أثار تقرير هيومن رايتس ووتش حول موضوع سحب الجنسية من مواطنين أردنيين من أصل فلسطيني جدلاً واسعًا بين بعض الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية. هذا التقرير الذي لا يخفى توقيته، والذي جاء في بيئة إستراتيجية إقليمية ودولية لا تخفي نيتَها وأكاد أقول إجماعَها على بناء نظام أمن إقليمي يشترط حل القضية الفلسطينية وفق سيناريوهات مختلفة لا يحمل أي منها حق العودة إلا لعدد محدود جدًّا لا يتجاوز بضعة آلاف وضمن شروط محددة إسرائيليًّا. وقد يتساءل البعض عن الطرف الذي باستطاعته مواجهة هذا الإجماع، ويتضمن هذا النمط من التساؤل إجابَته، وهي أنه لا بديل عن الاستجابة لهذا الإجماع. وبالتالي لا بديل عن نقل خط المواجهة في الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني الإسرائيلي إلى مستويات أقل حدة ليس في أسلوب المواجهة فقط ولكن في مساحة الحقوق الوطنية والتاريخية للأمة العربية بشكل عام وللشعب الفلسطيني بشكل خاص. وقد يحمل السؤالُ وإجابتُه نوعًا من الوجاهة على صعيد المنطق الشكلي، ولكن عندما يتصعد هذا السؤال ليغطي واجهة مشهد الصراع، ويكون هو فقط وإجابتُه المتضمنة فيه سيد الأسئلة والأجوبة فإن خللاً متضمّنًا في فهم الصراع يكون قد وقع، وخللاً منطقيًّا موضوعيًّا وجدليًّا قد وقع فأعطى هذا السؤال وسائليهِ فرصة تسيد المشهد الصراعي. تقرير هيومن رايتس ووتش جاء متناغمًا مع إشارات صهيونية وتصريحات لمسؤولين صهاينة متعددة حول اعتبار الأردن وطنًا بديلاً للفلسطينيين، وتصريحات وكتابات دعت إلى إعادة غزة إلى مصر وبقايا الضفة وسكانها إلى الأردن. هذه المناخات بقدر ما تشكل من تهديدات للقضية الوطنية الفلسطينية وللهوية الوطنية الأردنية، يجب أن تشكل دافعًا كافيًّا لإعادة بناء العلاقة الأردنية الفلسطينية على قاعدة المواجهة مع هذه المخاطر من خلال فتح محور اشتباك فلسطيني إسرائيلي على قاعدة حق العودة للمواطنين الأردنيين من أصل فلسطيني، وذلك بالإعلان عن تأسيس جبهة للعودة في الأردن واندغام هذه الجبهة في صيغة سياسية أشمل مهمتها تقوية الجبهة الأردنية وتصليبها ليس من أجل حماية الأردن من مخاطر الهجمة الصهيونية بل وأيضًا من أجل نمائه وتطوره على مختلف الصعد لتحصين جبهته الداخلية. ليس من الحكمة الصمت على هذه التهديدات، والسماح للكيان الصهيوني بتهديد الأردن بالفلسطينيين من خلال التهديد برمي ما تبقى من الضفة وسكانها في حضن الأردن، بل ينبغي بناء خط مواجهة أردني فلسطيني في مواجهة هذه التهديدات وإعادة صياغة معادلة علاقة أردنية فلسطينية تزيح الشكوك وتؤسس لوحدة على قاعدة المواجهة مع المخاطر المهددة وليس اقتسام فوائض الانتصار الصهيوني لا سمح الله. فالهوية الوطنية الفلسطينية لا يمكن أن تتحول إلى حقوق مدنية هنا وهناك، ولا يمكن أن تتحول بعد كل هذه الدماء إلى صيغة غجرية فلكلورية في أي مكان. إنها هوية نضالية تتكامل في أي مكان من أجل الاشتباك مع مسبب مأساتها من أجل استعادة الكرامة الوطنية للشعب الفلسطيني. لعل من أهم خصائص أي صراع على إطلاقه هو ديمومة تغير خطوط المواجهة وتغير موازين قوى الصراع وبالتالي تغير قواعد اللعبة بين الأطراف المتصارعة. وإذا كانت هذه خصائص الصراع على إطلاقه فإنها تنطبق على الصراع العربي الإسرائيلي والفلسطيني الإسرائيلي بصرف النظر عن رغبة الأطراف