في الوقت الراهن بوجه اخص، واكثر من اى وقت مضى. يجب ان تستنفر كل الطاقات الفاعلة فى مصر وتستدعى للاجابة عن السؤال: ما العمل؟ (1) لا اريد ان اصدق ان الناس يصطفون الان فى طوابير يتسابقون عليها منذ الفجر، لكى يشتروا حقهم فى خبز اليوم. قبل ثلاثين عاماً كنا نستحى حين نذكر لزوارنا اننا نقف فى الطوابير لكى نحصل على الدجاج. وكانوا يتعاطفون معنا ويرثون لحالنا. ولا اعرف ماذا يمكن ان يقول هؤلاء حين يرون الناس تتزاحم على طوابير الخبز، وحين يعرفون ان عشرة مصريين سقطوا فى ساحة العراك من اجل ذلك. والرقم ذكرته الاهرام يوم الاربعاء 13/3، فى حين قال تقرير قناة الجزيرة فى اليوم السابق انهم 15. الدكتور احمد جويلى امين مجلس الوحدة الاقتصادية ووزير التموين الاسبق قال لى انهم لو كانوا واحدا فقط فهى كارثة. لا اريد ان اصدق ان فى مصر اناسا لجؤوا الى الانتحار لانهم وجدوا اطفالهم يتضورون جوعاً وعجزوا عن اطعامهم، او لانهم فقدوا الامل فى العثور على العمل، واستبد بهم اليأس وعضهم الجوع، فلجأوا الى الانتحار بدورهم كحل اخير. لا اريد ان اصدق ما رأته عيناي ذات صباح، حين وقعت على خبر يقول ان امراة مسنة وقفت امام جمع من اعضاء مجلس الشعب. وقالت لهم انها واسرتها لم يذوقوا طعم اللحم منذ ثلاثة اشهر. وهو كلام أمَّن عليه باحثون قالوا ان هذه ليست حالة خاصة، وانما هى ظاهرة عامة فى المجتمع المصرى الان. بأذني سمعت المهندس نيازي سلام رئيس بنك الطعام وهو يقول انه كلف فريق عمل برصد مظاهر الفقر في الاحياء العشوائية المحيطة بالقاهرة -عاصمة ام الدنيا- وأعدوا شريطا وثائقيا، لم يصدق احد ممن شاهدوه انه يسجل واقعا حاصلا فى مصر، ومنهم من انفجر باكيا من هول ما رأى، حتى طلبوا ايقاف عرض الشريط. سمعته يقول ايضا ان فى بعض قرى الصعيد اناسا استبد بهم الجوع حتى اصبحوا ياكلون الفئران البرية. مثل هذه الشواهد لا حصر لها، وكلها تقول بصوت مدو يخرق الآذان ان غول الغلاء قد توحش واصبح ينهش اجساد الفقراء النحيلة، على نحو بات يضغط عليهم بشدة بصورة اذلتهم وكادت تقصم ظهورهم. وهؤلاء الفقراء اصبحوا يشكلون الكتلة الكبرى والاغلبية الساحقة فى المجتمع، الذى بات مقسما بين اثرياء- بعضهم لا حدود لثرائهم- وفقراء لا نهاية لاحزانهم وفقرهم. وهى صورة لا تدع مجالا للشك ان مصر تمر الان بلحظة حرجة للغاية، لا تصلح معها المسكنات والمهدئات، وتتحول معها التصريحات المتفائلة الى مصدر للاستفزاز والسخط، ودليل يعزز من ازمة الثقة ويعمق فى الشرخ الموجود فى المجتمع. (2) ارجو الا يكون الرد على كل ذلك ارقاما ونسبا مئوية تتحدث عن معدلات النمو الجيدة ومتوسطات الدخول المحترمة، ومئات الالوف من فرص العمل التى توافرت، وملايين الدولارات التى دخلت سوق الاستثمار، لعدة اسباب احدها اننا لا نستطيع ان ندعى ان معدل النمو مرتفع وفرص العمل تنهال علينا كالمطر والسياسة الاقتصادية حققت اهدافها، لكن