أدركوا بصدق حدود أساليب عقيمة في الفعل المعارض وان كنا بطبيعة الحال لا ننكر أن طريق "الخطاب الثالث" ليس طريقا مفروشا بالورود ...انه ككل الأشياء العظيمة يبدأ جليلا ويمشي على الأشواك ...وللحديث بقية .