الإقليمية والدولية والمحلية المنخرطة في حل هذا الصراع بوسائل أقل حدة وأبعد عن العنف كما يسمونها. إن حل أي صراع أو تغيير وسائل الصراع لا يعني على الإطلاق نهاية الصراع، ولا يعني على الإطلاق غياب المنتصر والمهزوم فيه. إن قدرة أطراف الصراع على الاستفادة من أية بيئة إستراتيجية تكمن في قدرتها على تحريك خطوط المواجهة بحيث تتضمن هذه الخطوط الجديدة قدرة على مراكمة القوة وتغيير قواعد اللعبة. فإذا كانت إسرائيل تتظاهر بتوافقها مع الإرادة الدولية والإقليمية الراهنة فإنها تسعى عمليًّا لنقل خط المواجهة في الصراع من خط مواجهة وطني قومي إلى خط مواجهة إنساني، هذا على صعيد المضمون، أما على صعيد الأطراف فإنها تسعى إلى تحويله إلى صراع عربي فلسطيني وفلسطيني فلسطيني. فعندما قبلت إسرائيل دخول حماس في معادلة السلطة الفلسطينية وقبلت حماس بالتالي الانجرار إلى هذه المعادلة فإن إسرائيل بذلك نقلت خط المواجهة من صراع فلسطيني إسرائيلي لتحرير الأرض واستعادة الحقوق الوطنية إلى صراع فلسطيني فلسطيني على مضمون السلطة الفلسطينية رأينا نتائجه الكارثية على الشعب الفلسطيني وقضيته بوضوح، ورأينا كيف لعبت إسرائيل لتعميق وتثبيت خط المواجهة ذاك. وعودة إلى تقرير هيومن رايتس ووتش الذي يستهدف في جوهره نقل خط المواجهة بين ما يزيد عن ثلاثة ملايين لاجئ فلسطيني وبين إسرائيل التي قامت بتشريدهم بوسائل مختلفة على مدى عقود من الزمن إلى خط مواجهة أردني فلسطيني على مساحة التوطين واستحقاقاته، مما يمكن أن يؤول إذا تحققت أهدافه لا سمح الله إلى تحويل الأردن إلى مجال حيوي لإسرائيل تصدر له فائض الأزمات البنيوية المرافقة لوجودها. الخطير في هذه المسألة هو عجز الأطراف المختلفة الفلسطينية والأردنية الرسمية والشعبية عن رسم خط مواجهة آخر والاكتفاء بالسعي لتحسين شروط المواجهة على هذا الخط.، إذ يمكن بوضوح ملاحظة مستوى وطبيعة الجدل الذي يدور الآن وانحساره وانحصاره في هذا الخط وكأنه خط مواجهة وحيد وقدري. فعلى مستوى الصراع وطبيعة الجدل نرى أنه بات ينحصر في قضية بضعة آلاف من الفلسطينيين الذين يحرمون من حق المواطنة الأردنية، وغاب الجدل حول الملايين الذين يحرمون من حق العودة وكأن خط المواجهة هذا قد انتهى وانتفى. وتلخصت بذلك حماية المصالح الوطنية العليا الأردنية والفلسطينية ومواجهة إسرائيل فقط في تجنيس أو عدم تجنيس هؤلاء. ويصبح رافض التجنيس مدافعًا مقدامًا عن المصالح العليا الأردنية وهو يساهم بتجاهل حق العودة في توطين الملايين من خلال موافقته على نقل خط المواجهة إلى هذا الموقع. ويصبح المُطالِب بالتجنيس مدافعًا مقدامًا عن الحقوق الفلسطينية المكتسبة وهو يساهم كنقيضه في توطين الملايين من الفلسطينيين خارج وطنهم أيضًا. إن هذه القضية لا يجوز النظر إليها إلا باعتبارها منتجا فرعيا لخط مواجهة أساسي وهو حق كل فلسطيني شرد عن وطنه نتيجة الاحتلال الصهيوني في العودة إليه. وإذا رغب العالم في حل هذه المشكلة فإن إسرائيل هي من يجب أن يدفع فاتورة تشكيل هذا النظام الإقليمي وليس الشعب الفلسطيني والأردني، ولا يجوز أن يُستبدل بحق العودة إلى فلسطين الحق في الجنسية الأردنية، ولا يجوز وضعهما حقين متنافيين (أي ينفي أحدهما الآخر)، كما لا يجوز وضعهما في نفس المكانة حيث يشكل الحق الأول خط مواجهة طبيعي في الصراع بينما يشكل الحق