بيان للهيئة الوطنية للمحامين حول واقعة تعذيب تلميذ بسجن بنزرت    لاليغا الاسبانية.. سيناريوهات تتويج ريال مدريد باللقب على حساب برشلونة    معرض تونس الدولي للكتاب: الناشرون العرب يشيدون بثقافة الجمهور التونسي رغم التحديات الاقتصادية    كأس تونس لكرة اليد : الترجي يُقصي الإفريقي ويتأهل للنهائي    الاتحاد المنستيري يضمن التأهل إلى المرحلة الختامية من بطولة BAL بعد فوزه على نادي مدينة داكار    بورصة تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث الأداء بنسبة 10.25 بالمائة    الأنور المرزوقي ينقل كلمة بودربالة في اجتماع الاتحاد البرلماني العربي .. تنديد بجرائم الاحتلال ودعوة الى تحرّك عربي موحد    اليوم آخر أجل لخلاص معلوم الجولان    الإسناد اليمني لا يتخلّى عن فلسطين ... صاروخ بالستي يشلّ مطار بن غوريون    الرابطة الثانية (الجولة العاشرة إيابا)    البطولة العربية لألعاب القوى للأكابر والكبريات: 3 ذهبيات جديدة للمشاركة التونسية في اليوم الختامي    مع الشروق : كتبت لهم في المهد شهادة الأبطال !    رئيس اتحاد الناشرين التونسيين.. إقبال محترم على معرض الكتاب    حجز أجهزة إتصال تستعمل للغش في الإمتحانات بحوزة أجنبي حاول إجتياز الحدود البرية خلسة..    بايرن ميونيخ يتوج ببطولة المانيا بعد تعادل ليفركوزن مع فرايبورغ    متابعة للوضع الجوي لهذه الليلة: أمطار بهذه المناطق..#خبر_عاجل    عاجل/ بعد تداول صور تعرض سجين الى التعذيب: وزارة العدل تكشف وتوضح..    قطع زيارته لترامب.. نقل الرئيس الصربي لمستشفى عسكري    معرض تونس الدولي للكتاب يوضّح بخصوص إلزام الناشرين غير التونسيين بإرجاع الكتب عبر المسالك الديوانية    الملاسين وسيدي حسين.. إيقاف 3 مطلوبين في قضايا حق عام    إحباط هجوم بالمتفجرات على حفل ليدي غاغا'المليوني'    قابس.. حوالي 62 ألف رأس غنم لعيد الأضحى    أهم الأحداث الوطنية في تونس خلال شهر أفريل 2025    الكاف: انطلاق موسم حصاد الأعلاف مطلع الأسبوع القادم وسط توقّعات بتحقيق صابة وفيرة وذات جودة    نهاية عصر البن: قهوة اصطناعية تغزو الأسواق    حجز عملة أجنبية مدلسة بحوزة شخص ببن عروس    الصالون المتوسطي للبناء "ميديبات 2025": فرصة لدعم الشراكة والانفتاح على التكنولوجيات الحديثة والمستدامة    انتفاخ إصبع القدم الكبير...أسباب عديدة وبعضها خطير    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    إلى أواخر أفريل 2025: رفع أكثر من 36 ألف مخالفة اقتصادية وحجز 1575 طنا من المواد الغذائية..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    مبادرة تشريعية تتعلق بإحداث صندوق رعاية كبار السن    تونس في معرض "سيال" كندا الدولي للإبتكار الغذائي: المنتوجات المحلية تغزو أمريكا الشمالية    إحباط عمليات تهريب بضاعة مجهولة المصدر قيمتها 120 ألف دينار في غار الماء وطبرقة.    تسجيل ثالث حالة وفاة لحادث عقارب    إذاعة المنستير تنعى الإذاعي الراحل البُخاري بن صالح    زلزالان بقوة 5.4 يضربان هذه المنطقة..#خبر_عاجل    النفيضة: حجز كميات من العلف الفاسد وإصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن    تنبيه/ انقطاع التيار الكهربائي اليوم بهذه الولايات..#خبر_عاجل    برنامج مباريات اليوم والنقل التلفزي    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    خطير/كانا يعتزمان تهريبها إلى دولة مجاورة: إيقاف امرأة وابنها بحوزتهما أدوية مدعمة..    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    أريانة: القبض على تلميذين يسرقان الأسلاك النحاسية من مؤسسة تربوية    بطولة فرنسا - باريس يخسر من ستراسبورغ مع استمرار احتفالات تتويجه باللقب    سوسة: الإعلامي البخاري بن صالح في ذمة الله    لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    بعد هجومه العنيف والمفاجئ على حكومتها وكيله لها اتهامات خطيرة.. قطر ترد بقوة على نتنياهو    ترامب ينشر صورة له وهو يرتدي زي البابا ..    كارول سماحة تنعي زوجها بكلمات مؤثرة    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنظيمات السلفية في المغرب العربي.. الظاهرة والأبعاد
نشر في الفجر نيوز يوم 03 - 12 - 2007

تنامت في السنوات الأخيرة التنظيمات السلفية المسلحة في المغرب العربي، التي لم تقتصر دائرة نشاطها على شمال إفريقيا، بل امتدّت إلى أوروبا، وخاص فرنسا وإسبانيا.
