في مؤشر جديد على الانحياز الأمريكي الصارخ ل “إسرائيل” واستمرار العجز العربي برفضه رغم خطورته وتداعياته وتماديه بتعديه على المقدسات الإسلامية والمسيحية ومحاولة إلغاء الثوابت، صدق الكونجرس الأمريكي بناء على توصية من الإدارة الأمريكية على منحة لتل أبيب تقدر بنحو 205 ملايين دولار بهدف مساعدتها في إقامة نظام “القبة الحديدية” الذي بمقتضاه يتم توجيه صواريخ بالرادار لاعتراض الصواريخ التي تطلقها “حماس” . المتابع بدقة لمسار الأحداث والتطورات على صعيد الصراع العربي “الإسرائيلي” ليس بحاجة إلى عناء كي يكتشف أن هذا الانحياز ليس جديداً، سواء على مستوى التعاون الاستراتيجي بين واشنطن وتل أبيب، أو الدعم السياسي والعسكري اللامحدود الذي تتلقاه “إسرائيل”، كما أنه ليس جديداً الصمت العربي تجاهه والذي أكدته العديد من مواقف الولاياتالمتحدة السابقة، فهناك 76 فيتو أمريكياً في مجلس الأمن لمصلحة “إسرائيل”، وعشرات المليارات من الدولارات كمساعدات اقتصادية وعسكرية، ورسائل ضمانات تضمن لها مواصلة سياساتها الاستيطانية وعبثها في الأراضي المحتلة آخرها رسالة الرئيس السابق جورج “بوش” ل “شارون” عام 2004 والتي يعتبر خلالها المستعمرات التي أقيمت في الضفة الغربيةوالقدس أمراً واقعياً يجب الاعتراف به، ما حدا بالعرب آنذاك إلى إطلاق “وعد بوش” عليها تشبيهاً ب “وعد بلفور”، وتأييدها العدوان على قطاع غزة، ورفضها عرض تقرير “جولدستون” على مجلس الأمن الذي اتهم “إسرائيل” بارتكاب جرائم حرب في غزة واستعمالها أسلحة محرمة دولياً رغم أن اللجنة التي أعدت التقرير مكلفة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وكأن “إسرائيل” أصبحت نتيجة الدعم الأمريكي والغربي لها دولة فوق القانون والمساءلة، لها الحق في الاعتراض على ما تراه تهديداً لأمنها القومي، سواء بالطرق السياسية كالضغوط التي تمارسها حالياً لفرض عقوبات على إيران لوقف تخصيب اليورانيوم، أو العسكرية كتهديدها بقصف منشآتها النووية كما فعلت مع العراق عام ،1980 مع أنها تمتلك أكثر من 200 رأس نووي غير خاضعة لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم توقع على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية . ورغم كل ذلك، اكتسب هذا الطلب (منح تل أبيب 205 ملايين دولار) أهمية بالغة دللت عليها العديد من التطورات، كان أولها وأهمها أنه جاء بعد يوم واحد من توقيع موسكو على صفقة أسلحة دفاعية مع دمشق تزودها بموجبها بطائرات مقاتلة وأسلحة مضادة للدبابات وأنظمة للدفاع الجوي، إلا أن “إسرائيل” احتجت على ذلك واستدعت السفير الروسي لديها، واعتبرت أن هذا الاتفاق يخل بالتوازن العسكري مع دمشق، رغم أنها أسلحة لا يقارن مستواها ونوعيتها وحجمها بالأسلحة التي تحصل عليها من الولاياتالمتحدة، والتي بلغت قيمتها نحو 21 مليار دولار خلال إدارة الرئيس السابق “جورج بوش” فقط، أي بمعدل 8 .2 مليار دولار كل عام، ولم تكتف بهذا فقط، وإنما انتقدت بشدة لقاء الرئيس الروسي مع قادة “حماس”، ودعوته إلى إشراك الحركة في عملية التسوية السلمية، وهو ما بدا أمراً عصياً على التصديق من مستوى الغطرسة السياسية التي أدمنتها في تعاملها مع العرب . ليس ذلك فحسب، بل جاء هذا الإعلان أيضاً بعد أيام