مَن قال إن النفط أغلى من دمي.. ؟! شعار عراقي عبَّر عنه الشاعر فاروق جويدة في قصيدته التي نقل فيها مشاعر عبرت بصدق عن حقيقة احتلال العراق، ومشاعر كل عراقي غيور على بلده وشعبه وأرضه: الطفل يهمس في أسًى أشتاق يا بغداد تمرَك في فمي مَن قال إن النفط أغلى من دمي؟! بغدادُ لا تتألمي مهما تعالت صيحة البهتان فهناك في الأفق البعيد صهيل فجر قادم هي صيحاتٌ يطلقها كل عراقي لمن يدعون أنهم دعاة الحرية والسلام للعالم, ماذا نريد أن نستذكر يا بغداد في ذكرى احتلالِك ولن نقول سقوطك فأنتِ لم ولن تسقطي، ستبقين عصية على العِدا إن شاء الله, ولعلنا كلما تمرُّ ذكرى الاحتلال الأليمة نرجع بالذاكرة إلى سنوات مضت حملت معها آهات وأحزانًا، بدأت مع دوي صفارات الإنذار، نذيرًا ببدء الحرب على العراق ومعها تعالى بكاء الأطفال وهلعُهم مما يحدث، ومع دوي الانفجارات وسقوط القذائف كانت مساجد بغداد تكبِّر تكبيرات العيد بمقام النهاوند، وهذه التكبيرات تكبرها مساجد بغداد في صلوات العيدين الفطر وعيد الأضحى، ومعها كان تكبير أهل بغداد.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. الله أكبر.. الله أكبر ولله الحمد. ويومَها حملنا ما نقدر على حمله وذهبنا حال أغلب البغداديين إلى بيت الأهل، حيث يتجمع الأخوة والأخوات تحسبًا لأي طارئ قد يطرأ، ومكثنا هناك أيامًا صعبة ككل العراقيين في الداخل، ومن كان منهم في خارج العراق كان قلبه يتفطر دمًا وحرقةً على أهله في العراق، خاصة مع انقطاع الاتصالات بين العراق ودول العالم، وحتى بين مدن العراق، بل وبين مناطق بغداد, وما أن يأتي الليل -وما أقساه من ليل- كان العدو المحتل الذي ديدنه الغدر والتسلل عبر جنح الظلام يكثِّف من غاراتِه الليلية في القصف، ناهيك عن الصواريخ التي تعبر وتنطلق من دول الأهل والأحبة وتسقط على البيوت والأطفال وعلى المساجد وعلى كل شيء في بلد الرافدين, وكل ساعة بسنة وما أن يأتي الفجر ويدعو المؤذن للصلاة حتى نتنفس الصعداء وكأننا ولدنا من جديد، وكعادة العدو الأمريكي وكما فعل بحرب الخليج الأولى قام بضرب الطاقة الكهربائية فحوَّل بغداد إلى ظلام دامس، ومعها لم يعد للعراقي أن يعرف ماذا يحدث إلا من تناقل الأخبار من خلال المذياع أو من خلال أحاديث الناس ومشاهدتهم لمواقع الحدث, وبعد مقاومة كبيرة في البصرة والناصرية بدأنا نسمع عن إطلاق صواريخ جديدة وقنابل تفتك فتكًا بالبشر، قام الأمريكي الحاقد على بلدي بإلقائها على المدن والقرى، فسارع الكثير من البغداديين إلى ترك بغداد إلى المحافظات الأخرى كالأنبار وصلاح الدين وغيرها من المحافظات التي كان القصف فيها أخف من غيره من المدن, فطلب مني إخوتي أن أذهب إلى سامراء شمال بغداد أنا وأسرتي وأرسل لهم بعد ذلك لكي يلحقوا بي، وذهبت فعلًا ووصلنا سامراء ليلًا، وكانت أهدأ بكثير من بغداد، وكان ذلك أواخر مارس، وبعد أن رتبت الأمر حاولتُ أن أرسل إلى بغداد من يوصل خبرًا لأهلي، لكن الطريق بين سامراء وبغداد قُطع، بعد أن دمر الأمريكان الجسر الذي يربط بين بغداد وسامراء، وما هي إلا أيام وفوجئت بخبر كالصاعقة لم أصدقه أبدًا، أن بغداد قد سقطتْ، واعتقدتُ يومها أن ذلك خدعة لأجل سحب العدو إلى بغداد والفتك به، فلا زلت أفتح المذياع وأسمع كاظم الساهر ينشد أنشودته الوطنية: اثبتْ يا عقال الرأس هو عراقنا شوية ترابه شلون ما ينباس هو الروح والرية شنسوى بلا حضن بغداد أم الخير بغداد يا رجال الشدايد صار صوت الوالدة ينادي أبد لا تضعفون أبد لا تضعفون يا ولادي اسم الله وسورة الرحمن على كل بيت ببلادي واستمرَّ ذلك أيامًا ونحن ننتظر الردّ العراقي، وعرفنا بعد ذلك أن بغداد شهدت معارك دامية خاضها العراقيون وسطَّروا فيها أروع بطولات الدفاع عن بغدادهم، خاصة معركتي الأعظمية ومعركة المطار، فما كان من العدو إلا أن استخدم كل وحشيته في الانتقام من بغداد وأهلها، وألقى بالقنابل النيوترونية على المطار وبعض المناطق. فسلّمت بغداد وتوالت بعدها غيرها من مدن العراق، ومنها سامراء، وما أن دخل الأمريكي المحتل إلى سامراء حتى حملنا متاعنا وأولادنا وعدنا إلى بغداد من طريق غير الذي أتينا منه، لأن الأول كان قد دُمِّر ورأيت يومها بلادي تُسرق وسيارات كبيرة وناقلات تتوجه صوب المدن العراقية التي تؤدي إلى إيران وشمال العراق، ورأيت وجوهًا سوداء هالني منظرها وأشكالها، ولست أحسب أنني رأيتهم من قبل، فهم الذين قدموا مع المحتل لاحتلال أرضنا وتدنيسها، ورأيت دبابات على جوانب الطريق ومدرعات مدمرة وملابس عسكرية هنا وهناك، وجثثًا متناثرة على الطرق وأشخاصًا يبيعون أسلحة الجيش بأرخص الأثمان، بعد أن نهبوا مخازن الجيش، وآخرين يحملون الحربات ويهتفون هتافات طائفية لم نسمعْها من قبل، ودخلت بغداد التي لم أتركها سوى أيام، وهي ليست بغدادي التي أعرفها؛ فشمسها خافتةٌ ودجلتها شحيح الماء والخراب، والحرق هنا وهناك، فلم تعُدْ بغداد مدينة السلام إلا أن يشاء الله. الاسلام اليوم الخميس 01 جمادى الأولى 1431 الموافق 15 إبريل 2010