وفي هذا الحوار، الذي خص به الخبير التونسي الدكتور عبد اللطيف الهرماسي سويس إنفو، يرصد لنا هذا الأخير انزلاق التيارات المتشدّدة من المفهوم الدِّيني للجهاد، الذي كان يُبرِّر الصراع ضدّ المحتل الأجنبي، إلى الصراع الطائفي وتكفير الخصوم الداخليين.
يُتابع الخبير التونسي منذ عدة أعوام تطوّر العقل التكفيري ليشمل اليوم قِسما كبيرا من المجتمع المحلي، بدءا من الحكّام والقائمين على الدولة وموظفيها وأنصار الأنظمة القائمة، وصولا إلى الأحزاب العاملة من أجل التقدم والديمقراطية والمنظمات الأهلية.
ويُدرِّس الدكتور الهرماسي عِلم الاجتماع في الجامعة التونسية ومن مؤلفاته كتاب "الحركة الإسلامية في تونس"، الذي صدر سنة 1985 وكتاب "الدولة والتنمية في المغرب العربي"، الصادر عن دار سراس للنشر سنة 1993، وهو يعكِف منذ مطلع الثمانينات على دراسة الحركات الإسلامية في الجزائر وتونس، وأعد عنهما رسالته لنيل دكتوراه الدولة.
سويس انفو: هل لهذا التيار السلفي الجهادي جذور في الحركة الأصولية المعاصرة؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: لئن راج مصطلح "السلفية الجهادية" في السنوات الأخيرة، فإنّ المقُولات الإيديولوجية أو إذا شِئنا العناصر العقائدية لهذا التيار، ليست بالجديدة. كان سيّد قطب قدّم صياغة لها في بداية الستينات بالاستناد إلى بعض توجّهات "الإخوان المسلمين"، خاصة لدى عبد القادر عودة، وأدبيات "حزب التحرير" ومؤسسه تقي الدين النبهاني، وكتابات مؤسس "الجماعة الإسلامية" الباكستانية أبو الأعلى المودودي.
كما حاول قطب تطبيق هذه المقولات، وهو على رأس التنظيم السري للإخوان المسلمين، هذه المفاهيم، وفي المركز منها ثنائية الجاهلية/الحاكمية، تمّت استعادتها مع تعديلات من قِبل جماعة التكفير والهجرة، وخاصّة من طرف جماعة الجهاد التي وضعتها حيّز التنفيذ في مصر في عهدي السادات ومبارك.
كما تجسّدت في الأعمال العنيفة للمعارضة السلفية الجهادية في المملكة العربية السعودية منذ أحداث البيت الحرام الشهيرة (1979)، وكذلك في ممارسات وتبريرات "الجماعة الإسلامية المسلحة" بالجزائر وسليلتها "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" (تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي حاليا)، علاوة على سائر أنشطة شبكة "تنظيم القاعدة".
