إن الوهابية هي المعادل الموضوعي لقيام الدولة السعودية ونشاطها السياسي والعسكري، ومن هنا تأتي حساسية ليست بالهينة للخوض في الموضوع باعتبار المتحدث لايناقش أو يتكلم في موضوع تاريخي اجتماعي عقدي بل في موضوع سياسي بالدرجة الأولى، ولاشك أن ذلك يتناقض تماما مع براءة من يرون في حركة الوهابي أنها كانت حركة أحياء أو اصلاح ديني وحسب،إن للوهابية فضيلة لاينكرها إلا من جهل أو استكبر ، وهذه الفضيلة متمثلة في أن إبن عبد الوهاب قد وقف موقفا عقليا رافضا لعادة تعظيم القبور والمزارات، لكن هذه الفضيلة ذاتها هي التي جرت على العالم الاسلامي وبالا عظيما حين جرى تكفير من قاموا على هذه القبور من عوام المسلمين وجهالهم وإخراجهم من الملة وقتالهم وقتلهم، وليس لنا سوى أن نتذكر رسالة العالم الحنبلي ابن عفالق لأمير العيينة ابن معمر حين قال قولة مؤثرة عظيمة تصف ماوصل له الحال وقتها من استحلال الدماء المعصومة بحجة الشرك والكفر: "أسألك بالله ،كيف تقول غداً يوم الحشر والمعاد إذا خاصمك بين يدي الله تعالى من قتلتموه ظلماً؟ أتقولون لرب السموات والأرض:أفتى لنا ابن …عبدالوهاب ،وأغوانا الشيطان؟ أن هناك مجموعة من علماء نجد الحنابلة عارضوا منهج محمد بن عبدالوهاب التكفيري أيضا معارضة شديدة وكاتبوا الأمراء والمتنفذين للتحذير من منهجه وقد كانت ردودالشيخ الوهابي عليهم شديدة كما يتضح ذلك في مجموعة رسائله المجموعة، كما كان موقف الباحثين والدارسين لهم من أتباع المنهج الوهابي إلى يومنا حافلا بالشتم والوصم والرمي بتهم ليس أقلها أنهم ممن أظهر العداوة لدين الله والصد عن سبيله،من الأمثلة على هؤلاء سليمان بن سحيم وهو عالم من حنابلة نجد، فقيه ابن فقيه، عارض دعوة الشيخ،ثم ترك الرياض بعد سقوطها إلى الأحساء ومنها إلى الزبير حيث توفي فيها. حاول أن يعارض منهج الشيخ التكفيري وهو شيخ مثله فكان الجزاء الرادع له أن كفره محمد بن عبدالوهاب وأخرجه من الملة. من هذا يتضح أن الشيخ الوهابي لم يكفر العامة فقط ممن يزورن المقابر ويستغيثون بالنبي كما يفعل عامة المسلمين في مصر والشام والجزائر حتى يومنا هذا بل كفر أيضا خاصة العلماء ممن عارضوه وقد قارعوه الحجة بالحجة. من أراد أن يتدبر في الأمر بعقله لابعاطفته وقرأ في ردود كثير من علماء عصره عليه "على ابن عبدالوهاب " سواء من داخل الجزيرة أو من خارجها، فسوف يجد بأن غالبيتهم لم يخالفوه في خطأ تعظيم القبور لكنهم وقفوا ضد تكفيره وقتاله وقتله لبسطاء المسلمين ممن طافوا على قبر أو تبركوا بشجرة أو صخرة،هذا مع الأخذ في الاعتبار بأن كثيرا من الباحثين المحايدين شككوا كثيرا في الدعاوي التي صورت الجزيرة العربية قبل ظهور الدعوة الوهابية بأنها قد أصبحت مرتعا للشرك والكفر، وقالوا ضمنا أو صراحة بأن ذلك كان نوعا من الدعاية التاريخية للوهابي،إن ذلك يشبه تصوير الوضع في مكة قبل ظهور الاسلام بأنه كان جاهلية محضة مع العلم بأن الاسلام ذاته تبنى كثيرا من أخلاقيات عرب الجاهلية الحميدة مثل اجارة المستجير وإكرام الضيف وصلة الرحم .. الخ ناهيك عن النواحي المدنية والتنظيمية التي عرفتها حواضر الحجاز قبل ظهور الاسلام فتم شطبها بجرات الأقلام ظنا منهم بأن ذلك إعلاء ومدحا لدين الاسلام ... لقد كان لدى ابن عبدالوهاب مفهوما متزمتا جدا للتوحيد أراد أن يطبقه على الناس بحد السيف بدون أن يأخذ بمنهج التدرج الذي يناسب طبيعة الناس في ذاك الزمان والمكان بل هو المناسب دائما للطبيعة الانسانية في .. كل زمان ومكان، وكانت هذه إحدى نقاط الخلاف الجوهرية بينه وبين أعضاء بيته الوهابي وإحقاقا للحق فقد كان توحيد ابن عبدالوهاب متقاطعا مع المطامح السياسية لابن سعود، فتولد في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة ذلك الحلف السياسي-الديني الشهير، ليصبح التوحيد الديني هو المعادل للتوحيد السياسي فصارت الحروب التي انعقدت رايتها بالمشاركة تحت بشت الأمير وبشت الشيخ، حروب تختلط فيها .