نواصل في هذه الحلقة استعراض فحوى الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ العلامة الطاهر بن عاشور عميد الكلية الزيتونية في اختتام السنة الدراسية يوم 3 جويلية 1957. وأفضى الشيخ الطاهر بن عاشور بالهواجس التي كان مبعثها الاجراءات التضييقية التي كانت تهدد بالفعل مستقبل الدراسة بالزيتونية ومستقبل خريجيها، مشددا على القيمة العلمية التي هي الجوهر: «إن من أعظم الاخطار على سلامة العلم أن يصبح في نظر طالبيه صورة وشكلا وأن يقنعوا منه بالدون حتى يرضوا لأنفسهم أن يصبحوا آلة على ما تعطيهم شهاداتهم أو مناصبهم من الاعتبارات التي اذا فقدوها، فقدوا وجودهم الأدبي»... شهادة العالمية «وأنا أعلم أن وراء هذه هواجس تكدر على الطلبة الجامعيين وعموم خريجي الجامعة صفو أفكارهم بما يساور نفسوهم من شكوك ومخاوف نحو قيمة شهادة العالمية وحظها في المستقبل. فلإزالة ذلك أصرح الآن بما يطمئن له جميعهم من أن شهادة العالمية لا يتطرق اليها نقصان قيمة ولا انحطاط منزلة، وأنها على اعتبارها الذي توجبه لها صبغة التعليم العالي المنتهى بها. وقد اتصلنا في هذا الغرض بمكتوب من السيد وزير المعارف صريح بأن شهادة العالمية لا نزاع في مساواتها للاجازة (الليسانس) المعطاة في كليات التعليم العالي في الجامعات الشرقية والغربية. ولعل الذي خيل للبعض شبح الاشفاق على مصير العالمية إنما هو تعطل اجراء المناظرات للاحراز على وظائف التدريس من الطبقة الثانية في التعليم الثانوي الزيتوني وإن الشبهة في ذلك قوية ولكنها تزول بما صرح لنا به السيد وزير المعارف بأنه ستفتتح في نهاية هذه العطلة مناظرة على أربعين منصبا في التدريس من الطبقة الثانية مخصصة حسب القوانين لحملة شهادة العالمية». شعبة القضاء ثم إن المشكلة التي لم تزل قائمة حول مستقبل شهادة العالمية هي المشكلة الراجعة الى خصوص شعبة القضاء من كلية الشريعة، فإن طريقة انتخاب القضاة المعمول بها أخيرا اقتضت تخصيص ربع البقاع الشاغرة في سلك الحكّام التونسيين بأصحاب شهادة العالمية في القسم الشرعي ولكن البيان الصادر عن السيد وزير العدل في ذلك حدد هذا التخصيص بأجل ثلاث سنين، وقد استرعى مفهوم هذا القيد النظر في مستقبل خريجي كلية الشريعة وبخاصة أهل شعبة القضاء من تلك الكلية، فإن يأس طلبة تلك الشعبة من جانب مهم، كان محط آمالهم وهو جانب الانخراط في سلك الحكام، قد يفضي إلى انصرافهم عن تلك الشعبة في المستقبل انصرافا يتعطل به تخرّج الفقهاء في الشريعة. الجوهر والأعراض ومعلوم أنه لا يغني عن تخريج هذا الصنف من العلماء لا خريجو اصول الدين ولا خرّيجو المدرسة العليا للحقوق التونسية. وإني مع ما يأخذ باهتمامي واهتمام الأسرة الزيتونية كلها من هذه المسائل المتعلقة بالنواحي المادية والادارية، ارى لزاما علينا جميعا أن نحفظ أنفسنا من الوقوع في عيب الاغراق فيها حتى لا تطغى على أفكارنا، فتصبح الشهادات وامتيازاتها والوظائف وحقوقها هي الغاية القصوى لمسا عن اهل الجامعة والشغل الشاغل لخواطرهم، فما هذه الأمور، وان عظمت أهميتها الا أعراض، وان فوق هذه الأعراض لجوهرا ذاتيا يجب علينا الاعتناء به والحرص على سلامته وتقويته وحمايته من الاخلال والمفسدات، ذلك هو جوهر الدراسة العلمية، فهي التي ينبغي لنا أن نجعل لها السلطان المطلق على اتجاهاتنا وان نعتبر أن قيمتنا وقيمة جامعتنا مرتبطة بها ارتفاعا وانحطاطا بقطع النظر عن العناوين والشهادات والامتيازات، فان القيمة هي التي تفرض الشهادة وليست الشهادة بمستطيعة أن تفرض قيمة ليس لها من ذاتها ما يفرضها، وان من أعظم الأخطار على سلامة العلم ان يصبح في نظر طالبيه صورة وشكلا وان يقنعوا منه بالدون حتى يرضوا لأنفسهم أن يصبحوا آلة على ما تعطيهم شهاداتهم أ ومناصبهم من الاعتبارات التي اذا فقدوها فقدوا وجودهم الأدبي. وإن واجبنا في تقوية الجوهر الذاتي لجامعتنا، يرجع الى السمو بمناهج الدراسة الى المنازل اللائقة بمكانة هذه الجامعة وسمعتها، وتلك هي منازل البحث والتحقيق وتكوين ملكات النقد والتوليد ومقدرة الحكم الثابت في معارك الأنظار حتى يصير علماء الزيتونة المرتجون، أحقاء بخلقية اسلافهم وبنسب جامعتهم. الصباح