التعادل يحسم قمة الكاميرون وكوت ديفوار بأمم أفريقيا    مشروع قانون يميني متطرف لحظر الأذان داخل الأراضي المحتلة عام 1948    جنوب إسبانيا: أمطار غزيرة تتسبّب بفيضانات في محيط مالقة    المنطقة السياحية طبرقة عين دراهم: إقبال متزايد والسياحة الداخلية تتصدر عدد الوافدين    دراسة: حفنة مكسرات قد تغير حياتك... كيف ذلك؟    «أصداء» تفتح ملفات التنمية والحوكمة في عدد استثنائي    توقّعات مناخية للثلاثية الأولى    وراءها عصابات دولية .. مخابئ سرية في أجساد الأفارقة لتهريب المخدّرات!    ما بقي من مهرجان «خليفة سطنبولي للمسرح» بالمنستير...ذكاء اصطناعي وإبداعي، مسرح مختلف وتفاعلي    نابل .. حجز أكثر من 11 طنا من المواد الغذائية الفاسدة    مع الشروق .. التاريخ يبدأ من هنا    بعد فضيحة الفيديوهات.. هيفاء وهبي تعود إلى مصر    والي قفصة يقيل المكلف بتسيير بلدية المتلوي    عاجل/ جريمة مروعة: شاب يقتل صديقته داخل منزل بالمنزه 7..    المنزه السابع: إيقاف مشتبه به في جريمة قتل فتاة خنقًا    بني مطير: وفاة طفلة ال11 سنة في حادثة انزلاق حافلة واصطدامها بعدد من السيارات    تونس تعلن رفضها القاطع لاعتراف "الكيان الص.هيوني بإقليم "أرض الصومال"    طقس مغيم جزئيا وظهور ضباب محلي خلال الليل    "كان" المغرب 2025.. السودان تنتصر على غينيا الاستوائية    مصر.. تحرك أمني عاجل بعد فيديو الهروب الجماعي المروع    السجل الوطني للمؤسسات يطالب بإيداع أصول العقود والمحاضر فوراً    اعتقالات جماعية قرب برج إيفل علاش؟    عاجل/ "حنظلة" تخترق هاتف "كاتم أسرار" نتنياهو وتعد بنشر محتواه قريبا..    البنك الوطني للجينات يقوم بتركيز ثلاث مدارس حقلية بولايات سوسة وصفاقس وبنزرت    مدنين: انطلاق المخيم البيئي الثالث للكشافة التونسية بجزيرة جربة    وزارة النقل تدرس فرضيات توسعة محطة الحاويات بميناء رادس    مدرب منتخب مصر: "سنلعب للفوز على أنغولا رغم التأهل لدور الستة عشر    البطولة الوطنية لكرة السلة - برنامج مباريات الجولة الاولى لمجموعة التتويج    التوقيع على 5 وثائق بين اتفاقيات ومذكرات تفاهم خلال اللجنة المشتركة التونسية السعودية    ''مقرونة باللحمة'' تُدخل 17 عاملاً مصرياً المستشفى    سوسة: ايقاف صاحب مطعم بعد حجز كميات من الأسماك الفاسدة    النيابة تأذن بإيقاف صاحب مطعم بسوسة يخزّن أسماكا غير صالحة للاستهلاك    الركراكي: "لديا ثقة في مشروعي الفني وأنا الأنسب لقيادة المغرب نحو اللقب القاري"    فيلم "فلسطين 36" في القاعات التونسية بداية من الأربعاء 7 جانفي 2026    نابل: "العلوم الإنسانية والاجتماعية بين تحديات التحول الرقمي وفرص تحقيق التنمية المستدامة "محور أعمال منتدى تونس الثاني للعلوم الإنسانية والاجتماعية    توزر: إشكاليات تراث جهة الجريد وسبل تثمينه في ندوة فكرية بعنوان "تراث الجريد بين ضرورة المحافظة ورهانات التثمين المستدام"    علاج للسرطان.. من أمعاء الضفادع...شنيا الحكاية؟    عاجل-فرجاني ساسي: ''نسكروا صفحة نيجيريا والتركيز على مواجهة تنزانيا''    وفاة الممثلة الفرنسية بريجيت باردو عن عمر يناهز 91 عاما    المهدية :انطلاق عملية التصويت على سحب الوكالة من أحد أعضاء المجلس المحلي بشربان عن عمادة الشرف    احذر.. إشعاع غير مرئي في غرفة النوم!    تونس تودّع سنة 2025 بمؤشّرات تعافٍ ملموسة وتستشرف 2026 برهان النمو الهيكلي    اختتام البطولة الوطنية للرياضات الإلكترونية لمؤسسات التكوين المهني    هام/كميات الأمطار المسجلة خلال 24 ساعة الماضية..#خبر_عاجل    غزة: خيام غارقة في الأمطار وعائلات كاملة في العراء    ماسك: «الاستبدال العظيم» حدث في بروكسل    مرض الأبطن في تونس: كلفة الحمية الغذائية تثقل كاهل المرضى والعائلات محدودة الدخل    زيلينسكي يصل إلى الولايات المتحدة استعدادا لمحادثات مع ترامب    علي الزيتوني: بالعناصر الحالية .. المنتخب الوطني قادر على الذهاب بعيدا في الكان    تونس تُشارك في الصالون الدولي للفلاحة بباريس    سفيان الداهش للتونسيين: تُشاهدون ''صاحبك راجل 2" في رمضان    رئيس الجمعية التونسية لمرض الابطن: لا علاج دوائي للمرض والحمية الغذائية ضرورة مدى الحياة    عاجل/ بشرى سارة لمستعملي وسائل النقل..    استراحة الويكاند    نصيحة المحامي منير بن صالحة لكلّ تونسية تفكّر في الطلاق    موضة ألوان 2026 مناسبة لكل الفصول..اعرفي أبرز 5 تريندات    أفضل دعاء يقال اخر يوم جمعة لسنة 2025    تونس: مواطنة أوروبية تختار الإسلام رسميًا!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فلسفة الهزيمة : عبد الستار قاسم
نشر في الفجر نيوز يوم 25 - 03 - 2010


المبادئ الأساسية للهزيمة
الترجمة العملية لمبادئ الهزيمة
الهزيمة لها أصولها
ليس النصر وحده له نظريات وفلسفات، وإنما للهزيمة فلسفة أيضا، لكن هناك من كتبوا ويكتبون في نظرية النصر، ولا يوجد من يكتب في نظرية الهزيمة أو فلسفتها علما أن من واجب المفكرين الذين تعاني أمتهم من الهزائم أن يبرزوا أسباب وأصول الهزيمة لكي يتم تلافيها. هناك أسباب للنصر، وهناك أسباب للهزيمة، مثلما هناك أسباب لتلافي الهزيمة، وهناك فلسفة للنصر وأخرى للهزيمة.
الهزيمة لا تحل بالناس هكذا بدون توطئة وبدون أسباب، بل لا بد من وجود معطيات كثيرة وعديدة تؤدي في النهاية إلى الفشل والهزيمة. الهزيمة ليست نصيبا ولا قدرا، ولا تقع مصادفة أو على حين غرة، وإنما هي من صنع أيدي المهزومين ومن صلب تعبهم (أو غياب تعبهم) ومن نتاج ما فعلوا (أو ما لم يفعلوا).
نحن العرب من أحق الناس في الكتابة عن فلسفة الهزيمة لأن الهزائم تلاحقنا على مختلف المستويات وفي مختلف المجالات. بالرغم من ذلك لا نكتب بصراحة ووضوح، ويبدو أننا نفضل تحويل كل هزيمة إلى نصر بحيث تضيع الهزائم في زخم الخطابات الرنانة المليئة بالأكاذيب والتضليل.