من تدشين المفاوضات غير المباشرة بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية، والتي فرضتها ضغوط وإملاءات أمريكية أجبرت “لجنة متابعة مبادرة السلام العربية”، التي تضم 15 دولة، على قبولها، رغم أنها تعلم أن هذه الخطوة لن تحقق أي تقدم وستخدم “إسرائيل”، وقد تكون طوق نجاة ينتشلها من الانتقادات الدولية لما ارتكبته من جرائم في غزة، وانتهاكاتها المستمرة ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، فهي مجرد سباق مسرحي يهدف أمريكياً - إلى تحقيق “اختراقها الأول” بعد عام ونصف من التعثر في عملية السلام، ونوع من المواءمة لتحقيق أجندات أخرى لها، تبدو جميعها متصلة بالملف النووي الإيراني، ويهدف - فلسطينياً إلى دعم “أبو مازن” في مواجهة “حماس”، والحصول على غطاء عربي يمكن الارتكان عليه لبدء عملية التفاوض رغم تأكده من عدم جدواها . وبصفة عامة، إن الدعم الجديد ل “إسرائيل” يؤكد مجدداً أن “واشنطن/ أوباما” لا تختلف عن “واشنطن/ بوش” ومن سبقوه، فهي تعلم تمام العلم أن زعماء الدول العربية لن ينتفضوا مهما كان حجم الانحياز، وليس أدل على ذلك أنه بعد نحو شهرين من “الإهانة” الدبلوماسية “الإسرائيلية” كما وصفتها وزيرة الخارجية “هيلاري كلينتون” والتي وجهتها ل “جو بايدن” خلال زيارته إليها وصفت علاقات البلدين ب “رباط وثيق لا انفصام له”، وأن بلادها “لا تزال ملتزمة التزاماً مطلقاً بأمنها”، فيما قال “بايدن” أثناء زيارته: “أنا صهيوني وأمن “إسرائيل” من أمننا”!، مع أن العديد من الكتاب الغربيين والمحللين تحدثوا عن إهانته . إخفاق إدارة أوباما والواقع أن إخفاق “أوباما” على مدى أكثر من عام في الوفاء بتعهداته بتحقيق حل الدولتين، يعد امتداداً لمواقف جميع الإدارات الأمريكية في دعم “إسرائيل”، حيث لم يقتصر عجزه على تحدي حكومة “نتنياهو” لإدارته، برفضها مفردات رؤيته بشأن التسوية، وإنما امتد أيضاً إلى تراجعه واستجابته لضغوط اللوبي اليهودي، بمطالبته الدول الغربية الاعتراف ب “إسرائيل” دولة يهودية وتطبيع العلاقات معها، ومعارضته تقرير “جولدستون” الذي يدينها بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة، علاوة على دعم بلاده الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته، وتجاهل حكومة “حماس” التي جاءت إلى الحكم عبر انتخابات حرة شهد العالم بنزاهتها، بل إن إدارته سرعان ما تراجعت عن أبرز وعودها بأن على “إسرائيل” تجميد الاستيطان، وذلك بإعلان “هيلاري كلينتون” أنه ليس شرطاً لاستئناف المفاوضات بين الجانبين، ورضوخ “أوباما” لاحقاً لتجميد “غير معلن” للاستيطان لإطلاق المفاوضات غير المباشرة، خوفاً من أعضاء متطرفين في الحكومة “الإسرائيلية”، وهو ما يعتبر ليس دليلاً فقط على فشل إدارته في وقف الاستيطان، وإنما تشجيع لتل أبيب على تعنتها وتلاعبها أمام رئيس أصبح يخشى اللوبي اليهودي وتهديداته له كرئيس ولحزبه الذي سيخوض الانتخابات النصفية في نوفمبر 2010 . الموقف العربي ثاني تلك التطورات يتمثل في أنه جاء في ظل خلافات ما زالت مستمرة بين الدول العربية حول سحب مبادرة السلام، رغم رفض “إسرائيل” لها، وعملياتها المستمرة في تهويد مدينة القدس والتي كان آخرها تدشين “كنيس الخراب” قرب المسجد الأقصى، والذي