لي، كعدد من أبناء جيلي من التونسيين، علاقة خُلاسية بتركيا. يافعا، كانت تمتلكني الرهبة وأنا أطالع الروايات التي ترد علينا في خمسينيات القرن الماضي من المشرق، تقص عجائب «السلطان الأحمر» و «إرهابه وتعسفه» مسهبة في عرض أسرار قصر «يلدز» وما يتلاطم فيه من مجون وقهر. بعد ذلك في فصول بعض دروس التاريخ كانت عبارة «الاستعمار التركي» تتسلل أحيانا للدلالة على طبيعة حكم الأتراك للبلاد التونسية ومناطق عربية أخرى. في اللهجة العامية المتداولة بين فئات من التونسيين كانت كلمة «تتريك» تعني الاستيلاء على الأملاك ونهب الأموال إحالة على بعض ما كان سائدا من ممارسات ظالمة في فترات حكم بعض الولاة الأتراك. إزاء هذا كنت، في فترات لاحقة، أتابع ما كتبته نخب تونسية، من أمثال الثعالبي والجعايبي والزمرلي، في «الاتحاد الإسلامي» سنة 1911 إبان الحرب العثمانية الإيطالية مستنكرة أن يرضى المسلم أن يفارق «الجماعة ويخلع من رقبته عهد البيعة للخلافة». وأنا أدرس طبيعة الخطاب الديني، قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، كنت أسجل ما عبر عنه وطنيون في تونس من ولاء بمناسبة الأحداث الكبرى في اسطنبول، أو الأستانة كما يقال عندئذ. بعد ذلك، وعند إلغاء الخلافة، سنة 1924 وقيام الجمهورية في تركيا يشخص أمامي موقف سليمان الجادوي، أحد رواد المحافظين التونسيين، وهو يعلن، في «مرشد الأمة» أن هذا الحدث ليس إجراءً تركياً, بل صدمة إسلامية, وأنه «ليس في مقدور أي قلم ولا في مستطاع أيّ يراعٍ وصف الأسف والاضطراب الذي ماج فيه العالم الإسلامي من صدمة خلع جلالة الخليفة الأعظم مولانا عبدالمجيد خان... الذي يبقى على خلافته ويُدعى له فوق المنابر باعتباره خليفة أخذ أسيرا يترقب إرجاعه إلى عرشه». في أطوار أخرى، حين كنت أقلب صفحات التاريخ التركي الحديث سعيا لتفهم موضوع إلغاء الخلافة من الجانب الآخر يبرز موقف الكماليين تجاه ما عبّرت عنه عموم النخب المسلمة من قرار اعتبره حكام أنقرة الجدد تركيا محضا. من ذلك ما أعلن عنه مصطفى كمال بأن أسرة آل عثمان كانت تمثل: «... قوة ظالمة مدمرة يدعي طغاتها لأنفسهم حق توجيه البلاد والأمة التركية». لذلك فلا غرو إن رأى أن الأمة التركية: «... شقيت جدّ الشقاء لأنها تجاهلت قوميتها الخاصة. لقد نالت الشعوب التابعة للدولة العثمانية حريتها بفضل شعورها القومي... فأدركنا أننا أمة مختلفة عن هذه الأمم حين طُرِدْنا وسُبِينا وأُهِنَّا. يومئذ أدركنا أن خطأنا كان في نسياننا لقوميتنا». ذلك ما جعل حكم مصطفى كمال قاطعا وهو يجزم: «أن الخلافة أسطورة من أساطير الماضي، ولا مكان لها في العالم المعاصر». من هذه الزاوية كان قرار إلغاء الخلافة ضرورة تركية قومية بالنسبة إلى الكماليين انسحبت تركيا بمقتضاه من المجموعة الإسلامية لتلتحق طواعية بالغرب مركز التقدم ومبتكر الدولة القومية. تزاحمت هذه الصور مع غيرها أثناء رحلتي التي حملتني إلى اسطنبول للمشاركة في ندوة علمية. زاد من حدة هذا التضارب بين المكونات القديمة لهذه العلاقة أن مستجدات أحدث وأكثر وهجا تضافرت في تحويل العلاقة إلى وضع إشكالي لا تضاهيه، في تقديري، أية علاقة أخرى بين العالم العربي وبين محيطه الثقافي والجغرافي السياسي وبينه وبين وعيه بذاته وهو يواجه مصاعب ولادة عالم جديد. لم يكن المشهد الذي يتراءى للمسافر المقترب من اسطنبول جوًّا في نهاية شهر يناير الماضي ليساعده على التخفيف من هذه الهواجس. لقد كانت السماء ملبدة بسحب كثيفة متراصة داكنة توحي بأنك مقدم على عالم بارد، متجهّم ومصفح. بعد النزول مرت أيام في الأعمال البحثية إنصاتا ومناقشة وتفاعلا, ساعد على امتدادها أن اسطنبول في شتائها حين تلتف بوشاحها الثلجي لا تشجع على الخروج والنزهة. مع ذلك فقد أتيحت لنا فرص للتبضّع من البازار أو في زيارات لبعض الجامعات والمراكز البحثية. من هذه الفرص تبدَّت اسطنبول في واقعها الإنساني والمؤسساتي على غير ما توحي به مشاهد الجو القاتمة. مع البرد الشديد، وربما بفضله، تلف الزائر حيوية ودأب في كل الأرجاء. في المدينة التي لا تهدأ بسكانها ال12 مليونا تشدك النظافة ومعها النظام ثم فوق هذا وذاك، لا تلحظ متسولا يمد يده. لا غرابة إن قيل إنك أمام بنية اقتصادية إنتاجية تنافسية. سألنا تاجر شاب بعربية مفهومة عن بلادنا فعرَّفه أحدنا بموطنه وأردف يسأل التاجر: أتعرف موقع بلدي؟ لم يتردد الشاب أن قال: ما دام بلدا مسلما فلا بد أن أعرفه. في سوق أخرى، كان بعضنا يريد اقتناء أكواب شاي تقليدية عليها رسوم, وبعد طول البحث سأل أحد الباعة، وكان مُسنا، عن نوع الرسوم المطلوبة فقيل له: نريد على الكؤوس رسم السلطان محمد الفاتح. أجاب البائع في عتاب رقيق: لن تجدوا ضالتكم، أيجوز أن توضع صورة الغازي محمد الثاني على أكواب شاي؟ وفي مركز البحوث الإسلامية الذي تأسس منذ أكثر من عشرين سنة، جلسنا نستمع ونسأل رئيسه، الدكتور محمد عاكف آيدن، الذي كان يتكلم بطلاقة عربية تثير الإعجاب عن أعمال المركز وأهدافه. كان مع مساعديه يحدثنا عن مساهمة المركز في تنشئة الباحثين في مجال العلوم الإسلامية من داخل البلاد وخارجها وتنظيم الندوات العلمية ودعم مشاريع البحث. تطرق العرض إلى مكتبة المركز ووحدة التوثيق فيه وما يصدره المركز من منشورات علمية على رأسها الموسوعة الإسلامية. وبخصوص هذه الأخيرة ذكر أن الشروع في ترجمتها يكون عند اكتمال المجلد الأربعين من جملة أجزائها التي ظهر منها ثلاثون مجلدا. وأثناء زيارة المكتبة عرض علينا المصحف الشريف الذي قام المركز بنشره, جامعا فيه بين صورة الأصل المخطوط المنسوب إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه والمحفوظ في مكتبة «توبكابي ساراي» وبين النص المطبوع المتداول حديثا مع مقدمة علمية مدققة تثبت سلامته من أي تحريف. ما وراء كل هذا أن المركز ببنائه الحديث الفخم ومكتبته الواسعة العصرية وأجنحته العديدة ومنشوراته المتميزة ليس سوى إنجاز لوقف الديانة التركي الخاص والقانوني, والذي تأسس سنة 1975 لدعم الخدمات العلمية ذات الصبغة الدينية. كيف أمكن كل هذا في تركيا العلمانية؟ ثم كيف أتيح لتركيا أن تحوِّل موقعها في المشهد الإقليمي جملة واحدة؟ ومع حليفها الاستراتيجي، الولاياتالمتحدة, كيف تغير الأمر بصورة لافتة بل حتى مع الجار الكبير، روسيا الاتحادية؟ كيف استعادت تركيا حكمة التوازن في المنطقة وتجاوزت عقدة العزلة والحصار التي لازمتها عقودا متوالية؟ كيف تصالحت مع تاريخها وثقافتها ومحيطها الجغرافي الإقليمي والحضاري دون أن تهمل في ذلك كل ما لديها من إمكانات التطوّر والاستقرار؟ للإجابة عن سؤال «كيف استعاد رجل أوروبا المريض عافيته» يوجد أكثر من مدخل. أجدر هذه المداخل بالعناية نستمده من كلمة عالم تركيا ومجاهدها سعيد النورسي الذي قال سنة 1908: «إن تركيا حبلى بالغرب وستلد يوما ما» ثم أضاف «وأوروبا حبلى بالإسلام». قال النورسي هذا وهو يشاهد مآسي انهيار الدولة العلية بمباركة فرنسا وبريطانيا مستحضراً أعمال السلاطين من سليم الثالث أيام الثورة الفرنسية إلى محمود الثاني صاحب التنظيمات وما لاقاه التحديث من مقاومة رجال الجيش الانكشاري. لقد طوت كلمات النورسي القليلة السنوات والعقود, مؤكدة أن ما سيحدث ليس انقلابا مفاجئا دون مسوغات ومقدمات, بل هو سيرورة لا تتوقف. بعين البصيرة النافذة أدرك صاحب رسائل النور أن مسيرة تركيا التي بدأتها منذ أكثر من قرن من أجل الإصلاح والتحديث ماضية نحو الغرب وأنها ستعود من بوابته إلى موقعها الطبيعي في الشرق بفعالية جديدة. في العين التي تعوزها البصيرة لم يكن الانهيار العثماني المتواصل وما أدى إليه من إلغاء الخلافة سوى فاجعة أو سلسلة مؤامرات. صوّر الجادوي ذلك بقوله: «وقع ذلك على حين غفلة، ونُفِّذت إرادة أنقرة بمؤامرة دُبِّرت بمساعي مصطفى كمال ووزيره الأكبر عصمت, ولطيفة هانم حليلة الأول... وذلك ليصفو لزوجها الجو وليؤسس على أطلال سلطنة آل عثمان ملكا لآل كمال... دُهِش المسلمون في سائر أصقاع الأرض من تلك المباغتة، والأمة التركية شاخصة بدهشة». هكذا قرأت العين الفاقدة للبصيرة إلغاء الخلافة. عندما غادرنا اسطنبول كانت القنوات العربية تزف خبر فوز فريق الفراعنة بكأس إفريقيا للأمم وتنقل صور الفرح العارم الذي تملك الجماهير المصرية. يومها والطائرة تعلو بنا في الجو لم أنتبه إلى السحب الداكنة والفضاء الملبد، لقد كنت أستعيد قول أبي الطيب المتنبي: وكم ذا بمصر من المضحكات.... العرب القطرية 2010-02-25