لقد انتصرنا في هزيمة عام 1967، وكذلك في هزيمتي 1973 و1982. انتصرنا عام 1967 لأننا، حسب قول مذيع صوت العرب، "لولا الهزيمة لما عرفنا حقيقة أنفسنا" وانتصرنا عام 1973 لأننا حاربنا بجد، في حين أنه كان من المفترض ألا نحارب. أما عام 1982، طُرد الفلسطينيون من بيروت وهم يرفعون أصابعهم بعلامات النصر والرصاص يلعلع ابتهاجا بالمناسبة السعيدة.
أما على المستويات الثقافية والفكرية والاجتماعية والتعليمية والعلمية، فأغلب الإحصائيات العالمية تشير إلى تخلفنا وعدم قدرتنا على اللحاق بالأمم، لكن وسائل الإعلام الرسمية لا تنفك تتحدث عن الإنجازات العظيمة التي تحققها الأنظمة والحكام.
تنقسم أسباب وعوامل الهزيمة إلى قسمين: داخلية وخارجية، وتنقسم الأسباب والعوامل الداخلية إلى عدة أقسام منها الاجتماعية والاقتصادية، لكن أهمها نوعية الحكم وأخلاقه. التركيز في هذا المقال على سياسة الحاكم التي تعكس أخلاقه ونواياه وأهدافه. المسألة معقدة وشائكة وبالتأكيد لا يمكن حصرها في مقال، لكن إلقاء ضوء عليها بخطوط عريضة قد يشكل قاعدة للانطلاق نحو دراسة وافية.
المبادئ الأساسية للهزيمة
إذا كنت قائدا أو حاكما عربيا، وتعمل بجد واجتهاد نحو إلحاق الهزائم بشعبك على مختلف المستويات، فإن عليك التمسك بالمبادئ التالية والتي تشكل كلا متكاملا يرتقي إلى فلسفة:
أولا: يجب الإصرار على الانحدار بالمستوى الأخلاقي للشعب وذلك من خلال تعليمهم الكذب والتضليل والدجل والنفاق والتكاسل والتقاعس والاعتماد على الغير. يجب أن تمتهن أنت الكذب على الناس وتستعمل كل الأساليب الميكافيللية المخادعة التي تعطيك وجها غير ذلك الوجه الحقيقي، وعليك أن تشبعهم بالآمال والتطلعات، وتصور لهم مدى التطور الذي استطعت إنجازه.
ووسائل إعلامك يجب أن تكون على قدر المسؤولية فتساعدك في كل أعمالك الخبيثة، وتكون دائما عونا لك على الناس. لا تقرب إليك العلماء والفالحين والمبدعين، بل عليك باستقطاب النصابين المنافقين الذين يتقنون الحذلقة والتزلف، ولديهم الاستعداد دائما لعمل الموبقات وارتداء ثوب الشرف والعفاف. هكذا يبدأ أفراد الشعب بالاقتناع بأن الأخلاق الرفيعة لا تنفع وأن عليهم التحلي بخلق الحاكم إذا أرادوا لشؤون حيواتهم ألا تتعثر كثيرا.
ثانيا: يجب هدم التماسك الاجتماعي وذلك من خلال نشر الضغائن والأحقاد والكراهية بين الناس. يجب أن تطمئن إلى نزع الثقة من بين الناس، والاطمئنان إلى أن اجتماعهم معا سيؤدي حتما إلى الجدل الحاد والمشاجرات، وربما الصراع بالأيدي، وأحيانا بالسلاح. التماسك الاجتماعي يؤدي إلى التكاتف والتكافل والعمل معا، وسيؤدي إلى تحقيق إنجازات تقود إلى قوة دفع اجتماعية تسمو بالناس.
