رب يسّر وتمم عبد السَّلام الأسمر الفيتوري الحسني (981ه) من أعلام ليبيا البارزين كان له أثرٌ ظاهر في حياة الناس في عصره ، ولا يوجد في بلادنا اليوم من يجهل اسمَه ، ولكنَّ كثيرين يجهلون خبرَه ، ولا يعلمون أمرَه ، وإذا سألت الناسَ عنه في في بلادنا ستجدهم منقسمين فيه إلى طوائفَ : الأولى : ترى أنه وليٌّ من أولياء الله الكبار الذين كان لهم أثرٌ في توجيه الناس إلى الالتزام بأمر اللهِ ونهيه ، والسيرِ على سنن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والتسليم بقضاء الله وقدره ، وأنَّه كان عالماً ربّانياً علَّم النَّاس القرآن ، ودرَّسهم العلوم ، ودعا إلى الحذر من حبِّ الدنيا ، والزُّهد في بهرجها ، وبنى مدرسة ( الزَّاوية ) لتدريس العلم الشَّرعي ، وتخرَّج منها علماء كبار على مر الأيام إلى زمننا هذا ، وكان لها الدور البارز في مواجهة الدَّعي الكاذب يحيى السُّويدي الذي تبعه شراذم النَّاس وجهّالهم بعد أن أقنعهم بأنَّه المهدي المنتظر ، وقد علم يقينا أنه لن يستقيم له الأمر في إقامة دعوته الكاذبة إلا بهدم هذه المدرسة وتخريبها ، ولقد فعل ذلك فهجم عليها بجنده فهدم أركانها ، ونهب خيراتها ، وعاث فسادا بوقفها ، و لقد دفع الشيخ عمران بن عبد السلام الأسمر دمه في الدفاع عنها فسقط شهيداً ، وحُرِّقت مخطوطاتٌ قيمةٌ يقال أن منها مؤلَّفاتٍ للشيخ الأسمر في علوم الشَّريعة ومكارمها . وهذه الطائفة قليلة العدد إذا قورنت بالثانية والثالثة . أما الطائفة الثانية : فتراه وليّاً ربانياً ، لكنها حادت عن الجادَّة ، وضلت عن الحقِّ ، فهي تؤمن بالخرافات التي قيلت فيه دون تدبر فيما ينسج عنه من خوارق ، وتعطل إعمال العقل في فحص الرواية وتأملها ، ويرون أن طريقته هي الدروشة ، والضرب على الدُّفوف ، والطعن بالسكين ، والرَّقص على المزمار ، ويؤمنون إيمانا مطلقا بكل ما نسج حوله من أساطير ، وإذا واجههم ناصحٌ أمينٌ بابتعادهم عن الطريق السوي ، والسنن الرباني ، ودعاهم إلى الالتزام بمنهج السلف الصالح الذي عليه العلماء الربانيون ومنهم الأسمر نفسه قالوا : نراك فينا مسلوبَ الإيمان أو وهابيا أو معاديا للأولياء ، وهؤلاء لا حديث لهم إلا عن خوارق العادات ، والاسم الأعظم ، وحكومة الأولياء الخفية ، وفلان غوث ، وفلان قطب ، وفلان السرُّ عنده ، يدمنون على مطالعة كتب الروحانيات ، ويرونها سر الوجود وكيمياء السعادة . والثالثة : شطّت في حكمها ، و أخطأت في تصورها ، فهي لا تؤمن به وليّاً ، ولا تعترف به عالما ، حكمت عليه بجهلٍ ، وقضت فيه بحمق ، أعماها عن الحق سلوك بعض المنتسبين إليه فاعتقدته مشعوذا أو بهلوانا أو رجلا عاديّاً لا فضل له على أهل بلاده فظلمته وظلموا أنفسهم من حيث لا يشعرون ، إذ عرضوها للابتلاء ، فلحوم الأولياء مسمومة ، لا ينجو منها آكل ، ولا يسلم منها ناهش ، وجاء في الحديث القدسي :" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب "، وهؤلاء ما كان لهم الخوض في هذا العالم الرباني الذي شدّ إليه علماء الدنيا رحالهم ينهلون من معارفه ، ويرجون صلاح دعوته كالإمام العالم مفتي المالكية بمصر الشيخ سالم السنهوري ، وعبد الرحمن المكيِّ ولكل منهما كتاب في مناقب الشيخ عبد السلام الأسمر ، ومازالت مخطوطة . لو علم هؤلاء حِلَق العلم التي كان يقيمها في تدريس الفقه والنَّحو والعقيدة ، واطلعوا على وصاياه ، وجهده في إصلاح ذات البين ، و عمله في المجاهرة بالحق حتى غضبت عليه السلطة الحاكمة لمّا رأى ما هي عليه من مظاهر الترف والانسلاخ ، لو علموا ذلك وهذا قليل من كثير ما قالوا عنه ما قالوا لكن الناس أعداء ما جهلوا .