سويس انفو: وهل لكم أن تعرِّفوا بالسلفية الجهادية نفسها؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: السلفية الجهادية تيار إيديولوجي ومشروع تحمله جماعات حركية مناهضة بشكل مطلق لما هو قائم من أنظمة اجتماعية وسلطات سياسية وثقافة سائدة وعلاقات دولية، ونجد لقيامها أسبابا ومبرّرات شتّى، كما أنها تجنّد أفرادا ينتمون إلى قطاعات اجتماعية مختلفة، فقيرة الحال أو متوسطة أو ثرية أحيانا، كما أنّ منها القليل الحظ من التعليم ومنها ذوو المستوى التعليمي المتوسط أو العالي، ومنها خرّيجو المعاهد الدينية التقليدية والمتخرّجون من الجامعات الحديثة، والقاسم المشترك بين هذه المكوِّنات، على اختلاف ملامحها ودوافعها، هو طبيعة الإيديولوجية السياسية الدينية التي تسوّغ لها أهدافها وأنشطتها، وهي إيديولوجية تتّسم بالخاصية المزدوجة التالية:
أنّها تشكّل الصيغة الأكثر جِذرية لتقسيم البشرية على أساس ديني، إذ لا تكتفي بالتقسيم التقليدي للبشر إلى مسلمين وكفار، بل توسّع معنى الكُفر أو الشّرك وتقدّم تعريفا ضيّقا للإسلام يؤدّي إلى إخراج جزء كبير من المسلمين من حضيرته.
أنّها تقدّم في نفس الوقت الصيغة الأكثر جذرية لتسييس الدِّين، فتتعامل به كإيديولوجية صِداميّة لا تقف عند هدف استعادة النظام السياسي الإسلامي في فضائه التاريخي المعروف، وإنما تتجاوزه إلى الجهاد ضدّ ما تُسمّيه بالطاغوت والجاهلية في كل مكان من الكرة الأرضية، والعمل على إقامة دولة خلافة عالمية، أي حكم الإسلام للعالم كافة.
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي
سويس انفو: وما هي العوامل والدوافع التي تقف وراء ظهور هذا التيار وصعوده المتسارع في السنوات الأخيرة؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: هذا السؤال يُحيلنا إلى السياق التاريخي لبُروز السلفية الجهادية. يأتي هذا التيار كنتيجة لتداخل سِياقين، يتعلق أولهما بالمدى المتوسط ويغطّي المرحلة التاريخية التي عرفت اختراق الحداثة في صيغتها الاستعمارية، للعالمين العربي والإسلامي، والثاني بالظرفية التاريخية الراهنة.
على المستوى الأول، عاش العرب والمسلمون زهاء القرنين تحدِّيات غير مسبوقة، تمثّلت في استعمار الجُزء الأعظم من العالم الإسلامي وتقسيمه وتفكيك الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة وزرع الكيان الصهيوني وتوسّعه. لقد تراوحت الاستجابة لتلك التطورات بين قطبين: الأوّل، يسعى للنهوض باستيعاب مقوِّمات القوة لدى الخَصم مع ما ينطوي عليه هذا الخيار من مزالق التماهي مع ذلك الخصم. والثاني، يرفض الوافد ويقتدي بالماضي ويمجِّده، مع ما تنطوي عليه هذه الإستراتيجية من خطر ارتهان الهوية في الماضي.
أما ما يتعلق بالأوضاع الراهنة، فتجدر الملاحظة أن ما حقّقته الدول الوطنية المستقلّة، لم يرتقِ إلى مستوى التطلّعات، سواء ما يتعلق منها بالتنمية أو ما يهُم إدارة الشأن العام أو ما يتعلق بتجسيم شعارات الاستقلال والوحدة والمناعة.
لم تقدر الأنظمة على إيجاد حلّ مشرّف للقضية الفلسطينية، والكثير منها بدّد ثروات الأمة وطاقاتها في النزاعات على الحدود أو على النفوذ الجهوي أو في الإنفاق والترفيه، كما تنامى الفساد مع تراجع المشروع الوطني.
في هذا المناخ، ونتيجة تغيير الأوضاع الدولية وبروز الولايات المتحدة كقوة قيادية، شكّلت الضربة التي تلقّتها في رمز تفوّقها وكِبريائها (أحداث 11 سبتمبر 2001)، فرصتها لإحكام القبضة على العالمين، الإسلامي والعربي، من خلال احتلال العراق ودعم المجازِر التي يرتكبها الصهاينة، وهي في الجُملة أوضاع ملائمة لتنامي مشاعر السخط والنِّقمة والشعور بالمهانة الدِّينية والوطنية والاجتماعية، واعتماد المنظور الدِّيني عاملا مُفسّرا ومعيارا وحيدا للحكم على الأحداث وتنشيط المخيال الدِّيني الموروث وإسقاط صوره ورموزه على الحاضر.