الثاني في ظل نفي الحق الأول وتقديم الثاني عليه خط استسلام بل هو انخراط في الصراع لصالح الخصم. أية حكمة وأي عدل وأي منطق صراع يجعلنا نقبل بدفع فاتورة تشكيل الكيان الصهيوني عربيا وفلسطينيا ثم نعود لندفع مرة أخرى فاتورة إدماجه في نظام أمن إقليمي وفي الحالتين من دمنا وحقوقنا بشرا وشعوبا. فإذا كانت إسرائيل ترغب في الاستفادة من البيئة الإستراتيجية الدولية والإقليمية في نقل خط المواجهة ليدور حول حق بضعة آلاف من الفلسطينيين في العودة إلى أراضي الضفة الغربية أو توطينهم في الأردن من خلال منحهم الجنسية الأردنية فإن علينا الاستفادة من هذه البيئة الإستراتيجية في فتح ثلاث خطوط مواجهة متوازية لا يستطيع العالم كله إنكارها علينا. تنبثق هذه الخطوط الثلاث من مقولة وحدة الأرض الفلسطينية ووحدة الشعب الفلسطيني ووحدة القضية الفلسطينية. وحدة الأرض الفلسطينية التي تعني أن فلسطين من النهر إلى البحر هي ميدان الصراع، ففي المناطق المحتلة عام 1948 هناك خط مواجهة يتمثل في حق المهجرين داخل هذه المناطق في العودة إلى أراضيهم وممتلكاتهم، وحقهم في الاستقلال الثقافي وكذلك حقوقهم المدنية الطبيعية فوق أرضهم. وهذا يشكل خط المواجهة الأول وأما خط المواجهة الثاني فيتشكل في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967 والذي يتضمن انسحاب إسرائيل الكامل من هذه الأراضي دون قيد أو شرط وإخلاء المستوطنات وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس والإفراج عن كل المعتقلين. وأما خط المواجهة الثالث فيتشكل من حق الفلسطينيين خارج فلسطين بشكل عام وفي الأردن بشكل خاص في العودة إلى وطنهم وحقهم في التعويض عن ما لحق بهم من ظلم وضرر. هذا على صعيد وحدة الأرض الفلسطينية، أما على صعيد وحدة الشعب فإن ترجمتها تتمثل في انخراط جميع أبناء الشعب الفلسطيني على محاور الصراع ضمن إستراتيجية واحدة تتلخص في استعادة الحقوق وتتنوع كمهام على هذه المحاور هدفها مراكمة قوة الردع التي تحول دون السماح لأحد وبالتحديد إسرائيل في استخدام فائض القوة لنقل خطوط ومحاور المواجهة تلك وحرفها باتجاهات تصب في خانة قوة الخصم. ولا يتم التعاطي مع أماكن وجود الشعب الفلسطيني خارج وطنهم إلا باعتبارها أماكن وجود مؤقتة تحظى من الشعب الفلسطيني بالولاء والانتماء دون أن تنتقص من الولاء والانتماء لقضيته وحقوقه في فلسطين. أما وحدة القضية فإنها تعني أن محاور الصراع الثلاث بجغرافيتها المختلفة وبوسائلها المتنوعة وبحدتها المتفاوتة تصب في قضية واحدة هي الصراع مع الكيان الصهيوني لانتزاع الحقوق الوطنية باعتبارها القضية المركزية وكل صراع فرعي لا يصب في هذا الصراع المركزي هو شكل من أشكال تبديد الجهد وتمزيق للوحدة لا يجوز السماح به بأي حال من الأحوال. كما لا يجوز أيضًا تحويل محاور المواجهة وتكتلات الشعب إلى قضايا منفصلة بل تجليات لقضية واحدة. تقرير هيومن رايتس ووتش يجب النظر إليه بهذا المستوى من الخطورة ولا يجوز السماح بمناقشته على هذا المستوى من السذاجة مما يجعلنا مجرد صدى لبرامج وإستراتيجيات الخصوم ولا نملك أية رؤية للصراع ولا إستراتيجية ناضجة توظف البيئة الإستراتيجية من أجل تحقيق المصالح العليا والحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف. المصدر: الجزيرة الأربعاء 17/3/1431 ه - الموافق3/3/2010 م