يقتضي السعي للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بموقع الجامع في حياة المسلمين المعاصرة العودة َ إلى التجربة التاريخية للمدنية الإسلامية. هي عودة ضرورية لأكثر من وجه، ذلك أنها تجلي القيم التي عمل الجامع على نشرها وطبيعة خطابه، كما تحدد نوع علاقته مع السلطة الحاكمة. أول تلك الأوجه هو أن استجلاء موقع مؤسسة الجامع في العالم المعاصر لا بد أن يستحضر الحيوية المجتمعية والحضارية التي تميّزت بها المدنية الإسلامية والتي ما كان لها أن تتحقق لولا فاعلية تلك المؤسسة. بتلك المراجعة يتضح خطاب الجامع في التجربة التاريخية ومعه يظهر الارتباط بوعي الفقيه، حين كان له وعي بطبيعة مهمته التحكيمية التي يتصدّر بها مؤسسة الأمة، تلك البديلة عن خلافة النبوّة في جوانبها الروحية والخلقية والاجتماعية. من جهة ثانية فإن تجلية التجربة التاريخية تساهم في تجاوز التباس مضاعف يلقي بظلال قاتمة على مؤسسة الجامع اليوم، فيربك حركتها وينزع عنها الفاعلية التي كانت لها والتي تحتاجها مجتمعاتنا اليوم بصورة أكيدة. نجد الجانب الأول من هذا الالتباس في موقف النخب الحداثية العربية التي تريد تمثل التجربة العلمانية الغربية لكن بصياغة شمولية تهيمن على كامل مجالات الحياة العامة سعيا لتحقيق مشروع التنمية. معضلة هذه النخب أنها ظلّت تعتمد آليات مقطوعة عن الخبرة التاريخية لمجتمعاتها، معرضة بذلك عن رصيدها الثقافي الاجتماعي الذي راكمته طوال العصور. إلى هذا، فإن عموم النخب الحداثية العربية تستحضر مفهوما مقلوبا لعلاقة المؤسسة السياسية الحاكمة بالمؤسسة الدينية في التجربة الغربية الحديثة. إنها تتمثل التحديث تدخلا للنظام السياسي الحاكم في المؤسسة الدينية وفي حياة الأفراد وحرياتهم الفكرية والعقدية والسلوكية. هذا في حين أن التجربة العلمانية الغربية تعني عكس ذلك تماما. لقد تولدت تلك التجربة من سياق خاص أراد إنهاء هيمنة الكنيسة على الحياة العامة والحياة السياسية والفكرية والعلمية، كما أراد وقف الاقتتال بين أتباع كنيسة روما وأتباع الكنائس الأخرى المنبثقة من رحم حركة الإصلاح الديني. خلاصة تلك التجربة التي انطلقت من القرن الخامس عشر هي عملها على تحقيق مسار ينهي سيطرة توجه ديني محدد على السلطة السياسية الحاكمة. بذلك تحققت حرية الأفراد في ممارسة معتقداتهم الدينية دون تدخل الدولة بفك الارتباط بين المؤسستين الدينية والسياسية وإنشاء فضاء سياسي لا يكون المعيار المحكم فيه هو الانتماء الديني الخاص. مؤدّى ذلك أمران: أولهما تحرر الإنسان من التوجهات الدينية والفكرية والثقافية للسلط الحاكمة، وثانيهما امتلاك المؤسسة الدينية استقلالية ونفوذا خاصين لا يتاح للدولة الحديثة اختراقهما. من جهة ثانية، تولد عن الوعي المقلوب لعموم الحداثيين العرب جانب من الالتباس تشرّبه خطاب إسلامي مسيس اصطبغ بصبغة شمولية مقطوعة عن تاريخ الجامع وعن موقعه في خصوصيته الثقافية والاجتماعية. تم ذلك عندما استبدلت الحركات الإسلامية مشروع تنمية المجتمع لدى الحداثيين العرب المستند إلى شمولية الدولة بمشروع أسلمة المجتمع عبر تطبيق الشريعة التي تفرض قيام دولة إسلامية شاملة. كانت بذلك تستعيد طبيعة الدولة الحديثة الشمولية المتسلطة على كافة مؤسسات المجتمع المدني بمسميات إسلامية. لكن الدعوة إلى قيام دولة دينية كانت في الآن ذاته قطيعة مع الدور التاريخي للجامع وعن دلالات الشريعة لدى الفقيه المؤسس. كان الفقيه الواعي بطبيعة الجامع يعتبر أن الإرادة الإلهية هي المُنشئة للشريعة، أي أنه لا صلة لها بفئة أو عشيرة أو منطقة. هي لذلك الأقدرُ على تحقيق المساواة بين الجهات والقبائل والطبقات. إنّها لكونها من «الخارج»، أكثر تحقيقا لمساواة الجميع أمامها. ذلك هو مركز قوة الشريعة الذي أدركه الفقيه، ومن ثم جاء تمسُّكه بالجماعة أي بالرابطة الجماعية التي تحققها الشريعة في تعاليها عن المنحدرات الاجتماعية والأصول العرقية والروابط المحلية. تلك هي قاعدة الجامع في أصوله ومسيرته التاريخية. أما خطابه فقد كان من الواضح إدراك الفقيه أنه خطاب وحدة وعدل واجتهاد. كان منشأ ذلك لدى الفقيه اعتبار أن مادة الشريعة ومكوناتها تعود في جوانب عدة منها إلى