المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    جندوبة...المندوب الجهوي للسياحة طبرقة عين دراهم.. لدينا برنامج لمزيد استقطاب السائح الجزائري    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    بطولة افريقيا للأندية في كرة الطائرة.. مولودية بوسالم تخسر اللقب اما م الاهلي المصري    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    عاجل/ أحداث عنف بالعامرة وجبناينة: هذا ما تقرّر في حق المتورطين    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    عاجل/ منها الFCR وتذاكر منخفضة السعر: قرارات تخص عودة التونسيين بالخارج    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    ازدحام و حركية كبيرة بمعبر ذهيبة-وازن الحدودي    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل/ أمطار رعدية خلال الساعات القادمة بهذه المناطق    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب    هذه الشركة العالمية للأغذية مُتّهمة بتدمير صحة الأطفال في افريقيا وآسيا.. احذروا!    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    ر م ع الشركة الحديدية السريعة يكشف موعد إنطلاق استغلال الخطّ برشلونة-القبّاعة    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    وزير الدفاع الايطالي في تونس    ردا على الاشاعات : حمدي المدب يقود رحلة الترجي إلى جنوب إفريقيا    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    صور : وزير الدفاع الايطالي يصل إلى تونس    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    لأول مرة: التكنولوجيا التونسية تفتتح جناحا بمعرض "هانوفر" الدولي بألمانيا    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الخامسة    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنظيمات السلفية في المغرب العربي.. الظاهرة والأبعاد
نشر في الفجر نيوز يوم 03 - 12 - 2007

تنامت في السنوات الأخيرة التنظيمات السلفية المسلحة في المغرب العربي، التي لم تقتصر دائرة نشاطها على شمال إفريقيا، بل امتدّت إلى أوروبا، وخاص فرنسا وإسبانيا.
وفي هذا الحوار، الذي خص به الخبير التونسي الدكتور عبد اللطيف الهرماسي سويس إنفو، يرصد لنا هذا الأخير انزلاق التيارات المتشدّدة من المفهوم الدِّيني للجهاد، الذي كان يُبرِّر الصراع ضدّ المحتل الأجنبي، إلى الصراع الطائفي وتكفير الخصوم الداخليين.
يُتابع الخبير التونسي منذ عدة أعوام تطوّر العقل التكفيري ليشمل اليوم قِسما كبيرا من المجتمع المحلي، بدءا من الحكّام والقائمين على الدولة وموظفيها وأنصار الأنظمة القائمة، وصولا إلى الأحزاب العاملة من أجل التقدم والديمقراطية والمنظمات الأهلية.
ويُدرِّس الدكتور الهرماسي عِلم الاجتماع في الجامعة التونسية ومن مؤلفاته كتاب "الحركة الإسلامية في تونس"، الذي صدر سنة 1985 وكتاب "الدولة والتنمية في المغرب العربي"، الصادر عن دار سراس للنشر سنة 1993، وهو يعكِف منذ مطلع الثمانينات على دراسة الحركات الإسلامية في الجزائر وتونس، وأعد عنهما رسالته لنيل دكتوراه الدولة.
سويس انفو: هل لهذا التيار السلفي الجهادي جذور في الحركة الأصولية المعاصرة؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: لئن راج مصطلح "السلفية الجهادية" في السنوات الأخيرة، فإنّ المقُولات الإيديولوجية أو إذا شِئنا العناصر العقائدية لهذا التيار، ليست بالجديدة. كان سيّد قطب قدّم صياغة لها في بداية الستينات بالاستناد إلى بعض توجّهات "الإخوان المسلمين"، خاصة لدى عبد القادر عودة، وأدبيات "حزب التحرير" ومؤسسه تقي الدين النبهاني، وكتابات مؤسس "الجماعة الإسلامية" الباكستانية أبو الأعلى المودودي.
كما حاول قطب تطبيق هذه المقولات، وهو على رأس التنظيم السري للإخوان المسلمين، هذه المفاهيم، وفي المركز منها ثنائية الجاهلية/الحاكمية، تمّت استعادتها مع تعديلات من قِبل جماعة التكفير والهجرة، وخاصّة من طرف جماعة الجهاد التي وضعتها حيّز التنفيذ في مصر في عهدي السادات ومبارك.
كما تجسّدت في الأعمال العنيفة للمعارضة السلفية الجهادية في المملكة العربية السعودية منذ أحداث البيت الحرام الشهيرة (1979)، وكذلك في ممارسات وتبريرات "الجماعة الإسلامية المسلحة" بالجزائر وسليلتها "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" (تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي حاليا)، علاوة على سائر أنشطة شبكة "تنظيم القاعدة".