التماسك هو طريق النصر، والتفسخ هو طريق الهزيمة، ولذا عليك أن تحرص على زرع الشقاق بين القبائل والعشائر، وعليك أن تصنع منافسات انتهازية داخل كل عشيرة. وعليك أن تبث الفرقة بين الموظفين في المؤسسات ليتحولوا إلى شلل متنازعة، وهكذا.
ولا تنس بالطبع أن التفسخ الاجتماعي هو المكمل للانحطاط الأخلاقي. فإذا أنجزت الانحطاط والتفسخ فإنك ستنام واثقا من أن النصر لا يعرف طريقه إلى شعبك.
ثالثا: الحرص كل الحرص على تطوير أجهزة العسس، أو أجهزة الأمن التي تتخذ من ملاحقة الناس ومراقبتهم همها الأول. أجهزة المخابرات ضرورية من أجل نزع الثقة بين الناس، ومن أجل دب الرعب في القلوب حتى لا يفكر أحد بينه وبين نفسه في تغيير الأوضاع القائمة. لا مهادنة في هذا الأمر: ابطش بالمنتقدين والمعارضين والمستائين والمتأففين وبكل من لديهم ضمير حي.
وأنت بالتأكيد ستحرص على أن يكون عناصر المخابرات رجالا ونساء من أسافل الناس وجهالهم الذين لا يترددون في كتابة التقارير بأمهاتهم، ولا يعرفون الرحمة بالتعذيب والتنكيل. يجب أن تحول أجهزة أمنك الناس إلى مجموعات من الخائفين المرعوبين ذوي القلوب الميتة الخالية من الشهامة ومشاعر العزة. يجب أن تتتبع سياسات تُشعر الناس بالمهانة والحقارة، وتقتل فيهم الشعور بالذات والاعتزاز.
رابعا: الوعي عبارة عن عدو خطير قد يؤدي إلى ثورة تنتهي إلى التغيير، ولذلك لا بد من إتباع سياسة دؤوبة وممنهجة للحيلولة دون تطور مشاعر الناس، ومن ثم تطور الوعي لديهم بسياساتك التي تصفها أنت دائما بالعاقلة والحكيمة. ولهذا يجب أن يبقى المنهاج التعليمي متخلفا يعتمد على التلقين ولا يثير التفكير لدى الناس، ولا يشجع البحث العلمي والتفاعل العلمي.
المدارس والجامعات يجب أن تكون مراكز لتخريج الببغاوات الذين لا يرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا تتعدى اهتماماتهم مصالحهم الشخصية. مدير المدرسة يجب أن يكون ببغاء محترفا، والأفضل أن يكون عضوا في جهاز أمني، ورئيس الجامعة يجب أن يبقى تحت وطأة المخابرات، إن لم يكن هو نفسه ضابط مخابرات. هذا يجب أن يتعزز بتعليم ديني متخلف يفصل الإنسان عن الحياة الدنيا، وعن قدراته في تحديد نشاطاته.
يجب أن يكون التعليم الديني غيبيا، ومركزا على الحياة الآخرة دون المرور بالحياة الدنيا. الشخص المتدين هو الذي يتقن الوضوء، ويؤدي شعائر العمرة ببراعة، أما الذي يريد بعث التفكير في الناس فعبارة عن زنديق مندس يمتهن الإلحاد والغوغائية، وقد يكون مرتبطا بالعدو الذي من المفروض أن يهزمنا.
خامسا: لا بد أن تبث في الناس فكرة الأب الحنون والعطوف الذي يكد ويتعب من أجل أن يوفر لهم لقمة الخبز وراتب آخر الشهر. عليك أن تقنع الناس أن استمرار صحن الطبيخ مرتبط بك وبجهودك العظيمة على التسول أو توزيع الثروة التي تقتطعها من عنائك وتعبك في استغلال آبار النفط والغاز، ويجب أن يصلوا إلى حد الدفاع عنك حتى لو كرهوك حرصا منهم على لقمة الخبز وراتب آخر الشهر. هذا يدعوك إلى تضخيم جهازك الحكومي، وإلى تسلل أجهزة الأمن إلى الشركات الخاصة لتكون أداة اقتصادية بيدك أو تأتمر بأمرك.
