في ذروة النقاش حول الهوية الوطنية بفرنسا رشح حزب من أقصى اليسار «الحزب الجديد المناهض للرأسمالية» بزعامة التروتسكي وليفييه بوزانسنو فرنسية مسلمة محجبة على رأس لائحته بإقليم «الفوكليز» للانتخابات الإقليمية المقررة في منتصف الشهر المقبل. واعتبر بوزانسنو أن «الحجاب لا يمثل أية مشكلة لمن تريد أن تترشح لانتخابات المحافظات تحت شعار حزبه»، وأن المرأة يمكن أن تكون ناشطة في الدفاع عن حقوق النساء وعلمانية ومحجبة في آن واحد، وهذا هو ما يعكس اندماج الفرنسيين -حسب رأيه. ربما جاء هذا الاختيار لتعبير الحزب بطريقته الخاصة عن موقفه من النقاش الجاري في البلد سواء في قضية الحجاب أو الهوية الوطنية، وربما اختار الحزب طريقة الصدمة الكهربائية للمجتمع الفرنسي للتعبير عن رفض نقاش خاطئ من أساسه، كما يعتقد البعض. أم أن الأمر لا يتعلق بهذا الاحتمال ولا ذاك، بل باستغلال رمز إسلامي في اللعبة الانتخابية يوازي كما يعتقد الاشتراكيون الفرنسيون، وغيرهم من الناشطين المدنيين والحقوقيين استغلال الحزب الحاكم لموضوع الهوية الوطنية، وتحويل نظر الرأي العام عن مجموعة من الانتقادات والمشاكل السياسية والاقتصادية التي تطارد الحكومة الفرنسية بشكل أثر على شعبية الرئيس نيكولا ساركوزي، خاصة مع اقتراب الانتخابات الإقليمية في مارس المقبل. طبعاً الكلام عن الهوية الوطنية ليس جديدا، وأول من طرحه حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف بقيادة جون ماري لوبن الذي كان وما زال صريحا في موقفه من المهاجرين والأجانب ومطالبته بمغادرتهم مخافة تأثيرهم على ما يسميه الهوية الفرنسية، وكل ما قام به الرئيس ساركوزي في حملته الانتخابية الرئاسية سنة 2007 هو أنه ركب نفس الموجة وبشكل أقوى. وفي هذا الاتجاه سبق للمفكر الفرنسي الكبير روجي جارودي أن قال في كتابه «كيف نصنع المستقبل؟» (طبعته الأولى المترجمة 1999): «فرنسا إبداع مستمر مكون من 20 عرقا.. لقد تأثرت ثقافة فرنسا بما حمله لها كل جنس من عطاء.. إنه لصراع مزيف ذلك الذي يدور حول مفهوم المواطنة التي تمنح على أساس حق الأرض وحق الدم، كما لو كان الانتماء إلى جماعة ما يرتبط بعوامل خارجة عن الإنسان ومشاعره: أن تولد في مكان بعينه فهذا لا يعتمد على رغبة الفرد على الإطلاق ومن ثَمَّ فهو ليس مدعاة للفخر أو الخجل.. إن الرابطة الإنسانية الوحيدة حقا لجماعة إنسانية حقا تتمثل في اشتراك هذه الجماعة في مشروع عام وتعاونها على تحقيق هذا المشروع». وقد تبين من عدد النقاشات والكتابات والتصريحات لمسؤولين فرنسيين، أن النقاش الدائر في بلاد فولتير حول الهوية الوطنية يقصد 6 ملايين مسلم فرنسي. وأوضح دليل على هذا أن الرئيس ساركوزي بعد منع المآذن بسويسرا ربط في مقال له بجريدة «لوموند» بين النقاش الجاري حول «الهوية الوطنية» وعلاقة فرنسا بالإسلام، عندما دعا المسلمين لاحترام «قيم البلاد المسيحية»، ومراعاة مشاعر أصحاب البلاد! وكأن الفرنسيين المسلمين ليسوا من أهل البلاد. وأكثر من ذلك أشار ساركوزي في مقاله إلى أن الاستفتاء السويسري أوضح الحاجة إلى تحديد هوية فرنسا الوطنية. وهنا طرح كثيرون السؤال التالي: هل يهدف النقاش المطروح في فرنسا اليوم تأكيد هوية فرنسا «المسيحية الكاثوليكية» وأن المسلمين وحدهم من يضايقها؟ وبالتالي البحث عن مبررات لتغيير القوانين المانحة للجنسية. الباحثة الفرنسية في العلوم السياسية كلير تالون، قالت في حوار حول الموضوع: «إن هذا النقاش مضحك ومحزن، الهوية قضية نفسية تاريخية ثقافية ولا يحددها السياسيون ولا الحكومة، وأظن أن النقاش سياسي، وممثلو الحكومة يستغلون قضية الهوية لتغيير القوانين المتعلقة بمنح الجنسية الفرنسية وشروطها الواضحة في القانون، ولا علاقة لها بالانتماء الديني والثقافي والآن الحكومة تقصد تغيير القوانين وهذا خطير». البعض يرى أن الذي يهدد الهوية الفرنسية هو تيار الأمركة الجارف بعد الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية (الغات) وقد فصل المفكر جارودي في هذا كثيرا في 1999 فما عساه يقول اليوم؟! أما المسلمون، فأسهموا في بناء فرنسا وتشكيل هويتها وتحريرها من الاحتلال النازي، نعم قد تكون هناك فئة مسلمة قليلة تعبر عن سلوكيات خاطئة، لكنها لا تنحصر فقط في المسلمين بل ينطبق الأمر على غيرهم. إن التشكيك في وطنية الفرنسيين المسلمين والتنقيص من جهود الاندماج الفاعل، والبناء في البلد لن يفيد فرنسا في شيء، وكان الأحرى بالمسؤولين الفرنسيين أن يطرحوا نقاشا آخر أفيد للبلد ومنسجم مع شعاراتها (الحرية والمساواة) حول الوحدة الوطنية والمشروع المشترك كما طالب بذلك البعض ومنهم المؤرخ بنجامين أستورا، لكن للأسف لم يلتفت إليها. الغريب أن دولة كبيرة كالولايات المتحدة الأميركية التي تعج بالجنسيات المختلفة والثقافات المتعددة لم تطرح نقاشا حول الهوية الوطنية الأميركية كما فعلت فرنسا بل استفادت من التنوع وجعلته مصدر قوة وثراء، ولم تجعله مشكلة رغم مرورها من مواقف صعبة ومشاكل، والسبب كما يقول ألفن توفلر (مفكر ومستقبلي أميركي) أن هناك فرقا بين الأزمات الناتجة عن الإخفاقات والأزمات الناتجة عن النجاحات. العرب القطرية 2010-02-11