بنزرت: حجز 5,45طن من مادة الدلاع وإعادة ضخها في المسالك القانونية    من بينه جامع الزيتونة المعمور ...الألكسو تعلن رسميا عن إطلاق عن سجلّ التراث المعماري والعمراني في البلدان العربية    تواصل فعاليات الإقامة الفنية لمشروع"دا دا" للفنان محمد الهادي عقربي إلى غاية يوم 6 أوت الجاري    التراث والوعي التاريخيّ    عاجل/ السجن لتيكتوكور بتهمة نشر محتوى "مخل بالآداب العامة"    استشهاد 28 طفلا يوميا بسبب الجوع في غزة..#خبر_عاجل    زفيريف ينتفض ليُطيح بحامل اللقب بوبيرين من بطولة كندا المفتوحة للتنس    هام/ وزارة الدفاع تنتدب..    عاجل : ثورة رقمية في زرع الأعضاء: تونس تتحرك لإنقاذ الأرواح ...تفاصيل    بطل العالم وفخر تونس أحمد الجوادي يعود بتتويج تاريخي وسط غياب رسمي وصمت حكومي    تثمين الموقع الأثري بطينة: تعاون علمي تونسي فرنسي وجهود ترميم متقدمة    دعوى قضائية تطالب بحجب "تيك توك" في مصر    موجة حرّ كبيرة في شرق المتوسط جاية بسبب القبة الحرارية...هل تونس معنية؟    شنيا الحكاية؟ باحث أمريكي يحذّر من خطر زلزال يهدد تونس والبلدان اللي بجنبها    صور أطفالكم على الفيسبوك ؟ شوف القانون شنوا يقول    ولاية تونس: اللجنة الجهوية للنظافة توصي بضبط رزنامة وبرنامج عمل للقضاء على النقاط السوداء    بارفان ب5 د و على الطريق ؟ رد بالك تضر صحتك و هذا شنوا يستنى فيك    ارتفاع درجات الحرارة في تونس: نصائح طبية ضرورية لكبار السن خلال الصيف    ماء الكماين خطر....هيئة السلامة الصحية للمنتجات الغذائية تحذر و تنبه التوانسة    سوسة: سلاحف بحرية مهددة بالاندثار تخرج إلى شاطئ القنطاوي في مشهد نادر    الثلاثاء: البحر مضطرب بهذه السواحل    البحر مضطرب.. السباحة ممكنة لكن يلزم الحذر!    يهم التوانسة...درجات الحرارة هكا باش تكون اليوم وغدوة    قيس سعيّد: التعليم الوطني هو السلاح الحقيقي للتحرّر    عاجل: زلزال بقوة 5.7 درجات يضرب هذه البلاد    واشنطن تدين قرار وضع الرئيس البرازيلي السابق قيد الإقامة الجبرية    فنان الراب العالمي بلطي يروي قصص الجيل الجديد على ركح مهرجان الحمامات    قناة السويس ترد على طلب ترامب بشأن المرور المجاني للسفن الأمريكية    حملات لوحدات الشرطة البلدية تسفر عن القيام ب 54 عملية حجز    ديوكوفيتش يعلن انسحابه من بطولة سينسيناتي الأمريكية للتنس    وزير الشباب والرياضة يُكرّم الجمعيات الرياضية الصاعدة ويؤكد على دعمها وتحسين ظروف عملها    اكتشاف علاج واعد لأحد أخطر أنواع سرطان الدم    6 فوائد مذهلة للكمون ستجعلك تتناوله يوميا..    تاريخ الخيانات السياسية (36) ..المعتزّ يقتل المستعين بعد الأمان    أخبار الحكومة    المدير الجهوي للتجارة بنابل ل«الشرق» استقرار في التزويد.. وجهود لضبط الأسعار    بنزرت الجنوبية: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    بلاغ رسمي للملعب التونسي    أخبار النادي الصفاقسي .. حصيلة ايجابية في الوديات.. وتحذير من الغرور    تونس: تجميع أكثر من 11,7 مليون قنطار من الحبوب إلى غاية نهاية جويلية 2025    شبهات التلاعب بالتوجيه الجامعي ..فرقة الجرائم المعلوماتية تلاحق الجناة    ليلة الاثنين: بحر مضطرب بالسواحل الشرقية والشمالية    النجم الساحلي يتعاقد مع الظهير الايسر ناجح الفرجاني    وزير السياحة: سنة 2026 ستكون سنة قرقنة    مهرجان نابل الدولي 2025... تكرار بلا روح والتجديد غائب.    أمطار وبَرَدْ دمّرت الموسم: الزيتون والفزدق والتفاح شنيا صار؟!    ماء في الكميونة يعني تسمم وأمراض خطيرة؟ رّد بالك تشرب منو!    التوجيه تحوّل لكابوس: شكون تلاعب بملفات التلامذة؟    والد ضحية حفل محمد رمضان يكشف حقيقة "التعويض المالي"..    أحمد الجوادي قصة نجاح ملهمة تشق طريق المجد    سليانة: رفع إجمالي 275 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية    "روبين بينيت" على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنظيمات السلفية في المغرب العربي.. الظاهرة والأبعاد
نشر في الفجر نيوز يوم 03 - 12 - 2007

تنامت في السنوات الأخيرة التنظيمات السلفية المسلحة في المغرب العربي، التي لم تقتصر دائرة نشاطها على شمال إفريقيا، بل امتدّت إلى أوروبا، وخاص فرنسا وإسبانيا.