احوال الناس متدهورة ويرثى لها. ذلك اننا سنصدق كل ذلك ونتاكد من صحته حين يشعر الناس بان هذه الانجازات طرقت ابواب بيوتهم ذات يوم. السبب الثانى ان تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية الصادر عن مؤسسة الاهرام عن العام الحالى سجل تضاربا فى الارقام المعلنة المتعلقة بمعدلات النمو ونتائج جهود مكافحة البطالة والفقر (من ص 198 الى 202)، الامر الذى يضعف الثقة فى صدقية تلك الارقام. مع ذلك، فاننا اذا صدقنا ما يقال من بيانات رسمية، واحسنا الظن بها، وفى الوقت ذاته وجدنا ان الاوضاع المعيشية للناس تزداد سوءا، فذلك يعنى ثلاثة امور. اولها ان المشكلة الاقتصادية والاجتماعية لم تحل، وثانيها ان ما اتخذ من اجراءات ليس كافيا، وثالثها ان السياسات المتبعة ذاتها تحتاج الى اعادة نظر. نسمع حديثا مستمرا عن ارتفاع الاسعار العالمية، وذلك حق يراد به باطل. اولا لان ارتفاع الاسعار العالمية لا يشمل كل السلع، فى حين ان الارتفاع الفاحش فى الاسعار لم يستثن سلعة موجودة فى السوق المصرية. ثانيا لان ثمة دلائل تشير الى ان ارتفاع الاسعار العالمية بولغ فيه كثيرا، بحيث احتج به بعض الصناعيين ليضاعفوا اسعار منتجاتهم بمعدلات اعلى بكثير من معدل الارتفاع فى السوق العالمية، وجنوا من وراء ذلك ارباحا خرافية. آيه ذلك ان احد كبار الصناعيين صرح للصحف فى الاسبوع الماضى بانه دفع ضرائب عن السنة المالية الاخيرة بما قيمته 375 مليون جنيه. واذا صح ذلك، وكانت تلك قيمة الضريبة التى دفعها على صافى ربحه فى العام، بعد سداد كل التكاليف والنفقات- فمعنى ذلك انه حقق ربحا يعادل مليارا و700 مليون جنيه فى عام واحد. وهو ربح هائل لا نحسده عليه لكنه يفسر لنا في نفس الوقت لماذا ظل سعر السلعة التى ينتجها يتزايد على مدار العام كل شهر، واحيانا كل اسبوع، متذرعا فى ذلك بارتفاع الاسعار العالمية. فى حين تبين لنا ان تلك الزيادات التى ضربت سوق العقار، كان هدفها زيادة ارباحه بمعدلات فاحشة، وليس تغطية ذلك الارتفاع فى الاسعار. على صعيد اخر، فان تأثر مصر الشديد بارتفاع الاسعار العالمية جاء كاشفا لمدى هشاشة وضعف هيكلها الاقتصادي، الذى اصبح يقوم على الخدمات بالدرجة الاولى وليس الانتاج، لان الدول اذا كان لديها ما تنتجه فان اكتواءها بنار ارتفاع الاسعار العالمية يظل محدودا، خصوصا اذا كانت تصدر شيئا مما تنتجه، مما قد يحدث توازنا مع ما تستورده. اما الدول غير المنتجة فانها تصبح فاقدة المناعة امام رياح الاسعار العالمية. (3) قبل سبعين عاما (سنة 1938) قام احد اليابانيين المسلمين -اسمه تاكيشى سوزوكى- برحلة لاداء مناسك الحج، وبعد ان عاد الف كتابا عنوانه "يابانى فى مكة" -ترجمه الى العربية الدكتور سمير عبد الحميد ابراهيم وزوجته اليابانية سارة تاكا ها شي- ولاسباب متعلقة بتاشيرة الدخول، جاء الرجل الى القاهرة واستقل الباخرة من السويس الى جدة. وهم على