برز الاسترقاق في المجتمعات البشرية لما أُسدِلت مظلة الظلم على عالم الإنسان، واجتالت الشياطين نقاء الفطرة، فاشتعل أوار الحروب، وسُفكت الدماء، وأُزهقت الأرواح، وانتهكت الأعراض، ونُهبت الممتلكات، وتولَّدت الأطماع، فصار المحاربون لا يقتلون عدوهم المحارب بل يبقونه حيّاً إذا وقع في قبضتهم، يُذاق المذلة والعذاب والهوان، مُستعمَلاً في خدمتهم، مُطَوعاً لأوامرهم، منقاداً لأهوائهم. لقد أُطلق على العبد قديماً اسم "القن" أو 'الرقيق، وكانت هناك سوق تُسمى "سوق العبيد" أو"أسوق النِّخَاسَة"، وكان بيع العبيد وشراؤهم حرفة يمتهنها من يطلق عليه اسم "النَّخَّاس"، فكانوا يطلقون عليهم في الهند القديمة اسم "طبقة الشودرا" أو "الطبقة المنبوذة"، وهم في واقع الحال أحط من البهائم، وأذل من الكلاب. فلا يجوز لهم اقتناء المال ولا اكتنازه، ولا يتقاضون أجراً جزاء خدمة البراهمة، بل إن سعادة الشودرا هي خدمة البراهمة. أما كفارة قتل العبد من الشودرا؛ فإنها ككفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والغراب والبومة!. وفي بلاد اليونان، كان للسيد أن يعاقب عبده بالجلد وبالطحن على الرَّحى. فإذا أبِق العبد؛ فإنه يُكوى بالحديد المحمي على جبهته. أما في ظل الحضارة الرومانية فكانوا يستعملونهم في الحقول مقرَّنين في الأصفاد، حيث يقضون يومهم في العمل، والسياط تلهب ظهورهم أينما اتجهوا، فإذا ما أتى المساء؛ توجهوا إلى أماكن إقامتهم، وهي عبارة عن زنازين مظلمة، كريهة الرائحة، تأوي إليها الحشرات، والفئران، والزواحف، فيجتمع في الزنزانة الواحدة خمسون رجلاً مصفدين في الأغلال. لقد كانت هذه هي الحال التي آل إليها وضع الإنسان في المجتمعات القديمة. فبعد أن كان ينعم بالحرية التي وهبها له خالقه؛ استرقه أخوه الإنسان، وصيَّره له عبداً، يُذعن له بالعبودية، فيتحكَّم في غُدُوه ورَواحه، وفي أكله وشربه، وفي نومه ويقظته .. يتحكم في يومه وغده، وفي مصيره ومستقبله، وفي كل ما يمكن أن يناله منه. هذه هي أوضاع الرقيق في ظل مجتمعات الرِّق؛ ولكنها مع ذلك كانت في كنف القانون، وتحت مظلَّته في بعض البلاد، فما كان يجوز مثلاًَ عند الإغريق أن تزهق روح العبد إلا بعد صدور الحكم عليه، ومن ناحية أخرى فإن الرِّق والحرية أمران واضحان في تصور العبيد، والسادة، والجماهير العريضة في تلك المجتمعات. السيِّد يُعْرَفُ أنه سيد، فهو يملك المال، ويملك الحرية، ويملك العبد الذي استرقَّه بماله أو بمقتضى قانون الحروب. والعبد يَعْرف أنه عبد وليس حرّاً، ويعرف سبب عبوديته، وكيف يحرر نفسه من الرِّق إن كان هناك سبيل، كما يعرف معنى العبودية وما يُضادُّها من الحرية. والجماهير كذلك تعرف أن الحرية هي ألا يتحكم فيك أحد، لا في يومك ولا في غدك، لا في رزقك ولا في عملك، ولا يدعي الوصاية عليك أحدٌ فيحرمك من حقك في التفكير وأن تقول: لا آمناً على نفسك وعقلك وقلبك وعرضك ومالك، وأن العبودية هي أن تبقى في الغِل، يتحكم فيك الذي يستعبدك. هذا في الزمان القديم، أما في زماننا؛ فإن الشعوب تعيش أكبر مأساة في تاريخها.. إنها تعيش دوامة الصراع الفكري والصراع الغريزي ... لقد لُبِّست عليها الأمور، فصارت تُستعبد باسم الحرية، وتُنتهك حرماتها باسم الحرية، ويُقتَّل أطفالها ونساؤها باسم الحرية، وتساق إلى الخسف والسحق والمحق باسم الحرية، في حين أنها لا تعرف معنى الحرية، ولم تذق طعمها في يوم من الأيام ... صار يهتف من يهتف من قطيع الملايين باسم الحرية، وهم لا يعرفون من الحرية إلا اسمها، وإذا عرفوها؛ فإنهم لا يملكون إلا اسمها؛ لأنهم لم