وفي هذا الحوار، الذي خص به الخبير التونسي الدكتور عبد اللطيف الهرماسي سويس إنفو، يرصد لنا هذا الأخير انزلاق التيارات المتشدّدة من المفهوم الدِّيني للجهاد، الذي كان يُبرِّر الصراع ضدّ المحتل الأجنبي، إلى الصراع الطائفي وتكفير الخصوم الداخليين.
يُتابع الخبير التونسي منذ عدة أعوام تطوّر العقل التكفيري ليشمل اليوم قِسما كبيرا من المجتمع المحلي، بدءا من الحكّام والقائمين على الدولة وموظفيها وأنصار الأنظمة القائمة، وصولا إلى الأحزاب العاملة من أجل التقدم والديمقراطية والمنظمات الأهلية.
ويُدرِّس الدكتور الهرماسي عِلم الاجتماع في الجامعة التونسية ومن مؤلفاته كتاب "الحركة الإسلامية في تونس"، الذي صدر سنة 1985 وكتاب "الدولة والتنمية في المغرب العربي"، الصادر عن دار سراس للنشر سنة 1993، وهو يعكِف منذ مطلع الثمانينات على دراسة الحركات الإسلامية في الجزائر وتونس، وأعد عنهما رسالته لنيل دكتوراه الدولة.
سويس انفو: هل لهذا التيار السلفي الجهادي جذور في الحركة الأصولية المعاصرة؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: لئن راج مصطلح "السلفية الجهادية" في السنوات الأخيرة، فإنّ المقُولات الإيديولوجية أو إذا شِئنا العناصر العقائدية لهذا التيار، ليست بالجديدة. كان سيّد قطب قدّم صياغة لها في بداية الستينات بالاستناد إلى بعض توجّهات "الإخوان المسلمين"، خاصة لدى عبد القادر عودة، وأدبيات "حزب التحرير" ومؤسسه تقي الدين النبهاني، وكتابات مؤسس "الجماعة الإسلامية" الباكستانية أبو الأعلى المودودي.
كما حاول قطب تطبيق هذه المقولات، وهو على رأس التنظيم السري للإخوان المسلمين، هذه المفاهيم، وفي المركز منها ثنائية الجاهلية/الحاكمية، تمّت استعادتها مع تعديلات من قِبل جماعة التكفير والهجرة، وخاصّة من طرف جماعة الجهاد التي وضعتها حيّز التنفيذ في مصر في عهدي السادات ومبارك.
كما تجسّدت في الأعمال العنيفة للمعارضة السلفية الجهادية في المملكة العربية السعودية منذ أحداث البيت الحرام الشهيرة (1979)، وكذلك في ممارسات وتبريرات "الجماعة الإسلامية المسلحة" بالجزائر وسليلتها "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" (تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي حاليا)، علاوة على سائر أنشطة شبكة "تنظيم القاعدة".