لقد قامت حول هذا العالم الربَّاني بعضُ الدراسات منها رسالةُ دكتوراه قُدِّمت للأزهر الشريف في كلية أصول الدين زمن السبعينات من أحد الأخوة المصريين واسمه أبو السعادات إن لم تخني الذَّاكرة ، وقدّم أحد أبناء زليتن د. مصطفى بن رابعة رسالة لنيل الدكتوراه في المغرب حول الرَّسائل التي كان يبعثها الشيخ الأسمر إلى مريديه ، وقدِّمت كتيباتٌ صغيرة أيضا في سيرته وآرائه منها دراسة د. محمد عز الدين الغرياني وهي أفضلها وأوجزها ، ولا أخفيكم أنَّ من هذه الكتيبات التي لم أذكرها ما كتبه غير أهل العلم فأهانوا أنفسهم ، وهانوا على القرّاء ، والله أعلم بالنوايا والسَّرائر . وأرى أن هذه الدِّراسات لا تكشف عن سيرته من ناحية التَّأثير في مجتمعه ، ولا تُعطي البعد الإصلاحيّ الَّذي كان يقوم به اهتماماً ظاهراً ، وتغفل عن دراسة شعره ونثره من حيث اللغة والأدب ، ولم أر من درس غضب الدولة العثمانية عليه بمضمون علميٍّ مرضٍ ، وليس هذا عيباً في الدِّراسات السَّابقة ؛ لأنَّها تهتم بجوانب أخرى من شخصيته ، والدِّراسات لا تُعطي أكلَها إلَّا بتمامها جميعا . إنَّ ما يحزن حقّاً أن تُعقدَ دراساتٌ حول هذا العلم الليبي في المغرب ومصر ولا تجد دراسةً كبيرةً حوله في الجامعات الليبية . ولا يعتقد ظانٌّ أنَّ هذه الدِّراسات كافيةٌ بل نحتاجُ دراساتٍ أخرى ، وما يمنع قيام هذه الدِّراسات وعندنا عاملان كبيران في نجاح هذه الدراسات ؟ : الأوَّل جامعة تحمل اسمَه لا ينبغي أن تقصِّر في تقديم الدَّعم لمثل هذه الدِّراسات ، واستجلاب المخطوطات ، الثاني : أن د. مصطفى بن رابعة من ذريته ، ومختصٌّ في دراسته ، وهو أستاذ في هذه الجامعة . وفي الختام : إن ما لا يغيب عن العقل والقلب تلك الكرامةُ الكبرى التي نراها كلَّ يوم برهاناً على صدق هذا الرَّجل الصّالح ألا وهي تلاوةُ القرآن وحفظه قرب قبره مذ خمسة قرون لا ينقطع أبداً في وضح النهار ،وفي ظلمة الليل البهيم الأليل . رحم الله الشيخ عبد السلام الأسمر وجزاه عن دعوته وإصلاحه خير الجزاء