أمام تعاقب الأحداث وتوارد الأخبار في دول الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي هذه الأيام لا نجد مكانا للصدفة أو للتخمين، حيث يصبح اليقين سيد الموقف الدولي! واليقين هو أن حلف شمال الأطلسي يستعد لتأسيس عقيدة نووية جديدة تختلف عن عقيدته السابقة التي كانت وليدة الحرب الباردة وكان العدو المستهدف فيها هو بالطبع الاتحاد السوفييتي الذي انتهى بكسوف شمس الماركسية المقبورة وانفضاض شمل الدول الشيوعية مع انهيار جدار برلين في نوفمبر 1989. والعقيدة النووية الجديدة التي سيعلنها الحلف في قمته المنتظرة بالعاصمة الرومانية بوخارست في أبريل القادم بدأت تتشكل ملامحها وخطوطها الكبرى من خلال القرارات والتصريحات والتلميحات وحتى التهديدات التي تصدر من هنا وهناك على لسان مسؤولين مرموقين وأصحاب قرار، كأنهم اتفقوا ضمنا وسرا على تقاسم الأدوار والشروع في تعويد شعوبهم ورأيهم العام على حقائق جغراستراتيجية جديدة يجب على الحلف حسب تقديرهم التلاؤم معها بل استباقها بالقوة والاستعداد والتنظير. كل المراقبين الغربيين النزهاء الذين يشهدون كشهود من أهلها لاحظوا هذا التحول في عقيدة الحلف الأطلسي الذي يمكن تلخيصه في إرادة المحافظين الجدد الاستحواذ على الاتحاد الأوروبي وتذييله للحلف. وهذا ما بدأ يندد به كاتب افتتاحية مجلة(نوفيل سوليداريتيه) الباريسية السيد جاك شوميناد المرشح الرسمي لرئاسة الجمهورية الفرنسية في انتخابات 1995 حين كتب يقول في عدد الجمعة 14 مارس الجاري: (لا لأوروبا الممسوخة للحلف الأطلسي!) مؤكدا أن مؤتمر لشبونة الذي وافق على ميثاق موجز ومبسط للاتحاد الأوروبي في 13 ديسمبر الماضي كرس بالفعل عملية تذييل للاتحاد الأوروبي حتى يتحول الى ذراع عسكرية غليظة لحلف شمال الأطلسي!. يوم الجمعة 21 مارس جاء أيضا ليعزز الاعتقاد في أهمية هذا التغيير لأن الرئيس نيكولا ساركوزي حين أعطى اشارة الابحار للغواصة النووية الفرنسية الجديدة (لو تريبل) ألقى خطابا ضافيا شافيا حول العقيدة الهجومية المبتكرة لفرنسا وبالطبع للاتحاد الأوروبي الذي سترأسه باريس في يوليو القادم، وكذلك لقوات الحلف الأطلسي حين قال بوضوح إن فرنسا لن تتردد في توجيه ضربة استباقية نووية لكل دولة تهدد مصالحها الحيوية، وأضاف أنه يفكر في ايران قائلا إن طهران تسعى الى اكتساب القوة النووية وتعزز من قوتها النارية الصاروخية. هذا ما قاله الرئيس الفرنسي دون أي تواشيح دبلوماسية كان معمولا بها من قبل وحل محلها خطاب مباشر لا يراعي الصيغ السياسية المتعارفة بل يذكر بالاسم (العدو) الافتراضي المتوقع ويغير طبيعة العقيدة النووية الغربية لمواجهته. وهنا يقرن الصحفي الفرنسي (برتراند بويسون) بين ميثاق لشبونة الذي حور بعمق طبيعة الاتحاد الأوروبي والأهداف الجديدة لحلف شمال الأطلسي وأكد الصحفي أن ما يجري اليوم هو نقيض الديمقراطية لأن لا ميثاق الاتحاد الأوروبي ولا ميثاق الحلف خضعا لامتحان الشعوب التي حرمت من الاقتراع والاستفتاء وتحركت الحكومات لتفرض عليها المواجهة المجانية مع الأعداء الجدد أي في الواقع مع العالم الاسلامي، مهما ابتدع الخيال الاستراتيجي الغربي من تزيين هذا الاتجاه بنعوت الارهاب والتطرف كأنما الارهاب والتطرف لصيقان بالاسلام وحده بينما هما انحرافان أصيبت بهما كل الأديان بل وكل الأيديولوجيات السياسية منذ قابيل وهابيل الى اليوم وبينما الحقائق التاريخية تشير الى أن النازية والشيوعية ومحاكم التفتيش والحروب الدينية وفرض الاستخراب (الملقب بالاستعمار) ومعاداة السامية ومحارق اليهود وتجارة العبيد وابادة السكان الأصليين للقارة الأمريكية هي كلها انحرافات نشأت وترعرعت في الغرب وفي كنف التعصب المسيحي وذهب ضحيتها مجتمعة مليار من البشر! ومع ذلك لم نوصم نحن المسيحية بأنها دين الارهاب! ولا يفوتنا أن نلاحظ أن الغواصة النووية التي سبحت يوم الجمعة الماضي في مياه المحيط الأطلسي تحمل اسم (لو تريبل) أي الرهيب من اشتقاق الارهاب لغويا واستراتيجيا بالفرنسية وهي مزودة بصواريخ ذات رؤوس نووية تبلغ مسافة اطلاقها 8000 كلمتر. كما لا يفوتنا أن نسجل ما صرح به مسؤولان أمريكيان في زيارتهما للشرق الأوسط وهما نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني والمرشح الجمهوري للبيت الأبيض جون ماك كاين حين استعملا نفس المنطق المواجه لايران تأييدا منهما لهذه العقيدة الحربية الجديدة للغرب عن طريق حلف الناتو. وفي المقابل فان أصواتا كثيرة انطلقت من الغرب تندد بهذا التوجه المخيف الرهيب وأبرزها اليوم صوت المرشح الديمقراطي باراك أوباما المعارض لبقاء القوات الأمريكية الى أجل غير مسمى في العراق وأفغانستان ومعه أيضا صوت قائد القوات المركزية الأمريكية الجنرال وليام فالون الذي استقال يوم 11 مارس الجاري احتجاجا على قرع طبول الحرب في الادارة الأمريكية ضد ايران. الغريب في هذه المحنة هو أننا نحن المسلمين نجمع قمة وراء قمة لتدارس الاسلاموفوبيا كأنما يقتصر أمر الصراع الحضاري بين الشرق والغرب على مجرد شعور الخوف من الاسلام بينما كل الدلائل تؤكد أن القوى الانجيلية المتطرفة في الغرب شرعت تتجاوز مرحلة جديدة وغير مسبوقة في التاريخ الحديث لتضرب حضارتنا في العمق بتدبير ظلامي متعصب ونحن غافلون! [email protected] الشرق تاريخ النشر:يوم الأربعاء ,26 مارس 2008