سويس انفو: وهل لكم أن تعرِّفوا بالسلفية الجهادية نفسها؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: السلفية الجهادية تيار إيديولوجي ومشروع تحمله جماعات حركية مناهضة بشكل مطلق لما هو قائم من أنظمة اجتماعية وسلطات سياسية وثقافة سائدة وعلاقات دولية، ونجد لقيامها أسبابا ومبرّرات شتّى، كما أنها تجنّد أفرادا ينتمون إلى قطاعات اجتماعية مختلفة، فقيرة الحال أو متوسطة أو ثرية أحيانا، كما أنّ منها القليل الحظ من التعليم ومنها ذوو المستوى التعليمي المتوسط أو العالي، ومنها خرّيجو المعاهد الدينية التقليدية والمتخرّجون من الجامعات الحديثة، والقاسم المشترك بين هذه المكوِّنات، على اختلاف ملامحها ودوافعها، هو طبيعة الإيديولوجية السياسية الدينية التي تسوّغ لها أهدافها وأنشطتها، وهي إيديولوجية تتّسم بالخاصية المزدوجة التالية:
أنّها تشكّل الصيغة الأكثر جِذرية لتقسيم البشرية على أساس ديني، إذ لا تكتفي بالتقسيم التقليدي للبشر إلى مسلمين وكفار، بل توسّع معنى الكُفر أو الشّرك وتقدّم تعريفا ضيّقا للإسلام يؤدّي إلى إخراج جزء كبير من المسلمين من حضيرته.
أنّها تقدّم في نفس الوقت الصيغة الأكثر جذرية لتسييس الدِّين، فتتعامل به كإيديولوجية صِداميّة لا تقف عند هدف استعادة النظام السياسي الإسلامي في فضائه التاريخي المعروف، وإنما تتجاوزه إلى الجهاد ضدّ ما تُسمّيه بالطاغوت والجاهلية في كل مكان من الكرة الأرضية، والعمل على إقامة دولة خلافة عالمية، أي حكم الإسلام للعالم كافة.
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي
سويس انفو: وما هي العوامل والدوافع التي تقف وراء ظهور هذا التيار وصعوده المتسارع في السنوات الأخيرة؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: هذا السؤال يُحيلنا إلى السياق التاريخي لبُروز السلفية الجهادية. يأتي هذا التيار كنتيجة لتداخل سِياقين، يتعلق أولهما بالمدى المتوسط ويغطّي المرحلة التاريخية التي عرفت اختراق الحداثة في صيغتها الاستعمارية، للعالمين العربي والإسلامي، والثاني بالظرفية التاريخية الراهنة.
على المستوى الأول، عاش العرب والمسلمون زهاء القرنين تحدِّيات غير مسبوقة، تمثّلت في استعمار الجُزء الأعظم من العالم الإسلامي وتقسيمه وتفكيك الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة وزرع الكيان الصهيوني وتوسّعه. لقد تراوحت الاستجابة لتلك التطورات بين قطبين: الأوّل، يسعى للنهوض باستيعاب مقوِّمات القوة لدى الخَصم مع ما ينطوي عليه هذا الخيار من مزالق التماهي مع ذلك الخصم. والثاني، يرفض الوافد ويقتدي بالماضي ويمجِّده، مع ما تنطوي عليه هذه الإستراتيجية من خطر ارتهان الهوية في الماضي.
أما ما يتعلق بالأوضاع الراهنة، فتجدر الملاحظة أن ما حقّقته الدول الوطنية المستقلّة، لم يرتقِ إلى مستوى التطلّعات، سواء ما يتعلق منها بالتنمية أو ما يهُم إدارة الشأن العام أو ما يتعلق بتجسيم شعارات الاستقلال والوحدة والمناعة.
لم تقدر الأنظمة على إيجاد حلّ مشرّف للقضية الفلسطينية، والكثير منها بدّد ثروات الأمة وطاقاتها في النزاعات على الحدود أو على النفوذ الجهوي أو في الإنفاق والترفيه، كما تنامى الفساد مع تراجع المشروع الوطني.
في هذا المناخ، ونتيجة تغيير الأوضاع الدولية وبروز الولايات المتحدة كقوة قيادية، شكّلت الضربة التي تلقّتها في رمز تفوّقها وكِبريائها (أحداث 11 سبتمبر 2001)، فرصتها لإحكام القبضة على العالمين، الإسلامي والعربي، من خلال احتلال العراق ودعم المجازِر التي يرتكبها الصهاينة، وهي في الجُملة أوضاع ملائمة لتنامي مشاعر السخط والنِّقمة والشعور بالمهانة الدِّينية والوطنية والاجتماعية، واعتماد المنظور الدِّيني عاملا مُفسّرا ومعيارا وحيدا للحكم على الأحداث وتنشيط المخيال الدِّيني الموروث وإسقاط صوره ورموزه على الحاضر.