أوضاع تاريخية وأعراف بدوية وقوانين أخرى سابقة. من ثَمَّ جاء تمسك الفقيه بالشريعة باعتبارها «الائتمار بالتزام العبودية» تجسيدا لما أغفله رجال الإمارة حين اقتصروا في إقامة الملك على وظيفته السياسية بما تقتضيه متطلبات السلطان من نفوذ وعصبية وولاء. يبقى الأهم، هو غائية الشريعة وما تحققه من حراك يمكّن الجميع من مساواة وتطور يتيحان للرسالة الإسلامية بُعدا كونيا يتعدى حدود الفئات والأعراق والسياسات الظرفية. لذلك فإن القول بأن الجامع ومن ثم الإمام والفقيه يعبران عن التزام بالشرع فإن ذلك يعني الحرص على الحراك الاجتماعي لرسالة النبوة، وذلك بأن تبقى الجماعة مستقلة متماسكة ومنفتحة على كل الأعراق وقادرة على الاستجابة لكل المستجدات الحضارية. هو التزام يعني إعادة اعتبار للعمل المؤسسي ضمن المجتمع بمختلف مكوناته ومشاربه، بما يجعله في مسار مختلف عن مشروع سلطوي ذي طابع مركزي يعمل على إلزام الآخرين برؤية واحدة. من هنا يمكن إعادة النظر في موقع الجامع في حياتنا المعاصرة. يتحقق ذلك ضمن معالجة العلاقة بين الديني والسياسي، بعيدا عن أي إسقاط متعسف لنظرية فصل الدين عن الدولة، وبعيدا أيضا عن المبدأ المناظر له القائل بأن الإسلام لا يميّز بين الدين والسياسة. إنه الإعراض عن مقولة فرض نظام سياسي محدد المعالم بالعمل على نهج الشورى التي تعني بحثاً في المصالح وتشاوراً من أجل الوصول لإجماعات أو أكثريات حولها. هو بذلك أمر ٌ إنساني واجتماعي تنتفي معه العصمة عن أي نظام من جهة مقتربة من مقولة: «أعظم الحكومات شأنا هي تلك التي تعمل على أن يعتاد شعبها الاستغناء عنها تدريجيا» من جهة أخرى. هو تثمين لتجربة المسلمين التاريخية المؤكدة على قيم الرئاسة الدنيوية وعلى التوازن بين المؤسسات، ممثلة بذلك مرحلة مبكرة ومتطورة من مراحل بناء الفكر السياسي الحديث الذي يميّز بدرجة من الدرجات بين الفضاءين السياسي والديني. من ثم يصبح التحدي الكبير الذي يواجهه الجامع اليوم هو: كيف يمكن أن يحقق لنفسه مكانة ضمن مجتمع التعدد الذي لا يمكن أن ينمو إلا بالتنافس السلمي؟ كيف يصبح رواد الجامع مدركين أن الفضاء العمومي هو مجال تفاوضي يتوصل إلى إجماع حول مواقف مشتركة واختيارات موحَّدة تحقق توازنا بين مصالح مختلفة وتوجهات متباينة؟ إنه التحدي الذي يتطلب تجاوز التمزق الملتبس بين خطابين يؤكدان تداخل السلط إلى درجة التماهي، بحيث يمتلك صاحب السلطة الحاكمة شمولية توجيه الحياة العامة والخاصة إلى جانب امتلاك تفسير النصوص الدينية مما يجعل مخالفته خروجا عن الملة والدين. موقع الجامع اليوم في بلاد المسلمين يتطلب وعيا متجددا بأنه -انطلاقا من منطقة التماس بين السياسي والديني ومن واقع التعدد الذي تتسم به النخب والفئات- قادر على سدّ الفجوات التي تنخر فكر الأمة وتضيّع طاقاتها. أولى مكونات هذا الوعي هو أن يعمل خطاب الجامع على عدم التطابق بين أهداف أصحاب الإمارة والملك من جهة وبين رجال الشريعة وروّاد الأمة من جهة ثانية. هو توجه ممكن اليوم إن تأسس الخطاب الديني على أن الإيمان هو اختيار واع ومعاصر وليس تراثا نصوغ به إلزاما فرديا أو جماعيا. إن حصل ذلك أمكن للخطاب المتجدد أن يندرج إيجابيا في علاقات عامة تحوّل التنافي والعداء إلى منظومة تستفيد من التعدد للتنافس البنائي المحصن للأمة والرافع من شأنها. في هذه الحالة يضحي إيمان المؤمن أحد محاور اهتمام خطاب الجامع دون أن يعني ذلك أن يتوقف عند حدود ضمير الفرد ومتعلقاته الخلقية والسلوكية الذاتية. إنه قادر أن ينفتح ليتصل برؤية المؤمن للعالَم وبممارسة أخلاقياتٍ لا يمكن أن تتجاهل الشأن العام. هذا هو الإطار العام الذي ينبغي أن تتنزّل فيه قيم الجامع اليوم: إطار خُلقية إسلامية معاصرة بقيم متجددة تسمح بإعادة بناء الذاكرة الجَمعية على وعي مغاير لا ينظر إلى المجتمع كأنه موحَّدٌ سلفا وكأنه لا توجد فيه مصالح متمايزة واختلاف في المرجعيات. في كلمة، مصداقية الخطاب الديني لا يمكن اليوم أن تتحقق إلا بمساهمته في الخروج من دائرة تنافي المرجعيات. ذلك يتمّ بضرورة تنسيب الخطاب، أي برفع القداسة عنه بما يحقق للمجتمع استقلاله وتطوره وإتاحة كل فرص الإبداع فيه. العرب القطر ية 2010-02-18