سويس انفو: وهل لكم أن تعرِّفوا بالسلفية الجهادية نفسها؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: السلفية الجهادية تيار إيديولوجي ومشروع تحمله جماعات حركية مناهضة بشكل مطلق لما هو قائم من أنظمة اجتماعية وسلطات سياسية وثقافة سائدة وعلاقات دولية، ونجد لقيامها أسبابا ومبرّرات شتّى، كما أنها تجنّد أفرادا ينتمون إلى قطاعات اجتماعية مختلفة، فقيرة الحال أو متوسطة أو ثرية أحيانا، كما أنّ منها القليل الحظ من التعليم ومنها ذوو المستوى التعليمي المتوسط أو العالي، ومنها خرّيجو المعاهد الدينية التقليدية والمتخرّجون من الجامعات الحديثة، والقاسم المشترك بين هذه المكوِّنات، على اختلاف ملامحها ودوافعها، هو طبيعة الإيديولوجية السياسية الدينية التي تسوّغ لها أهدافها وأنشطتها، وهي إيديولوجية تتّسم بالخاصية المزدوجة التالية:
أنّها تشكّل الصيغة الأكثر جِذرية لتقسيم البشرية على أساس ديني، إذ لا تكتفي بالتقسيم التقليدي للبشر إلى مسلمين وكفار، بل توسّع معنى الكُفر أو الشّرك وتقدّم تعريفا ضيّقا للإسلام يؤدّي إلى إخراج جزء كبير من المسلمين من حضيرته.
أنّها تقدّم في نفس الوقت الصيغة الأكثر جذرية لتسييس الدِّين، فتتعامل به كإيديولوجية صِداميّة لا تقف عند هدف استعادة النظام السياسي الإسلامي في فضائه التاريخي المعروف، وإنما تتجاوزه إلى الجهاد ضدّ ما تُسمّيه بالطاغوت والجاهلية في كل مكان من الكرة الأرضية، والعمل على إقامة دولة خلافة عالمية، أي حكم الإسلام للعالم كافة.
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي
سويس انفو: وما هي العوامل والدوافع التي تقف وراء ظهور هذا التيار وصعوده المتسارع في السنوات الأخيرة؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: هذا السؤال يُحيلنا إلى السياق التاريخي لبُروز السلفية الجهادية. يأتي هذا التيار كنتيجة لتداخل سِياقين، يتعلق أولهما بالمدى المتوسط ويغطّي المرحلة التاريخية التي عرفت اختراق الحداثة في صيغتها الاستعمارية، للعالمين العربي والإسلامي، والثاني بالظرفية التاريخية الراهنة.
على المستوى الأول، عاش العرب والمسلمون زهاء القرنين تحدِّيات غير مسبوقة، تمثّلت في استعمار الجُزء الأعظم من العالم الإسلامي وتقسيمه وتفكيك الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة وزرع الكيان الصهيوني وتوسّعه. لقد تراوحت الاستجابة لتلك التطورات بين قطبين: الأوّل، يسعى للنهوض باستيعاب مقوِّمات القوة لدى الخَصم مع ما ينطوي عليه هذا الخيار من مزالق التماهي مع ذلك الخصم. والثاني، يرفض الوافد ويقتدي بالماضي ويمجِّده، مع ما تنطوي عليه هذه الإستراتيجية من خطر ارتهان الهوية في الماضي.
أما ما يتعلق بالأوضاع الراهنة، فتجدر الملاحظة أن ما حقّقته الدول الوطنية المستقلّة، لم يرتقِ إلى مستوى التطلّعات، سواء ما يتعلق منها بالتنمية أو ما يهُم إدارة الشأن العام أو ما يتعلق بتجسيم شعارات الاستقلال والوحدة والمناعة.
لم تقدر الأنظمة على إيجاد حلّ مشرّف للقضية الفلسطينية، والكثير منها بدّد ثروات الأمة وطاقاتها في النزاعات على الحدود أو على النفوذ الجهوي أو في الإنفاق والترفيه، كما تنامى الفساد مع تراجع المشروع الوطني.