سويس انفو: كيف تتجلّى تعبئة الموروث الدِّيني واستخدامه استخداما مُوجها في صراعات الحاضر؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: تذهب الفصائل السِّلمية إلى أبعد حدّ في الإستراتيجية القائمة على الحطّ من شأن الخصوم ونزع كل شرعية عنهم، مقابل تمجيد ذاتها وحقيقتها الخاصّة، فهي تضع مشروعها وأفعالها تحت مِظلة الجهاد الدِّيني، وخاصة النبيّ محمد (صلى الله عليه وسلم) ضد الجاهلية والشرك، ويستحضر خطابها، وهو يهاجم الأنظمة السياسية الحالية والقائمين عليها وأعوانها، وما يتخلّل سوَر القرآن من صُور عن طغيان فرعون وأمثاله، وعن كُفر المشركين من العرب واتخاذهم أربابا من دون الله، كما يستذكر وهو يتوعّد الولايات المتحدة وحلفاءها، الانتصارات التي حققها الخلفاء على الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية.
ويماثل بين الاعتداءات الإمبريالية الجديدة وغزوات الصليبيين أو التتار لديار الإسلام، ويُنعش ذاكرة النزاعات القديمة والعداوات بين السُنة والشيعة، والسُنة والمُحكمة (الخوارج).
ففي هذا المناخ الإيديولوجي، يصبح من الممكن تحويل ردود الفعل العفوية للجماهير المسلمة إلى إستراتيجية للمواجهة، تختزل واقعا بالغ التعقيد إلى ثنائيات متصادمة، كثنائية الإيمان/الكفر أو الإسلام/الشِّرك ودار الإسلام/دار الحرب وإحياء مفردات الصِّراع بين أهل الإسلام وأهل الرِدّة أو بين أصحاب الدِّين القويم والمبتدعة.
بهذا المعنى، فإن السلفية الجهادية ليست سوى التجسيد الأبلغ لانزياح الوعي الإسلامي نحو هذه الأشكال القصوى من التعارض والانقسام والعدائية والخلط بين رهانات الحاضر وصراعات الماضي.
وإذا ما تصفحنا أدَبيات أو خطابات الفصائل الجهادية الحالية، مشرقا ومغربا، فسنُعاين بوضوح انزلاق التوظيف الإيديولوجي للمخيال (أو الموروث) الدِّيني من الجِهاد أو الصِّراع ضدّ المحتل الأمريكي أو الصهيوني إلى الصِّراع الطائفي وتكفير الخصوم الداخلين.
إنّ الجهاد هنا لا يتّجه فقط إلى الخصم الخارجي بل يطال قسما كبيرا من المجتمع الأهلي، بدءا بالحكّام والقائمين على الدولة وموظفيها وأنصار الأنظمة القائمة، وصولا إلى القِوى والأحزاب العاملة من أجل التقدّم والديمقراطية وإرساء الحريات السياسية والمدنية.
فكل هؤلاء يعامِلهم التيار السلفي الجهادي ككُفار أو مرتدِّين، بل يعتبرهم أخطر من القِوى الخارجية المعتدية وأولى منها بالقتال، لذلك، نبحث عبَثا في خطاب السلفية الجهادية عن الدائرة الإسلامية الواسعة، فهذه الأخيرة تضيق لتنحصر في أهل السُنة والجماعة، وهذه الدائرة تضيق بدورها لتنحصر في الجماعة السلفية، كما تضيق هذه الأخيرة فيُستثنى منها السلفيون الموالون للنظام الوهّابي السعودي، بحيث لا يبقى من الأمّة أو الجماعة المسلمة سوى دُعاة السلفية الجهادية وأنصارها، فهم الوحيدون الذين ينطِقون بالحق ويجسِّدون الشرعية.
سويس انفو: إذا حصرنا الحديث في منطقة المغرب العربي، فما هي في نظركم دلالات سبق الحركة الأصولية بالجزائر إلى إعلان المقاومة المسلحة ضد النظام، وحجم الصراع الذي شهدته خلال تسعينات القرن الماضي؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: هذا السؤال يضعنا أمام خصوصيات تتميّز بها الجزائر عن باقي محيطها المغاربي، وهي خصوصيات موروثة عن الماضي التاريخي البعيد والقريب. فمن ناحية، لا يوجد بالجزائر تقليد دولوي (نسبة إلى الدولة، التحرير) راسخ كما هو الشأن في تونس والمغرب الأقصى.
