لماذا يشعر العربي إزاء التحولات الدولية أنه معدوم التأثير وأن قدراته المختلفة، وهي وفيرة، لا تستطيع أن تتجاوز الحدود المحلية وأنه إذا تخطى بها ذلك المدى سقطت في التشظي وفقدان الفاعلية؟ ما يضاعف من مرارة الإحساس بالضآلة أن زحمة الأحداث داخل العالم العربي ومن حوله لا تهدأ. هي في تلاحقها وتنوعها وخطورتها تجعل المتابع الحريص الذي يقتصر سعيه على الربط بينها قصد تفسيرها محتاجاً إلى أن يستجير بصبر أيوب مع نسبة عالية من الوعي ونفاذ في البصيرة. هو إن فقد هذين الشرطين الضروريين فإن وتيرة الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية مع ما يعضدها من مخاطر الفراغ في الحياة الفكرية والثقافية والروحية قادرة على أن تغمره دافعة به إلى دروب الإحباط واليأس. هذا إن طلب تفسير العالم وما يعتمل فيه من حراك أما إن أراد تغييره فتلك مرتبة دونها خرط القتاد أو الانزلاق إلى مهاوي الماضوية والعنف. أشد الملفات إحراجا للعقل العربي المعاصر يبقى دون منازع الملف الفلسطيني. معه تنكشف حالة العجز عن القيام بأية مبادرة عربية مما يفضي إلى تضخيم التعثرات في المجالات الأخرى. أكثر من ذلك، تبدو النجاحات المحلية، إن وجدت في هذا القُطر أو ذاك، باهتة وغير مجزية لمداراة فضيحة التيه العربي. كيف يمكن أن نفسر هذا الهوان تجاه التصعيد الصهيوني الذي لا يتوقف ولا يبالي بأية خطوة جديدة من أجل تحقيق سياساته التوسعية والعدوانية؟ ما تناقلته وكالات الأنباء في الفترة الأخيرة عن إعلان حكومة الكيان الصهيوني بناء 1600 وحدة استيطانية في القدسالشرقية يعتبر حلقة أخرى من حلقات التحدي السافر للعجز العربي. حين يحصل هذا في الوقت ذاته الذي يكون نائب الرئيس الأميركي «جو بايدن» في جولة في المنطقة تمهيدا لانطلاق مفاوضات غير مباشرة بين الطرف الفلسطيني والكيان الصهيوني فإن ذلك ليس إلا دليلا على استخفاف بالمصداقية العربية وعملا على المزيد من تأجيج مصاعب مجتمعاتها. ما صرح به «بايدن» إثر القرار الاستيطاني الجديد من أنه «ينسف الثقة الضرورية التي نحتاجها الآن» لا يعدو أن يكون من قبيل «ضرب الأرملة لولدها» إذ لا يمكن في نهاية المطاف أن يغيّر من سياسة تهويد القدس التي تتبناها الحكومة الصهيونية الحالية وتعلن عنها منذ شهور وبعلم الإدارة الأميركية. هل يمكن أن يفهم الأمر على غير هذا المنحى خاصة أن نائب الرئيس الأميركي استبق زيارته الحالية للمنطقة بالإعلان عن «صهيونيته» رغم عدم انتمائه لليهودية مما دفع نتنياهو إلى الإشادة به باعتباره «صديقا كبيرا للدولة العبرية». ما تؤكده التقارير عن الأوضاع الاقتصادية والفلاحية والمعلوماتية ومن ثم السياسية أن مصالح الكيان الصهيوني تجاوزت أجواء اتفاقية أوسلو ومعاهدة وادي عربة في التسعينيات أي أنها لم تعد معنية ببناء استراتيجيتها ضمن قدر من الحرص للانفتاح على المجال الإقليمي العربي. مؤدى ذلك اختيارٌ للانكفاء الإقليمي الذي تجسد في سياسات مختلفة نتيجة عنصرين أساسيين: 1- انخراط قوي في السوق المعولمة بدعم من المؤسسة العسكرية و2- إدراك واستفادة من الظروف الصعبة الداخلية والخارجية التي تعيشها الإدارة السياسية للولايات المتحدة والتي تأكدت مع ولاية الرئيس أوباما. لعل أفضل من عبر عن هذا التوجه الانكفائي المتعالي أمام العجز العربي مقال نشرته صحيفة هآرتس أول هذا الشهر تحت عنوان: «لا نريد سلاما.. نريد أن نُجنّ». في المقال نقرأ ما يلي: «لا تريد إسرائيل سلاما مع سوريا. تعالوا نُزِلْ جميع الأقنعة التي جعلناها على وجوهنا ونقول الحقيقة من أجل التغيير. تعالوا نعترف بأننا لا تعجبنا أية صيغة سوى الصيغة القبيحة: السلام مقابل السلام. وتعالوا نعترف، أمام أنفسنا على الأقل، بأننا غير مستعدين للتخلي عن الجولان وليكن ما يكون. جميع الكلام أهدر، وجميع الوسطاء أهدروا، وجميع الجهود أهدرت وانتهى الأمر. لا نريد سلاما، نريد أن نُجَنّ. لا تضايقونا بمقترحات سورية جديدة كذاك الذي نشر هذا الأسبوع في صحيفة هآرتس، وفيه موافقة على الانسحاب على مراحل وعلى سلام تدريجي، ولا تضايقونا بكلام على السلام على أنه وسيلة لفصم العلاقة الخطرة لسوريا بإيران، ولا تكلمونا بالسلام مع سوريا على أنه مفتاح للسلام مع لبنان وإضعاف لحزب الله». خلاصة القول وبعبارة موجزة: إن جميع الوسطاء أهدروا وجميع الجهود أهدرت وانتهى الأمر. الخطاب ذاته نجده في حوار بثته الإذاعة البريطانية منذ ثلاثة أيام شارك فيه من الجانب الصهيوني إيلي نيسان مراسل الشؤون البرلمانية في تل أبيب الذي ذكر وكرر أن توسيع الأحياء في القدس لا رجوع فيه ولا نقاش حوله من أي حزب من الأحزاب في الدولة العبرية. أكد ذلك بالقول: إن تلك الأحياء لن تعاد إلى السلطة الفلسطينية في أي حال من الأحوال وأن ما يثيره الجانب الفلسطيني في هذا الشأن سيمثل عقبات مضرّة بالشعب الفلسطيني وسلطته. معنى هذا أن ما يقال عن توتر قادم في العلاقات بين الولاياتالمتحدة وبين حكومة الكيان الصهيوني وما يشاع عن الغضب الأميركي العارم وما يتوقع من عقوبات، كل هذا لن يفضي في أحسن الاحتمالات إلاّ إلى ما يعرف بضغط الحلفاء الذي تتحمله حكومة نتنياهو وتستطيع التعامل معه بسهولة. ما يرجح أن هذا التوتر ليس سوى سحابة صيف تقريرٌ أرسله السفير الفرنسي في واشنطن إلى وزارة خارجيته في باريس منذ أشهر نشرت منه «الكنار أنشيني»، الصحيفة ذات الاطلاع الواسع على خبايا السياسة الفرنسية والدولية فقرات هامة. حصيلة التقرير أن لجنة من مجلس النواب الأميركي نظرت في مطالب مساعدات مالية تقدمت بها وزارة الخارجية لبعض دول منطقة الشرق الأوسط، وأن المبالغ المقترحة كانت كلها قليلة باستثناء مبلغ واحد هام جدا يقدم للدولة العبرية. بهذا الخصوص فإن اللجنة اقترحت الإسراع بتقديم تسبقة قيمتها 555 مليون دولار على مخصصات المساعدة العسكرية المقررة لتل أبيب لسنة 2010 والتي تبلغ قيمتها 2.7 مليار دولار. يعلق السفير الفرنسي ساخرا بأن الرئيس أوباما في يده سلاح دمار شامل يمكنه لو أراد أن يوظفه بالضغط على حكومة نتنياهو لإرجاعه عن سياسته الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية من خلال المساومة على هذه التسبقة. مثل هذا لم يحصل لأسباب داخلية أميركية من جهة ولأن المبادرة العربية غائبة ومرتهنة في انتظار الحلول عسى أن تأتي من واشنطن. موقف الانتظار هذا كان يمكن أن يصلح لو كان الجانب العربي لديه مشروع واستراتيجية. أما الانتظار وحده فلا يؤدي إلى أية فاعلية. هو على العكس يفضي بالطرف الصهيوني إلى مزيد التصعيد والتوسع مما يزيد من هامشية الجانب العربي. بتعبير المضحك المبكي، نحن أمام وضع مشوه ومختل الموازين، هو عالم يجعل الآخر متناً لكتابة التاريخ بينما نبقى نحن هامشا فاقدا للوجهة والمعنى. في ذلك يقول تميم البرغوثي: كانوا الهوامشَ في الكتابِ فأصبحوا نَصَّ المدينةِ قبلنا يا كاتب التاريخِ ماذا جَدَّ فاستثنيتنا يا شيخُ فلتُعِدِ الكتابةَ والقراءةَ مرةً أخرى، أراك لَحَنْتْ العرب 2010-03-18