في هذا المناخ، ونتيجة تغيير الأوضاع الدولية وبروز الولايات المتحدة كقوة قيادية، شكّلت الضربة التي تلقّتها في رمز تفوّقها وكِبريائها (أحداث 11 سبتمبر 2001)، فرصتها لإحكام القبضة على العالمين، الإسلامي والعربي، من خلال احتلال العراق ودعم المجازِر التي يرتكبها الصهاينة، وهي في الجُملة أوضاع ملائمة لتنامي مشاعر السخط والنِّقمة والشعور بالمهانة الدِّينية والوطنية والاجتماعية، واعتماد المنظور الدِّيني عاملا مُفسّرا ومعيارا وحيدا للحكم على الأحداث وتنشيط المخيال الدِّيني الموروث وإسقاط صوره ورموزه على الحاضر.
سويس انفو: كيف تتجلّى تعبئة الموروث الدِّيني واستخدامه استخداما مُوجها في صراعات الحاضر؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: تذهب الفصائل السِّلمية إلى أبعد حدّ في الإستراتيجية القائمة على الحطّ من شأن الخصوم ونزع كل شرعية عنهم، مقابل تمجيد ذاتها وحقيقتها الخاصّة، فهي تضع مشروعها وأفعالها تحت مِظلة الجهاد الدِّيني، وخاصة النبيّ محمد (صلى الله عليه وسلم) ضد الجاهلية والشرك، ويستحضر خطابها، وهو يهاجم الأنظمة السياسية الحالية والقائمين عليها وأعوانها، وما يتخلّل سوَر القرآن من صُور عن طغيان فرعون وأمثاله، وعن كُفر المشركين من العرب واتخاذهم أربابا من دون الله، كما يستذكر وهو يتوعّد الولايات المتحدة وحلفاءها، الانتصارات التي حققها الخلفاء على الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية.
ويماثل بين الاعتداءات الإمبريالية الجديدة وغزوات الصليبيين أو التتار لديار الإسلام، ويُنعش ذاكرة النزاعات القديمة والعداوات بين السُنة والشيعة، والسُنة والمُحكمة (الخوارج).
ففي هذا المناخ الإيديولوجي، يصبح من الممكن تحويل ردود الفعل العفوية للجماهير المسلمة إلى إستراتيجية للمواجهة، تختزل واقعا بالغ التعقيد إلى ثنائيات متصادمة، كثنائية الإيمان/الكفر أو الإسلام/الشِّرك ودار الإسلام/دار الحرب وإحياء مفردات الصِّراع بين أهل الإسلام وأهل الرِدّة أو بين أصحاب الدِّين القويم والمبتدعة.
بهذا المعنى، فإن السلفية الجهادية ليست سوى التجسيد الأبلغ لانزياح الوعي الإسلامي نحو هذه الأشكال القصوى من التعارض والانقسام والعدائية والخلط بين رهانات الحاضر وصراعات الماضي.
وإذا ما تصفحنا أدَبيات أو خطابات الفصائل الجهادية الحالية، مشرقا ومغربا، فسنُعاين بوضوح انزلاق التوظيف الإيديولوجي للمخيال (أو الموروث) الدِّيني من الجِهاد أو الصِّراع ضدّ المحتل الأمريكي أو الصهيوني إلى الصِّراع الطائفي وتكفير الخصوم الداخلين.
إنّ الجهاد هنا لا يتّجه فقط إلى الخصم الخارجي بل يطال قسما كبيرا من المجتمع الأهلي، بدءا بالحكّام والقائمين على الدولة وموظفيها وأنصار الأنظمة القائمة، وصولا إلى القِوى والأحزاب العاملة من أجل التقدّم والديمقراطية وإرساء الحريات السياسية والمدنية.
فكل هؤلاء يعامِلهم التيار السلفي الجهادي ككُفار أو مرتدِّين، بل يعتبرهم أخطر من القِوى الخارجية المعتدية وأولى منها بالقتال، لذلك، نبحث عبَثا في خطاب السلفية الجهادية عن الدائرة الإسلامية الواسعة، فهذه الأخيرة تضيق لتنحصر في أهل السُنة والجماعة، وهذه الدائرة تضيق بدورها لتنحصر في الجماعة السلفية، كما تضيق هذه الأخيرة فيُستثنى منها السلفيون الموالون للنظام الوهّابي السعودي، بحيث لا يبقى من الأمّة أو الجماعة المسلمة سوى دُعاة السلفية الجهادية وأنصارها، فهم الوحيدون الذين ينطِقون بالحق ويجسِّدون الشرعية.