الباخرة، عرض عليه فيلم فكاهى امريكى، وفيلم تجارى مصرى. وهو يصف الفيلم الاخير قال انه بدأ بعرض مهرجان او حفل مقام فى قرية مصرية، قدمت فيه بعض النسوة رقصات مختلفة، فى حين جلس آخرون يتابعونهن. وقد قامت واحدة من بين المتفرجين لتشترك فى الرقص، ولكن الايدى امتدت لتجذب ثوبها، الذى تمزق، فسألتها الراقصات عن مصدر قماشه، وعرفن منها انه ياباني الصنع. فشرعن فى توبيخها لهذا السبب، مما اثار استياءها ودفعها الى الاشتباك معهن بكلام تطور الى عراك حاولت خلاله المراة ان تنال من ثياب الاخريات لكنها فشلت، وحينئذ قالت لها النسوة: لماذا اخترت القماش اليابانى الضعيف، وفى مصر افضل منه، وشركة مصر للاقمشة تنتج اصنافا رائعة. وعلى المصريين ان يستخدموا منتجات بلدهم، وان يتخلوا عن الاقشمة المستوردة. وفي اللحظة الاخيرة من الفيلم ذهبت المرأة باكية الى المدينة، واشترت قماشا من انتاج شركة مصر، وعادت الى الحفل فرحبت بها الراقصات وصرن جميعا صديقات لها. وعند هذه النهاية صفق المسافرون الى الحج طويلا. وهو ما غاظ صاحبنا اليابانى، الذى لم يسترح الا عندما وجد ان الشاشة التى عرض عليها الفيلم مصنوعة فى اليابان! اذكر بان ذلك حدث قبل سبعين عاما، حين كانت فى مصر صناعة للنسيج تعتز بها، وكانت هناك غيرة على المنتج المصرى، الذى تدهور الان، وسقط من اعين المصريين. (3) لست اشك فى ان الذين اعتزوا بالقماش المصرى وقتذاك وارادوا اقناع ركاب الباخرة بانه افضل من اليابانى، لم يخطر على بالهم الموقف الذى وصلنا اليه الان. وربما تصوروا ان بلدهم سوف تكتسح اليابان فى الاسواق، الامر الذى يطرح على اهل الذكر فى مصر سؤالين كبيرين هما: لماذا جرى ما جرى، وهل المشكلة فى الاقتصاد ام فى السياسة ام فى الاثنين معا؟ ثم ما العمل؟ ولاننى لست من هؤلاء فلا كلام لى فى الموضوع. لكنى لا اتردد فى القول بان النتائج التى تحققت حتى الان تدلنا على ان خطأ جسيما حدث فى التشخيص او التنفيذ او السياسات او الاشخاص والآليات. وفى كل الاحوال فالامر لا يحتمل انتظارا، وانما يحتاج الى مراجعة شاملة وعاجلة، تصوب الخلل ايا كان مصدره. والعجلة ليست وحدها المطلوبة، وانما نحن بحاجة الى شجاعة ايضا. لان الذين اعطوا اكثر من فرصة واستنفدوا مرات الرسوب، يحب ان يخلوا مواقعهم لمن يستطيع ان يسترد ثقة الناس، وينهض بما عجزوا عن القيام به. واذا كان مدرب كرة القدم يستبعد بمجرد الفشل فى اى مسابقة مهمة، فان ادارة اقتصاد البلد واستقرار اوضاع الناس المعيشية ليست اقل اهمية من مباريات كرة القدم. لقد قال لي احد الوزراء المخضرمين ان الرئيس جمال عبد الناصر كان يقول فى اجتماعات مجلس الوزراء ان هناك سلعا اذا نقصت فى الاسواق يوما ما، فينبغى الا يذهب الوزير المختص الى مكتبه فى اليوم التالى. وحدد هذه السلع بخمس هى: الخبز والقمح والفول والعدس والسكر- ما رأيكم دام فضلكم؟ الشرق يوم الثلاثاء ,18 مارس 2008