ولهذا عليك أن تعمل دائما على تخريب الإنتاج بخاصة الزراعي حتى لا يفكر الناس بالاعتماد على أنفسهم، وعليك أن تصنع عقلية استهلاكية لكي يستهلك الناس أكثر مما ينتجون فيقعون بالديون المرهقة التي تشغلهم عن حال الأمة.
أنت دائما تتذكر أن الشعب النذل هو الشعب الذي يأكل من تعب غيره، ويتسول ممن هم أفضل حالا منه، وهذا هو الشعب الذي يهتف باسمك كلما قمت بنقيصة أو حققت إخفاقا أو أنجزت هزيمة. مثل هذا الشعب، عليك أن تكون واثقا، أنه يكره النصر ولا يسعى إليه.
سادسا: تعمل العناصر أعلاه معا لكي تنتج شخصا مهزوما من الداخل يمجد أسياده وجلاديه، ويهرب من أجواء الحرية والنور ليستظل بأجواء التيه والضياع. الشخص المهزوم داخليا لا يبحث عن الحرية، ولا يبغي التقدم، ولا يجد لنفسه مخرجا إلا من خلال الآخرين الذين يستعبدونه. وعندما يطمئن الحاكم العربي إلى أن العربي محطم تماما، وقواه خائرة وعروشه خاوية فإنه يمسي قرير الشهوة وقد نال ثقة من نصبوه.
الترجمة العملية لمبادئ الهزيمة
الوضع العربي بصورة عامة لا يخذل هذه المبادئ، وواضح أن الحكام على وعي كبير بالترجمة العملية لها. فيما يلي بعض مظاهر هذه الترجمة:
الخلق والأخلاق
هناك خلق قيمي خاص بكل مجتمع أو كل ثقافة، وهناك أخلاق كونية تعترف بها كل الأمم وتقدرها. فمثلا الأزياء تعبر عن خلق أهل الثقافة المعينة، أما الصدق فمطلوب كونيا أو عالميا من أجل أن تستقيم العلاقات بين الناس. مغيبة الناس عبارة عن قيمة خلقية لدى بعض الثقافات، أما مساءلة المسؤول صراحة فعبارة عن معيار أخلاقي لا بد من توفره من أجل التقدم.
(لو) ركز الحكام العرب على الأخلاق، لحصل تغيير كبير في الساحة العربية على رأسها مسألة تداول الحكم واستنهاض التفكير العلمي، لكنهم ما زالوا يصرون على التمسك بقيم خلقية تتناقض في كثير من الأحيان مع الأخلاق مثل وراثة الحكم والتدخل في شؤون الناس الخاصة والاعتماد على المنافقين.
يجيز الخلق القيمي العربي الكثير من السلوكيات التي لا تتناسب مع التقدم وتحقيق النصر في مختلف المجالات، وواضح أن الحكام العرب يتمسكون بها. فمثلا ما زالت العقلية القبلية متحكمة، والتي تتم ترجمتها الآن من خلال التركيب القبلي للحكم، ومن خلال الاستزلام من خارج القبيلة.
الاستزلام بالمال والمناصب والعطايا والمنح يُمارس بصورة واسعة على الساحة العربية. وهناك أيضا مسألة الشخصنة بحيث أن نقد السياسة العامة أو المؤسسية يتحول إلى هجوم شخصي على المسؤول، وتتحول القضية إلى قضية فلان ضد فلان، وتجرد من مضمونها العام الذي من المفروض أن يمس جمهور الناس أو المصلحة العامة. العمل ضمن الخلق القيمي العربي يريح الحاكم، ويعطيه فرصة الإسهاب في شرح الأصالة على أنها مشيخة تحفظ سيرة الأجداد النقية.