سويس انفو: إذا حصرنا الحديث في منطقة المغرب العربي، فما هي في نظركم دلالات سبق الحركة الأصولية بالجزائر إلى إعلان المقاومة المسلحة ضد النظام، وحجم الصراع الذي شهدته خلال تسعينات القرن الماضي؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: هذا السؤال يضعنا أمام خصوصيات تتميّز بها الجزائر عن باقي محيطها المغاربي، وهي خصوصيات موروثة عن الماضي التاريخي البعيد والقريب. فمن ناحية، لا يوجد بالجزائر تقليد دولوي (نسبة إلى الدولة، التحرير) راسخ كما هو الشأن في تونس والمغرب الأقصى.
الجزائر الحالية لم تجتمع أطرافها كدولة مركزية جامعة، باستثناء فترات محدودة، وليس لديها تقليد الخضوع لمثل هذه الدولة أو تعظيم شأنها، فحتى الدايات العثمانيون بقيت علاقتهم بالمجتمع الجزائري خارجية، همّها الأساسي جمع الضرائب. ولمّا أتت المركزية السياسية والإدارية مع فرنسا، فقد حصلت مقابل حرب مدمرة.
فرنسا اصطدمت في الجزائر بمقاومة عنيدة دامت نحو سبعين سنة واستعمارها للجزائر خلّف آثارا لا تُمحى من الذاكرة الجماعية للجزائريين، كما أنّ حرب التحرير الطويلة والمدمّرة، عمّقت هذا الجرح، وعليه، يمكن القول أنّ الحِقبة الاستعمارية كان لها دور رئيسي في تغذية نزعة العنف والعدوانية في الشخصية القاعدية الجزائرية، وهذه العناصر بالذات وجدت أسبابا للاستمرار في ظل دولة الاستقلال، إذ من المعلوم أنّ هذه الأخيرة ولِدت بدورها في مناخ من العنف الداخلي وبسطت سلطانها بالقوة، مما جعلها تعاني من عجز في الشرعية.
ومن المهم أن نضيف لما سبق، عاملا ثالثا يتمثل في الأهمية الخاصة التي لعبها الدِّين في سيرورة استرداد الجزائر لهويتها المسلوبة، وهي التي تعرّضت لعملية إلحاق وفرنسة لا مثيل لهما في تونس والمغرب.
لا غرابة إذن أن تكون الحركة الإسلامية بالجزائر قد أفرزت تيارات تميل إلى العُنف المسلح في تعاملها مع السلطة، وهو ما يتجلّى في الحركة التي قادها مصطفى بويعلي في أواسط الثمانينات، كما أنّ أسلوب الحكم في إدارة الشأن العام مَدّ هذه الظاهرة بمبرِّرات للامتداد والتضخّم.
سويس انفو: هل تقصد توقيف المسار الانتخابي الذي أوشكت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" على الفوز به في أول انتخابات تعددية منذ الاستقلال؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: لا أشير فقط إلى الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في سنة 1992، وإنما كذلك إلى المضاعفات الاجتماعية لسياسة إنمائية ضحّت بالزراعة وبالاستقرار وأفرزت اختناقات كبيرة على مستوى الإسكان والمواصلات، وإلى نتائج سياسة ثقافية وتعليمية عمّقت الهُوّة بين المُفرنسين والمُعرّبين، فضلا عن ظواهر الفساد والإثراء غير المشروع وملف البيروقراطية العسكرية.
فالجزائر في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، كانت بلدا ملغوما بالتناقضات، وينبغي أخذ مُجمل المعطيات السالِفة في الاعتبار لكي نفهم بعضا من عوامل عودة العُنف وانتشاره على نطاق واسع وتنامي تيار السلفية الجهادية والأشكال القصوى التي اتّخذتها المواجهات والتّصفيات الدامية خلال الحرب الأهلية الأخيرة.
سويس انفو: لكن خطابات وتوجّهات الجماعة السلفية للدعوة والقتال، تُؤشّر إلى وجود اختلافات بالمقارنة مع ما كانت عليه الجماعة الإسلامية المسلحة...
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: هذا صحيح، ومن الممكن وضع الإصبع على مستويين من مستويات الاختلاف، بالرغم من اشتراك الفصيلين في الأرضية الإيديولوجية وتبرير اللجوء إلى العنف.