يعيشوها واقعاً في حياتهم، ولذلك فمثل الحرية التي يُنادون بها كمثل حرية الفأر في المصيدة، تملكهم طواغيت تتحكم في رقابهم، وتسوسهم بسياسة "أبراهام لينكولن" Abraham Lincoln الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأميريكية الذي وصف بأنه "محرر العبيد!". فقد قال لينكولن هذا ذات يوم:"لا تقل للعبد: أنت عبد؛ لأن ذلك قد يحمله على الثورة عليك في يومٍ من الأيام، ولكن قل له: أنت حر ويكون لك عبداً طوال حياته ولن يفكر في الثورة عليك في يومٍ من الأيام". لقد ظهرت في عالمنا أشكالٌ جديدة للرق، وصورٌ عديدة لعبودية الإنسان لغير خالقه سبحانه وتعالى: • فمنها عبودية الإنسان لشهواته وغرائزه وحطام هذه الدنيا الفانية .. فأحياناً يعبد المال والولد، وأحياناً يهبط أكثر فأكثر فيتعلق بما يشبع غريزته في أنثى، فيصير ذلك هو حياته كلها. • ومنها عبودية الإنسان لتفكيره وثقافته، فينسى في عنفوان زهوه وكبره فضائل المنعم الجليل، فيصيِّر من نفسه نداً لخالقه العظيم، وعدواً لمولاه الذي خلقه بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً، فيجرِّد قلمه للسخرية من الدين وشرائعه، والاستهزاء من الدعوة وأنصارها، ومحاربة كل ما هو حق وعدل وفضيلة. {يأيها الإنسان ما غرَّك بربِّك الكريم(6) الذي خلقك فسواك فعَدَلكَ(7) في أيِّ صورة ما شاء ركَّبك(8)}(الانفطار). • ومنها عبودية الإنسان لشعارات هزيلة، وأفكار هابطة، ومباديء هدامة، ونظريات إلحادية، يُسخِّر عقله لخدمتها، ويُبدِّد طاقته في اللهث وراء سرابها، ويضيِّع عمره في الدفاع عن تفاهاتها .. فهي تمنح الإنسان ما لا حق له فيه، ولا قدرة له عليه .. تمنحه الحق في صياغة تصوراته عن الكون والإنسان والحياة، كما تمنحه الحق في وضع نظام حياته، وهو المخلوق الظلوم الذي اتصف بالجهل والعجز والقصور. • ومنها عبودية الإنسان لعبيد مثله، يخلع عليهم من صفات الخالق ما هو مستحيل في حقهم. • ومنها عبودية الإنسان لأعداء أمته، وتطوعه للكيد لها، واشتراكه معهم في مكر الليل والنهار، فتنسيه ردغة الخيانة، وتغفله دوامة الصراع أن لله جلَّ ثناؤه صفات عليا، منها أنه جلَّ جلاله على كل شيء قدير، وأنه لا يخفى عليه شىء في الأرض ولا في السماء، وهذا يعني: oأنه جلَّ شأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . o وأنه جبار ذو انتقام، يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، فإذا أخذه؛ فإن أخذه أليم شديد.
o وأنه جلَّ شأنه يفضح الخونة والمارقين في يوم معلوم أمام الأشهاد.{ولا تحسبن الله غافلاً عمَّا يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار(42) مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء(43)}(إبراهيم). لا يمكن للعبد أن يصنع شيئاً لنفسه سوى طاعة سيده، بتنفيذ أمره، والسعي لمرضاته، فهو لا يقوى على التفكير إلاَّ في إحسان هذه الطاعة. ولذلك فالعبيد لا يحسنون التفكير في عظائم الأمور، ولا يستطيعون تحمل التبعات مهما بلغ شأنها. إنه من البلاهة بمكان أن يُنتظر من العبد ما لا قبل له به، ولا قدرة له عليه. الحرية هي نقيض العبودية .. هي القدرة على تغيير الواقع في عزة، وتقرير المصير في إباء، إنها ارتفاع بالإنسان الحر إلى آفاق عليا، تحرره من هوى النفس كما تحرره من ربقة الطواغيت. إن الأحرار على مدار التاريخ الإنساني هم القادرون على الفعل والتأثير، فهم الذين لا ينتظرون الفعل من غيرهم. لقد خبروا خصومهم وأعداءهم، فلا يتعلقون بالسراب، ولا يجرون وراء الأوهام ... الأحرار دائماً هم الذين يصنعون تاريخهم بأنفسهم.