سويس انفو: كيف تتجلّى تعبئة الموروث الدِّيني واستخدامه استخداما مُوجها في صراعات الحاضر؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: تذهب الفصائل السِّلمية إلى أبعد حدّ في الإستراتيجية القائمة على الحطّ من شأن الخصوم ونزع كل شرعية عنهم، مقابل تمجيد ذاتها وحقيقتها الخاصّة، فهي تضع مشروعها وأفعالها تحت مِظلة الجهاد الدِّيني، وخاصة النبيّ محمد (صلى الله عليه وسلم) ضد الجاهلية والشرك، ويستحضر خطابها، وهو يهاجم الأنظمة السياسية الحالية والقائمين عليها وأعوانها، وما يتخلّل سوَر القرآن من صُور عن طغيان فرعون وأمثاله، وعن كُفر المشركين من العرب واتخاذهم أربابا من دون الله، كما يستذكر وهو يتوعّد الولايات المتحدة وحلفاءها، الانتصارات التي حققها الخلفاء على الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية.
ويماثل بين الاعتداءات الإمبريالية الجديدة وغزوات الصليبيين أو التتار لديار الإسلام، ويُنعش ذاكرة النزاعات القديمة والعداوات بين السُنة والشيعة، والسُنة والمُحكمة (الخوارج).
ففي هذا المناخ الإيديولوجي، يصبح من الممكن تحويل ردود الفعل العفوية للجماهير المسلمة إلى إستراتيجية للمواجهة، تختزل واقعا بالغ التعقيد إلى ثنائيات متصادمة، كثنائية الإيمان/الكفر أو الإسلام/الشِّرك ودار الإسلام/دار الحرب وإحياء مفردات الصِّراع بين أهل الإسلام وأهل الرِدّة أو بين أصحاب الدِّين القويم والمبتدعة.
بهذا المعنى، فإن السلفية الجهادية ليست سوى التجسيد الأبلغ لانزياح الوعي الإسلامي نحو هذه الأشكال القصوى من التعارض والانقسام والعدائية والخلط بين رهانات الحاضر وصراعات الماضي.
وإذا ما تصفحنا أدَبيات أو خطابات الفصائل الجهادية الحالية، مشرقا ومغربا، فسنُعاين بوضوح انزلاق التوظيف الإيديولوجي للمخيال (أو الموروث) الدِّيني من الجِهاد أو الصِّراع ضدّ المحتل الأمريكي أو الصهيوني إلى الصِّراع الطائفي وتكفير الخصوم الداخلين.
إنّ الجهاد هنا لا يتّجه فقط إلى الخصم الخارجي بل يطال قسما كبيرا من المجتمع الأهلي، بدءا بالحكّام والقائمين على الدولة وموظفيها وأنصار الأنظمة القائمة، وصولا إلى القِوى والأحزاب العاملة من أجل التقدّم والديمقراطية وإرساء الحريات السياسية والمدنية.
فكل هؤلاء يعامِلهم التيار السلفي الجهادي ككُفار أو مرتدِّين، بل يعتبرهم أخطر من القِوى الخارجية المعتدية وأولى منها بالقتال، لذلك، نبحث عبَثا في خطاب السلفية الجهادية عن الدائرة الإسلامية الواسعة، فهذه الأخيرة تضيق لتنحصر في أهل السُنة والجماعة، وهذه الدائرة تضيق بدورها لتنحصر في الجماعة السلفية، كما تضيق هذه الأخيرة فيُستثنى منها السلفيون الموالون للنظام الوهّابي السعودي، بحيث لا يبقى من الأمّة أو الجماعة المسلمة سوى دُعاة السلفية الجهادية وأنصارها، فهم الوحيدون الذين ينطِقون بالحق ويجسِّدون الشرعية.
سويس انفو: إذا حصرنا الحديث في منطقة المغرب العربي، فما هي في نظركم دلالات سبق الحركة الأصولية بالجزائر إلى إعلان المقاومة المسلحة ضد النظام، وحجم الصراع الذي شهدته خلال تسعينات القرن الماضي؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: هذا السؤال يضعنا أمام خصوصيات تتميّز بها الجزائر عن باقي محيطها المغاربي، وهي خصوصيات موروثة عن الماضي التاريخي البعيد والقريب. فمن ناحية، لا يوجد بالجزائر تقليد دولوي (نسبة إلى الدولة، التحرير) راسخ كما هو الشأن في تونس والمغرب الأقصى.