تبعية الشخص
الخلق القبلي يذيب شخصية الفرد، والفرد لا يُعرف إلا من خلال قبيلته، ومن الصعب جدا أن تكون له قيمة بدون القبيلة. هذا بالضبط ما تعمل الأنظمة العربية على صناعته حتى لا تتكون هناك شخصيات مستقلة قادرة على الإبداع وبث الوعي. الفرد لا يشعر بذاته إلا من خلال منصبه أو راتبه أو تسجيله في حزب يعمل قبليا، ولا قيمة للفرد إلا من خلال الأدوات. لا يوجد تقدير للفرد لذاته وبذاته، وإنما من خلال أدوات خارجة عن ذاته، ولا مجال أمامه للبقاء الاجتماعي إلا من خلال الأداة.
ولهذا تكثر الوساطات والمحسوبيات في البلدان العربية. من الصعب أن يحصل شخص على منصب مهم بدون وساطة، أو بدون الاطمئنان إلى موالاته للحكم أو النظام. الوساطة هي الأداة التي يُعرف الشخص من خلالها، ولا يستطيع أن يصل أو أن يتدبر أموره المعيشية بدونها.
في كثير من المناصب والمواقع، الكفاءة ليست ذات قيمة إلا إذا امتزجت بالوساطة، وفي الغالب يبقى صاحب العلم والمعرفة على الهامش، ويبقى الجاهل أو شبه الجاهل متقدما. هكذا يتم التأكد من أن المؤسسة تبقى موالية للحكم، ولا تتبع سياسات قد تتناقض مع وتيرة البلادة والاستهتار الرسمية العربية.
فاقد الشخصية ليس مبدعا، ولا يريد أن يبدع لأنه يعرف أن الإبداع قاتل من ناحية المنصب ومن ناحية الوضع الاجتماعي المصاحب للمنصب، وهو يكره الإبداع ويحول بين العاملين معه وإبداعهم. المبدع صاحب شخصية وقادر على إثبات نفسه، ولهذا يتعرض للكراهية والملاحقة بخاصة داخل المؤسسة التي يعمل فيها.
تسييس المؤسسات
من المفروض أن المؤسسات مهنية يقوم عليها مهنيون أصحاب علم ومعرفة بالموضع الذي تعنى به المؤسسة. في البلدان العربية، الولاء هو العنصر الأساسي في تحديد الأشخاص الذين يقومون على إدارة المؤسسة. لا يقوم على إدارة المستشفى من هو قادر مهنيا وإداريا، وإنما شخص موال للنظام يتعامل مع الوساطات والمحسوبيات، ويسكت عن التحايل والسرقات والتي عادة يكون شريكا فيها.
وكذلك الجامعات إذ لا أرى في البلدان العربية رئيس جامعة قد تم تعيينه بمعزل عن الموالاة للحاكم أو لمالك الجامعة. هذا ينطبق على دوائر الشؤون الاجتماعية والسير والمواصلات والاتصالات والمناجم والفنادق... إلخ.
تسييس المؤسسة كفيل بتخريبها لأن الهدف في النهاية هو خدمة النظام وليس خدمة الناس. خدمة الناس تأتي عادة كثمرة لخدمة النظام، وبالتالي فإن المؤسسة تتحول إلى تكية للنظام ورجالاته وأنصاره وأتباعه.
لو أخذنا الجامعة كمثل فإننا نجد عمداء الكليات من رجالات النظام، والطلبة المنتمين للأجهزة الأمنية متنفذين ويحصلون على علامات عالية دون أن يواظبوا على الحضور أو يقوموا بالجهد الدراسي المطلوب، والتقارير الأمنية تُرفع ضد كل مدرس يحاول أن يثير التفكير والوعي... إلخ. إلى ماذا تنتهي الجامعة؟ إلى رواتب للموظفين وشهادات للطلاب وما بينهما قليل من العلم. فلا غرابة أن تكون مساهمة العرب في الحضارة العالمية العلمية قريبة من الصفر.