السياسة بالدين بالزعامة، ومن هنا زادت في صبغتها الدموية لقد حدثت عملية تهميش واسعة للمعارضة النجدية الحنبلية لمحمد بن عبدالوهاب بشكل يجعل معارضته منحصرة في الأدعياء والكذابين والدجالين وأصحاب القبور، وهذه مغالطة إن وقع فيها البسطاء من الناس فلاينبغي أن يقع فيها من له عقل يقرأ ويتدبر،أن أعيان حريملاء اختلفوا في قبول دعوة محمد بن عبدالوهاب اختلافا ليس بسيطا وكان على رأسهم سليمان بن عبدالوهاب الذي كتب كتاباً أرسله إلى أهل العيينة يوضح لهم فيه معارضته لدعوة أخيه. والمثير في هذه القصة التي يسردها المؤرخ ابن بشر أن الرسالة حملها رسول يقال له سليمان بن خويطر الذي لسوء حظه قبض عليه من قبل أعوان الدعوة فلما تأكد محمد بن عبدالوهاب من طبيعة الرسالة أمر بقتل بن خويطر، وعلى اثر ذلك هرب سليمان لينجو بنفسه إلى المجمعة، وأقام فيها مدة زادت على العشرين سنة أقامة يشبهها بعض الباحثين المعاصرين في تاريخ الوهابية كسعود .السرحان بالاقامة الجبرية لقد شكلت معارضة سليمان لأخيه مأزقا كبيرا ليس لابن وهاب والمناصرين له في وقته إنما للوهابيين على مر الزمن وذلك لسبب قوي. لقد كان من السهل على هؤلاء الناس أن يصفون كل معارضة للوهابية بأنها من أهل العداوة أو من أهل البدع أو من القبوريين .. فذلك المعارض متصوف والأخر قبوري .. الخ أما أن يكون المعارض شقيقا لصاحب الدعوة وعالما حنبليا وخارجا من ذات البيت ومن ذات المدرسة الحنبلية فقد كان الأمر صاعقا لاينفع معه اتهام بالرفض (من رافضة) أو بالتصوف .. ومع الرقم الهائل للرسائل المؤلفة في الرد على ابن عبدالوهاب من علماء السنة من شتى بقاع العالم الاسلامي سواء ممن عاصروه أو من أتوا بعده، فإن عملية التهميش الوهابي ربما لم تطل أي منها كما طالت تاريخيا رسائل سليمان. لدرجة أن حقيقة هذا الخلاف بل حقيقة وجود سليمان نفسه لم تكن معروفة إنما متداولة على نطاق ضيق من الباحثين والمهتمين، فتاريخ الحركة الوهابية كما يدرس في مدارس التعليم العام أو حتى في مناهج أقسام التاريخ والحضارة بالجامعات السعودية يسقط اسم سليمان تماما من تلك الحقبة حتى من الناحية التاريخية المجردة، الشيء الآخر أن خلافا آخر بين محمد بن عبدالوهاب وبين أبيه العالم والقاضي الحنبلي والمعلم لأولاده كان مستعرا بسبب الدعوة. ويقرر ابن بشر أن الابن توقف عن الدعوة في حياة أبيه حين وقع بينهما كلام فلما توفاه الله صدع بها. وإنه لمن الغريب جدا أن يكون قاضيان من البيت الوهابي هما الوالد وابنه سليمان قد عارضا الدعوة وأخذا عليها تكفير عامة المسلمين وقتالهم، مما يعطي إشارة قوية إلى أن نجاح الدعوة الساحق لم يأت من صدقيتها الدينية أو من قوتها الذاتية كدعوة اصلاح أو من قناعة القاعدة الواسعة من الناس بها أو من التفاف علماء العصر حولها بل أتى من قوتها العسكرية التي تشكلت في ذلك الحلف التاريخي بين الشيخ والأمير، فمن سيعارض الدعوة سيصنف بأنه معارضا لابن سعود بالدرجة الأولى، ……….. ومن هنا أتى اختلاط السياسي بالديني بطريقة ربما لم يكن مثيلا لها بهذا الشكل على مر التاريخ ......