فالجماعة الإسلامية المسلحة كانت عمدت خاصة في عهد "الأمير" عنتر الزوابري إلى تكفير الشعب الجزائري في مُجمله وارتكبت مذابح في صفوف المدنيين. ولا شكّ أنّ الإدانة الشاملة التي أثارتها تلك المجازر وانعكاساتها السلبية على "شعبية" الجماعة المسلحة كانت وراء الانقسام الذي حدث في صفوفها وتبرؤ أمراء الجماعة السلفية للدعوة والقتال منها واعتبارها من باب الزيغ والانحراف، لكن هذه الجماعة الأخيرة حافظت على عقيدة التكفير، وهي تَعتبر النظام الجزائري مرتَدّا عن الإسلام وتُبرر بذلك الاستمرار في قتاله.
أمّا الوجه الثاني للاختلاف، فيتعلّق بتوسع مجال التحرّك إلى الصعيد المغاربي والشمال إفريقي، وهو يعود، حسب رأيي، إلى عاملين: أولهما، انحسار مجال النشاط المسلح في الجزائر في علاقة بالآثار المدمّرة للحرب الأهلية، ومن جهة ثانية، خروج "تنظيم القاعدة" من منطقة تمركُزه الأصلية بأفغانستان وتحوّله إلى شبكة لها امتدادات في مناطق عديدة، وهو ما يُعطي للسلفية الجهادية بُعدا عالميا، ويمكّن فصائلها المختلفة من وسائل إضافية للعمل.
سويس انفو: في المُحصّلة، هل تعتقدون أن السلفية الجهادية هي تعبير أقصى عن التوترات التي يعيشها الإسلام في علاقة بالحداثة؟ وما هي انعكاسات الطرح السلفي الجهادي على موقف أصحابه من القضايا الملحة لمجتمعاتنا، وبصورة أعم على علاقة الإسلام بالحداثة؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: عَبثا نفتش في خطابات السلفية الجهادية عن اهتمام بقضايا التنمية ومكافحة البطالة والفقر ونشر المعرفة الحديثة وتبيئة التكنولوجيا ومسائل الديمقراطية الاجتماعية أو المشاركة السياسية والكفاح ضدّ الاستبداد والفساد.
ورغم أن هذه القضايا تحرّك ولاشكّ العديد ممّن ينتمون لهذا التيار أو يتعاطفون معه، إلا أنّ الخطاب يسكت عنها أو يتجاهلها، أما الحقوق السياسية والضمانات الدستورية وإرساء دولة القانون وحقوق الأقليات وحقوق المرأة وما إليها، فهي، بحكم مفهومه اللاّعقلاني لحكم الله وإلغائه لحرية البشر، مسائل مغلوطة أو باطلة، بل مدّعاة للتكفير والوصم بالجاهلية الحديثة...
سويس انفو: وكيف تُفسِّرون ذلك؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: الخطاب السلفي الجهادي يختزل كل القضايا إلى القضية الدينية ويوسّع صلاحيات الشريعة لتبتلع كل فضاءات الحرية، وصلاحية الدِّين لتبتلع كل القضايا الدنيوية، بدل أن يكون منظومة قِيم تستلهمها مجتمعاتنا وتسترشد بها في معالجة التحديات العديدة المفروضة عليها، إنه يختزل التناقضات بين المجتمعات والأنظمة وبين المجتمع المدني والدولة في مسألة العمل بمقتضى الشريعة، فيرمي منافسيه أو خصومه السياسيين والمفكرين بتُهم الردّة والكُفر ويتوعّدهم بالقتال، وكذلك يفعل وهو يتوجّه إلى الحكومات الغربية والشعوب ذات الثقافات المغايرة لثقافتنا، فلا يعود من الممكن إدراك سياسات الدول الكبرى أو تدخلاتها بمنطق المصالح ولا من المتاح التمييز داخل القوى التي تصنع الرأي العام العالمي بين أنصار التقدم والسلام والعدل من جهة، وصقور الاستعمار من جهة ثانية، ولا من المُتاح العمل على كسب أو تحييد الطرف الأول وعزل أو مقاومة الشق الثاني، فهذا الخطاب يرفض كل من يختلف مع رؤيته داخل العالم الإسلامي، كما يقود إلى مخاصمة باقي البشرية، متجاهلا ما نادى به الإسلام من الدعوة والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة، وما يتحلى به من قِيم التعايش والسماحة.
إنه لا يفعل أكثر من تغذية الحملات العدائية والمغرضة التي تقدم الإسلام كَدِين يُمجِّد العنف ويقوم على الحرب ويفرّخ الإرهاب.
أجرى الحديث في تونس : رشيد خشانة

الاثنين 3 ديسمبر - كانون الأول 2007
بقلم : رشيد خشانة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.