الجزائر الحالية لم تجتمع أطرافها كدولة مركزية جامعة، باستثناء فترات محدودة، وليس لديها تقليد الخضوع لمثل هذه الدولة أو تعظيم شأنها، فحتى الدايات العثمانيون بقيت علاقتهم بالمجتمع الجزائري خارجية، همّها الأساسي جمع الضرائب. ولمّا أتت المركزية السياسية والإدارية مع فرنسا، فقد حصلت مقابل حرب مدمرة.
فرنسا اصطدمت في الجزائر بمقاومة عنيدة دامت نحو سبعين سنة واستعمارها للجزائر خلّف آثارا لا تُمحى من الذاكرة الجماعية للجزائريين، كما أنّ حرب التحرير الطويلة والمدمّرة، عمّقت هذا الجرح، وعليه، يمكن القول أنّ الحِقبة الاستعمارية كان لها دور رئيسي في تغذية نزعة العنف والعدوانية في الشخصية القاعدية الجزائرية، وهذه العناصر بالذات وجدت أسبابا للاستمرار في ظل دولة الاستقلال، إذ من المعلوم أنّ هذه الأخيرة ولِدت بدورها في مناخ من العنف الداخلي وبسطت سلطانها بالقوة، مما جعلها تعاني من عجز في الشرعية.
ومن المهم أن نضيف لما سبق، عاملا ثالثا يتمثل في الأهمية الخاصة التي لعبها الدِّين في سيرورة استرداد الجزائر لهويتها المسلوبة، وهي التي تعرّضت لعملية إلحاق وفرنسة لا مثيل لهما في تونس والمغرب.
لا غرابة إذن أن تكون الحركة الإسلامية بالجزائر قد أفرزت تيارات تميل إلى العُنف المسلح في تعاملها مع السلطة، وهو ما يتجلّى في الحركة التي قادها مصطفى بويعلي في أواسط الثمانينات، كما أنّ أسلوب الحكم في إدارة الشأن العام مَدّ هذه الظاهرة بمبرِّرات للامتداد والتضخّم.
سويس انفو: هل تقصد توقيف المسار الانتخابي الذي أوشكت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" على الفوز به في أول انتخابات تعددية منذ الاستقلال؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: لا أشير فقط إلى الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في سنة 1992، وإنما كذلك إلى المضاعفات الاجتماعية لسياسة إنمائية ضحّت بالزراعة وبالاستقرار وأفرزت اختناقات كبيرة على مستوى الإسكان والمواصلات، وإلى نتائج سياسة ثقافية وتعليمية عمّقت الهُوّة بين المُفرنسين والمُعرّبين، فضلا عن ظواهر الفساد والإثراء غير المشروع وملف البيروقراطية العسكرية.
فالجزائر في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، كانت بلدا ملغوما بالتناقضات، وينبغي أخذ مُجمل المعطيات السالِفة في الاعتبار لكي نفهم بعضا من عوامل عودة العُنف وانتشاره على نطاق واسع وتنامي تيار السلفية الجهادية والأشكال القصوى التي اتّخذتها المواجهات والتّصفيات الدامية خلال الحرب الأهلية الأخيرة.
سويس انفو: لكن خطابات وتوجّهات الجماعة السلفية للدعوة والقتال، تُؤشّر إلى وجود اختلافات بالمقارنة مع ما كانت عليه الجماعة الإسلامية المسلحة...
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: هذا صحيح، ومن الممكن وضع الإصبع على مستويين من مستويات الاختلاف، بالرغم من اشتراك الفصيلين في الأرضية الإيديولوجية وتبرير اللجوء إلى العنف.
فالجماعة الإسلامية المسلحة كانت عمدت خاصة في عهد "الأمير" عنتر الزوابري إلى تكفير الشعب الجزائري في مُجمله وارتكبت مذابح في صفوف المدنيين. ولا شكّ أنّ الإدانة الشاملة التي أثارتها تلك المجازر وانعكاساتها السلبية على "شعبية" الجماعة المسلحة كانت وراء الانقسام الذي حدث في صفوفها وتبرؤ أمراء الجماعة السلفية للدعوة والقتال منها واعتبارها من باب الزيغ والانحراف، لكن هذه الجماعة الأخيرة حافظت على عقيدة التكفير، وهي تَعتبر النظام الجزائري مرتَدّا عن الإسلام وتُبرر بذلك الاستمرار في قتاله.