يعتبر مقدمة لبناء “الهيكل” المزعوم فوق أنقاضه، وضم بعض المساجد القديمة وتحويلها إلى آثار يهودية، والتوسع في الاستيطان وبناء المستعمرات مكان البيوت العربية التي يهدمونها أو يصادرونها وطرد سكانها العرب . . كل هذه الجرائم الإنسانية والانتهاكات القانونية التي ترتكبها “إسرائيل” كانت مناسبة لقمة “سرت” لأن تتخذ موقفاً شجاعاً وتحركاً حقيقياً وتسحب المبادرة وتحيل القضية برمتها إلى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، لكنها شأنها شأن القمم السابقة ولدت ميتة . فقد عارض بعضهم اتخاذ أي قرارات تتعلق بإلغاء أو تجميد المبادرة، بحجة أنها تشكل أساساً “لتسويق” الموقف العربي، كما رفضت بعض الدول اقتراح المندوب السوري بإطلاق تسمية قمة “التحدي” عليها، لأنها حسب زعمهم غير ملائمة واقترحوا تسميتها قمة “القدس” كعنوان أكثر حياداً، ولذا لم يكن مفاجئاً الإبقاء على المبادرة، ولم يملك القادة العرب شجاعة سحبها أو تجميدها خشية إغضاب السيد الأمريكي وحتى “الإسرائيلي”، مكتفين بقرار إنشاء مفوضية للقدس، واعتماد خطة تحرك عاجلة لإنقاذ المدينة لا نعرف ما هي آليتها وزيادة صندوق دعمها إلى 500 مليون دولار بدلاً من 150 لن يصل للقدس منها شيء، وهو مبلغ لا يمثل سوى واحد على 34 مما اعتمدته “إسرائيل” لتهويد القدس والبالغ نحو 17 مليار دولار، وهو ما يشير صراحة إلى عجزهم عن ملامسة حجم التطلعات، وصمتهم تجاه محاولات المساس بقضاياهم المصيرية، وما ارتبط بها من صراعات وصلت إلى حد تواطؤ بعضهم مع الولاياتالمتحدة و”إسرائيل” ضد دول وحركات وطنية عربية أخرى! . واللافت وفي خطوة لها دلالاتها أن “إسرائيل”، التي لا تكترث بالمواقف العربية وتحولها إلى مادة للسخرية يعبر عنها بعض المعلقين في صحفها، كانت قلقة من ردود الفعل الغربية على تزوير بعض جوازات سفر مواطنيها واستخدامها في جريمة اغتيال محمود المبحوح القيادي في حركة “حماس” بدبي، والتي اكتفت قمة “سرت” بإدانتها في بيان منفصل، دون أن تشير لمسؤولية الدول الأوروبية أو حتى تطالبها باتخاذ إجراءات عقابية ضدها، كتخيير الدول التي استخدم الموساد جوازات سفرها بين اتخاذها خطوات عقابية رادعة ضد تل أبيب، وبين عدم اعتراف الدول العربية بهذه الجوازات، حيث كانت الصحف “الإسرائيلية” تسخر من خوف “نتنياهو” قائلة له “لا تقلق فأنت تعرفهم جبناء” . والواضح، أن قراءة “إسرائيل” للموقف العربي على هذا النحو لم تكن خاطئة، فلم تعد قلقة من أي رد فعل عربي، بل على العكس باتت مطمئنة بأن القادة العرب عاجزون عن اتخاذ أي قرار سياسي جريء كسحب المبادرة العربية أو قطع العلاقات معها أو حتى استخدام ورقة المصالح التجارية لإجبار واشنطن والاتحاد الأوروبي على إعادة النظر في موقفيهما من قضاياهم وانحيازهما لها . ونحن نقول إن غياب المشاركة الشعبية ودولة المؤسسات وسيادة القانون والحكم الرشيد والاستقواء بالخارج والانصياع لمطالبه وشروطه يجعل مصير هذه الأمة في مهب الريح . . فالأمة تحتاج إلى قيادات وطنية تخرجها من أزمتها وتعيد لها هيبتها وكرامتها وتحافظ على ثرواتها وتحرس مقدساتها، وهذا كله لا يمكن تحقيقه إلا إذا كان الحكم للشعب . * سفير جامعة الدول العربية سابقا في لندن ودبلن الخليج:الاثنين ,07/06/2010