توطئة: في فجر يوم جديد من أيام الشتاء، هو يوم الأحد الموافق 18/12/2005م، تذكَّرت - وبغير مناسبة - مقالاً قرأته في سبعينِيَّات القرن الماضي، نشرته مجلَّة "العدالة" بكليَّة القانون بجامعة قاريونس، لشيخي وأستاذي الدكتور عبد اللَّطيف الشِّيرازي الصبَّاغ، أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله بالكليَّة في ذلك الوقت، رحمه الله حيّاً وميِّتاً، وجزاه عنا خير الجزاء .. كان عنوان المقال: "المئذنة الحزينة"، وهو مقال رمزي يناقش أزمة الحضارة الإسلاميَّة، فقررت كتابة موضوع آخر بالمناسبة، وسمته بعنوان: "الدجاجة الحزينة"، فأتممت كتابته على تمام الساعة السابعة والنصف صباحاً من نفس اليوم، ونشرته يوم 24/1/2006م، في جريدة "أخبار بنغازي". واليوم غَدَت "الدَّجاجة الحزينة" آهات جريح، وآلام ذبيح على لسان دجاجة مسكينة، ترمز إلى الإنسان الذي لم يظلم، ولم يفسق، ولم يرتكب جرماً في حق أحد بل يريد الخير بمن ناصبه العداء، ويبتغي الرُّشْد لمن استقوى فتنكب عن الصِّراط السَّوي، فَضَلَّ وأضَلَّ، وعاثَ في الأرض فساداً واستعلى. وترمز الدَّجاجة كذلك إلى الشعوب المستضعفة التي قهرها الجبروت، وامتص خيراتها الاستعمار، فباتت تشكو ظلامتها لنفسها، ولربِّها، فلعلَّ شكواها تُؤجِّج نار الثَّورة على الظلم في أعماقها، وتستثير جذوة المقاومة في جذور قلوب رجالها، فتهبَّ هبَّتها لمقارعة الباطل، واسترداد حقوقها من الغاصبين. فإليك أيَّها الأريب آهات جريح، وآلام ذبيح ... ربَّاه! إليك أشكو من خلقتني من أجله، لأكون وما في أحشائي طعاماً لذيذاً له، ولأهله وولده .. ما الَّذي اقترفته في حقِّك أيُّها الإنسان لتناصبني العداء، وتهدِّد جنسنا نحن معشر الدَّجاج بالفناء. لقد فُطِرتُ على خدمتك؛ ليكون لحمي لك ولأولادك غذاءً، وشفاءً من السِّقام، ويكون بيضي هو الآخر لُقَيْمات يقمن صلبك، ويُسمن أولادك؛ لتبعث فيهم القوة، والسَّعادة، والحبور. لا تدري كم يهزُّني الفرح هزَّاً حين أرى أولادك في نزهاتهم يستمتعون بأكل بيضي بعد أن يزخرفوه بألوان زاهية تسرُّ النَّاظرين. لقد فُطِرْتُ على التَّحنُّن على بُنَيِّ آدم، وعُرِفْتُ بقلَّة النَّوم، وسرعة الانتباه، فلسنا معاشر الدَّجاج كغيرنا من الحيوانات، نمكث زمناً طويلاً لنكبر، ويصلب عودنا بل ما إن يخرج فرخنا من بيضته حتى يصير كاسياً كاسباً ظريفاً مقبولاً، وما هي إلاَّ مدَّة يسيرة حتى يكون صالحاً للذَّبح أو الصياح أو البيض .. أنسيت أن الغني منكم والفقير - إلا ما ندر - لا يجد رغبة في شيء من اللُّحمان إلاَّ رغبته في لحمنا؟ ما الَّذي يوقظك مع صوت المؤذِّن للصلاة أيَّها المسلم؟ ما الصَّوت الَّذي إذا سمعته أنبأك عن وجود ملائكة الرَّحمن؟ أليس هو صوت الدِّيك الَّذي يوقظك لصلاة الفجر طارداً للشَّيطان موقظاً للوسنان؟ فكأنِّي به يقول: اذكر ربَّك أيَّها الغافل، واخنس أيها الشَّيطان الرَّجيم. هل نسيت كل ذلك أيها الإنسان، وغرَّتك الحياة الدنيا، وغرَّك بالله الغرور؟ هل نسيت كل ذلك وقابلته بالجحود والنُّكران بل بمحاولة إفنائنا نحن معشر الدجاج لقاء نفع زائل لا تجني من ورائه إلا الخراب والدمار؟ لماذا أطعمتنا ما لا يطاق كالدَّم والأحشاء؟ ولماذا تسلَّلت إلى حظائرنا فأضفت إلى غذائنا خلسة حُقَناً زعمت أنها (بروتين) صناعي يسمننا بسرعة؛ ولكنَّه في النهاية يضرُّنا كما يضرك؟ وهل تظن أن (انفلونزا) الطيور هذه ستحصدنا وحدنا، وتترك من كان سبباً في اختلاقها، ونشرها في عالمك أيها الإنسان، يا من وُصِفْتَ بالظلوم الجهول؟. لقد استبد بك الطمع والجشع، فاخترعت بعد (انفلونزا) الطيور، (انفلونزا) لزملائنا الخنازير، لتثير الرعب في بني جنسك، وتجمع الأموال الحرام، وتكَدِّسها لقاء كذبك، وغشِّك، وظلمك، فأنت أيها الجشع أول مستفيد، وأبناء جنسك أول متضرر. أنسيت أن الله جلَّت قدرته لا يظلم الناس مثقال ذرَّة، وأن الجزاء من جنس العمل؟ ... إننا نصرخ من شدة ألم تتقطع له الأكباد، ونبكي بكاءً مُرَّاً حزيناً تسمعه مخلوقات أخرى، أما أنت أيها الإنسان فلا تسمع إلا نقنقتي (صوت الدجاج) وصقاع ديكي(صوت الديك)، فتهز كتفيك، وتمضي غير آبهٍ في دوَّامة الحياة .. تظنُّ أنَّ الأمور تسير إلى ما يقودها إليه طمعك، وغرورك، وجهلك حتى إذا داهمتك الخطوب، ودقَّت أجراس الخطر تنذرك بمرضي الذي لن يسلم من نتائجه اقتصادك ولا صحَّة أولادك، حينئذ فقط تلتفت لنقنقتي ولصقاع ديكي، فتشرع في البحث، والتقصي، والعلاج. أحمد الله تعالى أن جعلني سخيَّة غير شحيحة، ودودة غير جحودة، إيثار بُنَيِّ آدم من ديدني، والتَّضحية بنفسي لأجله من فطرتي، فلم أكن أشكو في الزَّمان الذي مضى شيئاً أعدُّه عليك أيها الإنسان، فقد مضت أجيال منَّا نعيش حياة هانئة في كنفك، نتنفَّس هواءً نقيَّاً، ونُطْعَم غذاءً صحِّيّاً فنجتهد في أن يكون بيضنا مفيداً، ولحمنا سميناً .. ربَّاه ! حياة الإنسان مالها، تغيَّرت أحوالها؟ فلا دنياه دنياه، ولا حياته حياته ... طمع وجشع وظلامات بعضها فوق بعض ... فالسِّلاح للعدوان لا للأمان، والاقتصاد لامتصاص خيرات الشعوب لا لتوفير مقوِّمات الحياة، والحرية عنوان سجن كبير، والتَّدين دجل وزور وبهتان وخيانة، والأخلاق دموع التماسيح، والفن مومس لكل فاجر، ودعاة السَّلام ثعالب ماكرة وذئاب شرسة تستَّرت بقناع عُبَّاد ونُسَّاك مُزَيَّفين، الأحياء أموات، والأموات أحياء! ... واحسرتاه! ظلمات التيه في ليل طويل بهيم، وحشرجات، وبُحَّة في صوت ديكي، ينبعث منها حزن عميق دفين!! آهٍ من لوعة الأسى، وقسوة الظُّلم، وجَور الطُّغاة المتجبِّرين!!. حسبك أيَّتها الغُمًَّة ألا فانجلي، إني أراه من ثقوب الظلام، نورٌ يشع من مكان بعيد، عملاقٌ غاب عنا بعد رقاد، أنشأ يتململ من غفوته ... والعاديات الموريات المغيرات اشرأبَّت بأعناقها، والوليد يزهو مستبشرا، والحياة بعدئذٍ تزدهر .. فيا لروعتها، وبهجة منظرها، وطيب أريجها. الإسكندرية: 26/7/2010