أمّا الوجه الثاني للاختلاف، فيتعلّق بتوسع مجال التحرّك إلى الصعيد المغاربي والشمال إفريقي، وهو يعود، حسب رأيي، إلى عاملين: أولهما، انحسار مجال النشاط المسلح في الجزائر في علاقة بالآثار المدمّرة للحرب الأهلية، ومن جهة ثانية، خروج "تنظيم القاعدة" من منطقة تمركُزه الأصلية بأفغانستان وتحوّله إلى شبكة لها امتدادات في مناطق عديدة، وهو ما يُعطي للسلفية الجهادية بُعدا عالميا، ويمكّن فصائلها المختلفة من وسائل إضافية للعمل.
سويس انفو: في المُحصّلة، هل تعتقدون أن السلفية الجهادية هي تعبير أقصى عن التوترات التي يعيشها الإسلام في علاقة بالحداثة؟ وما هي انعكاسات الطرح السلفي الجهادي على موقف أصحابه من القضايا الملحة لمجتمعاتنا، وبصورة أعم على علاقة الإسلام بالحداثة؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: عَبثا نفتش في خطابات السلفية الجهادية عن اهتمام بقضايا التنمية ومكافحة البطالة والفقر ونشر المعرفة الحديثة وتبيئة التكنولوجيا ومسائل الديمقراطية الاجتماعية أو المشاركة السياسية والكفاح ضدّ الاستبداد والفساد.
ورغم أن هذه القضايا تحرّك ولاشكّ العديد ممّن ينتمون لهذا التيار أو يتعاطفون معه، إلا أنّ الخطاب يسكت عنها أو يتجاهلها، أما الحقوق السياسية والضمانات الدستورية وإرساء دولة القانون وحقوق الأقليات وحقوق المرأة وما إليها، فهي، بحكم مفهومه اللاّعقلاني لحكم الله وإلغائه لحرية البشر، مسائل مغلوطة أو باطلة، بل مدّعاة للتكفير والوصم بالجاهلية الحديثة...
سويس انفو: وكيف تُفسِّرون ذلك؟
الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: الخطاب السلفي الجهادي يختزل كل القضايا إلى القضية الدينية ويوسّع صلاحيات الشريعة لتبتلع كل فضاءات الحرية، وصلاحية الدِّين لتبتلع كل القضايا الدنيوية، بدل أن يكون منظومة قِيم تستلهمها مجتمعاتنا وتسترشد بها في معالجة التحديات العديدة المفروضة عليها، إنه يختزل التناقضات بين المجتمعات والأنظمة وبين المجتمع المدني والدولة في مسألة العمل بمقتضى الشريعة، فيرمي منافسيه أو خصومه السياسيين والمفكرين بتُهم الردّة والكُفر ويتوعّدهم بالقتال، وكذلك يفعل وهو يتوجّه إلى الحكومات الغربية والشعوب ذات الثقافات المغايرة لثقافتنا، فلا يعود من الممكن إدراك سياسات الدول الكبرى أو تدخلاتها بمنطق المصالح ولا من المتاح التمييز داخل القوى التي تصنع الرأي العام العالمي بين أنصار التقدم والسلام والعدل من جهة، وصقور الاستعمار من جهة ثانية، ولا من المُتاح العمل على كسب أو تحييد الطرف الأول وعزل أو مقاومة الشق الثاني، فهذا الخطاب يرفض كل من يختلف مع رؤيته داخل العالم الإسلامي، كما يقود إلى مخاصمة باقي البشرية، متجاهلا ما نادى به الإسلام من الدعوة والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة، وما يتحلى به من قِيم التعايش والسماحة.
إنه لا يفعل أكثر من تغذية الحملات العدائية والمغرضة التي تقدم الإسلام كَدِين يُمجِّد العنف ويقوم على الحرب ويفرّخ الإرهاب.
أجرى الحديث في تونس : رشيد خشانة

الاثنين 3 ديسمبر - كانون الأول 2007
بقلم : رشيد خشانة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.