من نصدق، التصريحات الرسمية التي أكدت أن العلاقة بين مصر وتركيا سمن على عسل، أم كتابات المحسوبين على بعض الدوائر الرسمية التي لم تكف عن الغمز واللمز في الموقف التركي، مستخدمة أسلوب دس السم في العسل؟ لست في وارد استعادة تلك التصريحات الإيجابية أو الكتابات السلبية، فهي منشورة وبين يدي الكافة. لكن ما يهمني في هذه الصورة أمران. الأول أن التصريحات الإيجابية عبرت عن وجه للعلاقات. وأن الكتابات السلبية عبرت عن وجه آخر ، والذي حدث أن التصريحات الرسمية تحدثت عما هو متفق عليه بأسلوب مهذب ومحترم نسبيا، أما الذين انطلقوا من نقاط الخلاف فقد عبروا عن ذلك بلغة «الردح» التي يجيدها نفر من كتابات الصحف القومية، لكننا إذا دققنا النظر في عمق المشهد فسوف نجد في هذا التباين قرينة تدل على تعدد الأصوات داخل النظام في مصر. وهذا التعدد الذي نلاحظه في أمور أخرى حساسة ودقيقة، بعضها يتعلق- مثلا- بقرارات الحكومة والبعض الآخر يتعلق بأسلوب إدارة الأزمة مع بدو سيناء، ربما تكون له علاقة بخيارات وترتيبات مستقبل الحكم في مصر، وهو الملف الذي يثار من حوله لغط كثير هذه الأيام. الأمر الثاني الذي تستدعيه التصريحات المسؤولة والكتابات غير المسؤولة. ينصب على تحرير العلاقة بين مصر وتركيا، التي هي جيدة للغاية اقتصاديا، لكنها ليست كذلك بالضبط سياسيا. ذلك أن ثمة إقبالا مشهودا من جانب رجال الأعمال الأتراك على الاستثمار في مصر، حتى وصل عدد الصناعيين الأتراك الذين استثمروا نحو مليار و200 مليون دولار في مصر إلى أكثر من 260 مستثمرا، وثمة مشروع كبير لإقامة منطقة صناعية للأتراك في محافظة 6 أكتوبر، ثم إن هناك إقبالا مصريا ملحوظا على السياحة والإتجار مع السوق التركية (قال لي القنصل التركي في القاهرة أكرم اكويونلو إنهم كانوا يتلقون يوميا قبل سنتين نحو 50 طلب تأشيرة للدخول. وفي الوقت الراهن فإن متوسط التأشيرات اليومية أصبح يتراوح بين 500 و700 طلب). على الصعيد السياسي، فمصر وتركيا لهما علاقاتهما الديبلوماسية مع إسرائيل، ومعروف أن تركيا كانت الأسبق فى ذلك، لأنها اعترفت بإسرائيل منذ عام 1949، ثم إنهما ارتبطا بعلاقات تحالف مع الولاياتالمتحدة. إلا أن الحالة الديموقراطية في تركيا سمحت لها بأن تحتفظ بهامش حركة أوسع من مصر في علاقاتها مع البلدين. تدل على ذلك الأزمة الراهنة بين أنقرة وتل أبيب بسبب أسطول الحرية والسلينة مرمرة، واللغط المثار في واشنطن الذي يطالب الحكومة التركية بأن تحسم أمرها وتختار بين معسكري الاعتدال والتطرف في العالم العربي. مصر وتركيا تتفقان أيضا في تبني الحل السلمي للقضية الفلسطينية. لكنهما تختلفان حول الموقف من حركة حماس. فتركيا تعتبر الحركة فصيلا مقاوما اكتسب شرعيته السياسية حين فاز في الانتخابات التشريعية، ومن ثم فله الحق في المشاركة السياسية. وهي تعتبر أن في فلسطين شرعيتين منتخبتين وليست شرعية واحدة، الأولى في رام الله والثانية فى غزة. الموقف المصري مختلف. إذ يعتبر حماس حركة انقلابية، لا يُعترف بشرعيتها، وهي متضامنة في ذلك مع أبومازن وحكومة رام الله في السعي لإقصائها وإخراجها من الساحة السياسية الفلسطينية. وذلك أحد الأهداف الأساسية للورقة المصرية للمصالحة، التي تتمسك القاهرة بصيغتها وترفض إدخال أي تعديل عليها ولأن تركيا تتفهم موقف حماس، فإن الرئيس عبدالله جول تطرق إلى هذا الموضوع في لقائه مع الرئيس مبارك، لكن مصر ظلت على موقفها ولم تغيره. وهذا واضح من إشارة المتحدث باسم الرئاسة إلى ملابسات إعداد الورقة المصرية، وكونها لا تحتمل التعديل. ولنا أن نرصد الحذر المصري في التعامل مع تركيا فيما أعلن رسميا عن تأجيل البحث في موضوع إقامة مجلس للتعاون الإستراتيجي بين البلدين، وفي استبعاد مصر لرغبة تركيا في إلغاء تأشيرات الدخول فيما بينهما، وتفضيلها عقد اتفاقية لتسهيل تبادل التأشيرات للمستثمرين ورجال الأعمال. وذلك كله لا غضاضة فيه، لأن الاختلاف في الاجتهادات السياسية مفهوم ومقبول. وينبغي ألا نتوقع تطابقا في وجهات النظر في كل شيء. إنما المهم دائما هو كيف يمكن أن يستمر التفاهم والتعاون في ظل الاختلاف، وألا يتحول الاختلاف إلى اشتباك. وأحد شروط النجاح في ذلك أن نرفع شعار: المنافقون والأفاقون يمتنعون! الرؤية الكويتية الثلاثاء, 27 يوليو 2010