الجزائر الحالية لم تجتمع أطرافها كدولة مركزية جامعة، باستثناء فترات محدودة، وليس لديها تقليد الخضوع لمثل هذه الدولة أو تعظيم شأنها، فحتى الدايات العثمانيون بقيت علاقتهم بالمجتمع الجزائري خارجية، همّها الأساسي جمع الضرائب. ولمّا أتت المركزية السياسية والإدارية مع فرنسا، فقد حصلت مقابل حرب مدمرة.
فرنسا اصطدمت في الجزائر بمقاومة عنيدة دامت نحو سبعين سنة واستعمارها للجزائر خلّف آثارا لا تُمحى من الذاكرة الجماعية للجزائريين، كما أنّ حرب التحرير الطويلة والمدمّرة، عمّقت هذا الجرح، وعليه، يمكن القول أنّ الحِقبة الاستعمارية كان لها دور رئيسي في تغذية نزعة العنف والعدوانية في الشخصية القاعدية الجزائرية، وهذه العناصر بالذات وجدت أسبابا للاستمرار في ظل دولة الاستقلال، إذ من المعلوم أنّ هذه الأخيرة ولِدت بدورها في مناخ من العنف الداخلي وبسطت سلطانها بالقوة، مما جعلها تعاني من عجز في الشرعية.
ومن المهم أن نضيف لما سبق، عاملا ثالثا يتمثل في الأهمية الخاصة التي لعبها الدِّين في سيرورة استرداد الجزائر لهويتها المسلوبة، وهي التي تعرّضت لعملية إلحاق وفرنسة لا مثيل لهما في تونس والمغرب.
لا غرابة إذن أن تكون الحركة الإسلامية بالجزائر قد أفرزت تيارات تميل إلى العُنف المسلح في تعاملها مع السلطة، وهو ما يتجلّى في الحركة التي قادها مصطفى بويعلي في أواسط الثمانينات، كما أنّ أسلوب الحكم في إدارة الشأن العام مَدّ هذه الظاهرة بمبرِّرات للامتداد والتضخّم.
سويس انفو: هل تقصد توقيف المسار الانتخابي الذي أوشكت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" على الفوز به في أول انتخابات تعددية منذ الاستقلال؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: لا أشير فقط إلى الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في سنة 1992، وإنما كذلك إلى المضاعفات الاجتماعية لسياسة إنمائية ضحّت بالزراعة وبالاستقرار وأفرزت اختناقات كبيرة على مستوى الإسكان والمواصلات، وإلى نتائج سياسة ثقافية وتعليمية عمّقت الهُوّة بين المُفرنسين والمُعرّبين، فضلا عن ظواهر الفساد والإثراء غير المشروع وملف البيروقراطية العسكرية.
فالجزائر في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، كانت بلدا ملغوما بالتناقضات، وينبغي أخذ مُجمل المعطيات السالِفة في الاعتبار لكي نفهم بعضا من عوامل عودة العُنف وانتشاره على نطاق واسع وتنامي تيار السلفية الجهادية والأشكال القصوى التي اتّخذتها المواجهات والتّصفيات الدامية خلال الحرب الأهلية الأخيرة.
سويس انفو: لكن خطابات وتوجّهات الجماعة السلفية للدعوة والقتال، تُؤشّر إلى وجود اختلافات بالمقارنة مع ما كانت عليه الجماعة الإسلامية المسلحة...
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: هذا صحيح، ومن الممكن وضع الإصبع على مستويين من مستويات الاختلاف، بالرغم من اشتراك الفصيلين في الأرضية الإيديولوجية وتبرير اللجوء إلى العنف.
فالجماعة الإسلامية المسلحة كانت عمدت خاصة في عهد "الأمير" عنتر الزوابري إلى تكفير الشعب الجزائري في مُجمله وارتكبت مذابح في صفوف المدنيين. ولا شكّ أنّ الإدانة الشاملة التي أثارتها تلك المجازر وانعكاساتها السلبية على "شعبية" الجماعة المسلحة كانت وراء الانقسام الذي حدث في صفوفها وتبرؤ أمراء الجماعة السلفية للدعوة والقتال منها واعتبارها من باب الزيغ والانحراف، لكن هذه الجماعة الأخيرة حافظت على عقيدة التكفير، وهي تَعتبر النظام الجزائري مرتَدّا عن الإسلام وتُبرر بذلك الاستمرار في قتاله.
