ليس المقام للمقدمات ولا لتنميق الكلام أو إستجلاب شوارده، وهل يغني نوحٌ عن ثكل والدة مكلومة، ترقبت ركب الأيام بين زفرة وحسرة، ترتاد محطات الإنتظار المتناثرة على طول سنين الوطن العجاف، لتسطر بمأساتها: أن كل إنسان قد يقتل مرة واحدة ، لكن هذه الأم قتلت خمس مرات، على عدد ثمرات فؤادها الذين نعوا إليها في يوم واحد بكل جمود وقسوة، وبلا أمل في وداع يبدد سراب الإنتظار، أو حتى أطلال قبر يزار. فأي مشاعر ستتحمل وقع هذا النبأ الشديد، وأي جوانح لن تضطرب حزنا وكمدا ؟. هل سيغني الكلام عن لظى و لهف إيمان، الطفلة التي لم تعرف من أبيها إلا تقاطيع صورة مرتعشة كأنما رسمتها بيدها يوم أن كانت في ربيع عمرها الثالث , و محت أطلالها عبرات ثمانية عشرة سنة من اليتم قاسية, تحرت الطُّرُقات و الطَّرقات و أيام العيد لعل بهجتها تكتمل بعودة الأب المنتظر, ولكنها تلقت عوضا عنه ورقة تختزل عنوة كل المشاعر والأشواق والإنتظار, قيل عنها أنها شهادة وفاة. القضية جرح غائر أليم يعرف لظاه أهل الضحايا المكلومين ويستشف آلامهم كل الشرفاء والمنصفين، و لا يقلل فظاعتها إهمال الإعلام الرسمي لها أو تجاهل قنوات الرأي الآخر!، وعلى جنباتها يرى المتابع تذبذبا في المواقف، فبعد الإعلان عن هذه المذبحة رسميا، استبشر بهذه الخطوة الخيرون والوطنيون، أن صفحة من معاناة الأهالي بله من معاناة الوطن ستطوى وصفحة أخرى تستلهم رد الحقوق وإنصاف المظلوم ستبدأ. ثم نفاجأ بعدها بالإمعان في تجاهل حقوق مطالب ذوي الضحايا بل وتهديدهم وإعتقالهم بتهم واهية ثم وليس آخرا بالشروع في قتلهم تحت مرأى ومسمع كل الأجهزة التي من المفترض أنها تحرس الوطن و تحمي المواطن!. ثم ثالثة الأثافي حين أعلن أن الدولة لازالت قادرة على مواجهة أعداءها! فمن هم أعداء الدولة ؟ هل هم أهالي الضحايا ؟ هل من يطالب بحقوقه بالقانون وبالأسلوب السلمي عدو للدولة ؟ هل من يحاول أن يحل هذه القضية تحت العباءة الوطنية عدو للدولة؟ هل الذي ينأى بنفسه أن يستجر إلى مواجهات لا تخدم اللحمة الوطنية ولا وحدة الوطن التي قيل أنها من الخطوط الحمراء عدو للدولة ؟ هل الدولة ستعادي الشعب؟. أعتقد أن هذا النمط من التفكير والتعامل مع القضايا الشائكة يجب أن يراجع إبتداء، فليس من قبيل المبالغة أن قضية 'مذبحة بوسليم' تعد من أكبر قضايا الإنتهاك التي عاشها الوطن عبر الأربع عقود الماضية، بل هي أحد المجسات التي ستقيم من خلالها شعارات الإصلاح المرفوعة، وبقدر الجدية في حلها حلا يرضي أهالي الضحايا بقدر ما يثبت أن ليبيا الغد ليس ظاهرة صوتية ترفع وتيرتها عند الشعارات وتخمد حين الإستحقاقات!. ومن منظور ثاني فإنها تعكس قيمة المواطن الليبي في وطنه، فليس سرا المليارات التي دفعت تعويضا لضحايا حادثة لوكيربي والتي تكبدتها خزانة الوطن رغم كل الدلائل التي تشير إلى تلاعب بأدلة الإدانة، وليس سرا الخبر الذي تناولته بعض وسائل الإعلام بشأن التعويضات التي ستدفعها ليبيا إلى ضحايا عمليات الجيش الايرلندي. فهل أجندة شعارات الإصلاح تتسع لكل هذا الإبتزاز الخارجي وتضيق ذرعا بمظالم المواطنين؟ ، وهل ثمة إصلاح سيدركه المواطن إذا كانت الملفات الخارجية تعطى هذا القدر من الإهتمام والملفات الداخلية تتخطفها يد التردد والتسويف ؟ إن حل القضية في متناول السلطات الليبية لو توفرت إرادة كتلك التي توفرت لحل قضية لوكيربي وغيرها من القضايا الخارجية ، و الإرادة تتبلور في خطوات واضحة المعالم تبدأ بتحقيق شفاف ونزيه تتولاه جهة مستقلة لتوثيق ما حدث يوم المذبحة دون الخوض في التهم التي رفعتها الأجهزة الأمنية ضد المعتقلين، لأنها صناعة مرحلة الإنتهاك التي لا نريد العودة إليها، ولا ترتقي لتكون دليلا يبرر الإعتقال فضلا عن القتل، و حتى على فرضية صحتها، فإن الإجراءات القانونية كانت تستدعي قرارا من النيابة بالحبس ، والحبس في سجن تتوفر فيه الشروط الحقوقية المعتبرة و المحاكمة العادلة وحق الدفاع عن النفس وما يتبع ذلك من معايير حقوقية وليس قتل خارج نطاق القانون ل 1200 سجين أعزل نهشتهم أنياب المرض والجوع والتعذيب والعزل الكامل عن الحياة والمجتمع. إن الإصلاح المطلوب هو الذي يعالج أسباب الإنتهاك , و لن يلج الوطن مرحلة جديدة حتى تمارس الدولة مسئوليتها، والمسئولية ليست في المواجهة والقمع بل في إقرار الحقوق ومحاربة الإنتهاك وإنصاف المجني عليه وإبعاد خطاب التهديد و الإقصاء عند تناول قضايا الشعب . و مثل هذه الخطوات كفيلة بأن تستل السخائم و ترضي النفوس وستدفع بعون الله تعالى نحو حل وطني يرضي أهالي الضحايا ويحفظ أمن المجتمع و حينها سيرى المتابعون طيبة الشعب الليبي وحرصه على وطنه. أول القضية إعتقال قسري و أوسطها منع لجميع الحقوق المكفولة للمعتقلين ، وآخرها قتل لمعتقلين عزل خارج نطاق القانون ، وما بين هذا و ذاك مواطن يبحث عن كرامة وإنصاف في وطنه!. فهل سيكون الإصلاح بعين واحدة ترقب ردود فعل المظلوم والمجني عليه وتحمله مخاطر التدويل، إذا رفع عقيرته ببنت شفاة، يعبر بها عن حقوقه الضائعة وآماله المسلوبة ومظالمه، وأنه سيصبح عدوا للوطن وخطرا عليه؟ . إلى متى سيتحمل الوطن مثل هذا الخطاب الذي نعرف جميعا أنه كان السبب الرئيس للإنتهاك الذي حصل. لقد اعتقل الألاف تحت مبررات هذا الخطاب ، وشرد االمئات، وقتل المئات ، وهيمن الإحباط على الآف من جيل المستقبل فأصبحوا لقمة سائغة لمشاعر التعنت وأسلوب المواجهة، فهل هو إمعان في توريث البغض والحنق والكراهية!، أم سيداوى الوطن بأدوائه؟. الخميس، 20 رجب، 1431 الموافق 01.07.2010 ------------ سليمان عبدالقادر *المسؤول العام لجماعة الاخوان المسلمين - ليبيا 1/7/2010 المنارة