ضرب التفكير العلمي
التفكير العلمي هو المقدمة نحو البحث العلمي، والبحث العلمي هو أساس الاكتشاف، والاكتشاف هو أساس الاختراع، والاختراع هو الأساس الصلب للتقدم المادي في الحياة الدنيا. لكن التفكير العلمي يؤدي إلى الإحساس بثقل الواقع، ومن ثم إلى الوعي بهذا الواقع، وإلى ترجمة الوعي النظري إلى وعي عملي يتمثل بعمل على الأرض.
ولهذا تعمل الأنظمة العربية على ضرب التفكير العلمي تماما لينسجم مع الثقافة الببغاوية المشار إليها أعلاه. ولهذا تجد في الساحة العربية الكثير من الكتب التي تتحدث عن عظمة النظام الحاكم وإنجازاته وعن الحاكم نفسه، لكنه من النادر جدا أن نجد كتابا في الداخل العربي يتحدث عن مخازي النظام، أو عن أهمية التغيير السياسي والاجتماعي.
المرء في بلادنا يتعلم كيف يهز رأسه موافقا، لكنه لا يتعلم أن يسأل باستمرار: لماذا؟ لماذا هذه هي مدخل السببية، والسببية هي أحد المنطلقات الأساسية نحو التفكير العلمي والاكتشاف العلمي. طبعا هذا ليس بالمطلق، لكن النسق العام السائد يقوم على تغييب العقل.
الهزيمة لها أصولها
صحيح أن الحكام العرب لم يكتبوا فلسفة الهزيمة، لكن أفعالهم تشكل نبراسا وهداية لكل من يريد أن ينهزم. وقد حققت الأنظمة العربية إنجازات كبيرة في مجال الهزيمة إلى درجة أن إرتيريا استولت ذات مرة على جزر يمنية ولم يملك العرب سوى الشكوى، وإلى درجة أن أجزاء من الوطن العربي ما زالت تحت الاستعمار المباشر مثل سبتة ومليلية، وتحت الاستعمار غير المباشر مثل آبار النفط في الخليج. لقد حقق القادة العرب إنجازات كبيرة في هذا المجال بحيث يُقدم من يريد تحقيق نصر على محاربة العرب.
وقد حصل ذات مرة أن أصبح العرب مثلا للهزيمة عندما قال رئيس الأرجنتين لبريطانيا إن الأرجنتين ليست العرب وستحارب. لقد هزمت الأرجنتين لكنها حاربت، ولو تعلمت فلسفة الهزيمة من أنظمة العرب لهزمت دون أن تحارب.
الهزيمة بحاجة إلى تعب وسهر لكي يتأكد المسؤول أن لا شيء يسير بالشكل الصحيح، ولا شيء يتم وفق أسس علمية أو منطقية، وليتأكد أن شعبه مسلوب الإرادة لا يملك حولا ولا قوة، وأنه عبارة عن عاهة تستهلك وتنام دون أن يكون لها تأثير على محيطها.
تتطلب الهزيمة الانصياع والتسليم للإهانات والإذلال، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا من خلال تجارب عميقة ومتكررة في استمراء الإهانة والذل. لا يتمتع كل إنسان بقدرة عجيبة على تبجيل الانسحاق الذاتي والسعي إليه لأن الطاقات الإنسانية ترفض ذلك أحيانا بالطبيعة، أما قادة العرب فقد تفوقوا على الطبيعة وأبدعوا في نفي أنفسهم وجر شعوبهم إلى بلع كل ما يراد لهم ابتلاعه.
المصدر: الجزيرة
الخميس 9/4/1431 ه - الموافق 25/3/2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.