أمّا الوجه الثاني للاختلاف، فيتعلّق بتوسع مجال التحرّك إلى الصعيد المغاربي والشمال إفريقي، وهو يعود، حسب رأيي، إلى عاملين: أولهما، انحسار مجال النشاط المسلح في الجزائر في علاقة بالآثار المدمّرة للحرب الأهلية، ومن جهة ثانية، خروج "تنظيم القاعدة" من منطقة تمركُزه الأصلية بأفغانستان وتحوّله إلى شبكة لها امتدادات في مناطق عديدة، وهو ما يُعطي للسلفية الجهادية بُعدا عالميا، ويمكّن فصائلها المختلفة من وسائل إضافية للعمل.
سويس انفو: في المُحصّلة، هل تعتقدون أن السلفية الجهادية هي تعبير أقصى عن التوترات التي يعيشها الإسلام في علاقة بالحداثة؟ وما هي انعكاسات الطرح السلفي الجهادي على موقف أصحابه من القضايا الملحة لمجتمعاتنا، وبصورة أعم على علاقة الإسلام بالحداثة؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: عَبثا نفتش في خطابات السلفية الجهادية عن اهتمام بقضايا التنمية ومكافحة البطالة والفقر ونشر المعرفة الحديثة وتبيئة التكنولوجيا ومسائل الديمقراطية الاجتماعية أو المشاركة السياسية والكفاح ضدّ الاستبداد والفساد.
ورغم أن هذه القضايا تحرّك ولاشكّ العديد ممّن ينتمون لهذا التيار أو يتعاطفون معه، إلا أنّ الخطاب يسكت عنها أو يتجاهلها، أما الحقوق السياسية والضمانات الدستورية وإرساء دولة القانون وحقوق الأقليات وحقوق المرأة وما إليها، فهي، بحكم مفهومه اللاّعقلاني لحكم الله وإلغائه لحرية البشر، مسائل مغلوطة أو باطلة، بل مدّعاة للتكفير والوصم بالجاهلية الحديثة...
سويس انفو: وكيف تُفسِّرون ذلك؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: الخطاب السلفي الجهادي يختزل كل القضايا إلى القضية الدينية ويوسّع صلاحيات الشريعة لتبتلع كل فضاءات الحرية، وصلاحية الدِّين لتبتلع كل القضايا الدنيوية، بدل أن يكون منظومة قِيم تستلهمها مجتمعاتنا وتسترشد بها في معالجة التحديات العديدة المفروضة عليها، إنه يختزل التناقضات بين المجتمعات والأنظمة وبين المجتمع المدني والدولة في مسألة العمل بمقتضى الشريعة، فيرمي منافسيه أو خصومه السياسيين والمفكرين بتُهم الردّة والكُفر ويتوعّدهم بالقتال، وكذلك يفعل وهو يتوجّه إلى الحكومات الغربية والشعوب ذات الثقافات المغايرة لثقافتنا، فلا يعود من الممكن إدراك سياسات الدول الكبرى أو تدخلاتها بمنطق المصالح ولا من المتاح التمييز داخل القوى التي تصنع الرأي العام العالمي بين أنصار التقدم والسلام والعدل من جهة، وصقور الاستعمار من جهة ثانية، ولا من المُتاح العمل على كسب أو تحييد الطرف الأول وعزل أو مقاومة الشق الثاني، فهذا الخطاب يرفض كل من يختلف مع رؤيته داخل العالم الإسلامي، كما يقود إلى مخاصمة باقي البشرية، متجاهلا ما نادى به الإسلام من الدعوة والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة، وما يتحلى به من قِيم التعايش والسماحة.
إنه لا يفعل أكثر من تغذية الحملات العدائية والمغرضة التي تقدم الإسلام كَدِين يُمجِّد العنف ويقوم على الحرب ويفرّخ الإرهاب.
أجرى الحديث في تونس : رشيد خشانة

الاثنين 3 ديسمبر - كانون الأول 2007
بقلم : رشيد خشانة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.