أتابع كتابة هذه الخواطر بعد سقوط الطّاغية وفراره بينما أسمع طلقات رصاص جيش شرعت تنظّف البلاد من بقايا خطّة الحاكم المخلوع الفارّ الذي كان يمسك بقبضة حديديّة على الأمن الرّسمي وغير الرّسمي ويستعين بقوّادين وصعاليك وسفاحين ليحموه ويقمعوا كلّ من يفكّر في حياة حرّة شريفة. أتابع هذه الخواطر والحرّيّة ترفرف حولي فأقول: كلّ قوّة طاغية لا يمكن أن تزول بين ليلة وضحاها بل تتبقّى أنفاس منها تحتضر مثل ديك ذبيح يتخبط ثمّ يسكن وتحلّ محلّ القوّة الطّاغية قوّة أخرى مكانها. روح التمرّد على الظّلم لا تجدي نفعا إذا كان مصدرها نخبة مثقفة لا تستلهم طاقتها من الشعب، إنّما المثقّف الأصيل من أدرك روح عصره وفهم ما يتمخّض في رحم التّاريخ من قوى صاعدة وساير حقيقة الشّعب واستلهم الآفاق التي ينوي بلوغها وتبنّاها وجسّدها في أعماله.
روح التمرّد عدوى حميدة تبدأ شرارة صغيرة ثمّ تشتعل أو قطرة ماء في السماء تتجمّع مع قطرات أخرى إلى أن يتهاطل المطر غزيرا فيكون للمؤسّسين فضل الرّيادة رغم المحن والخسائر ويكون للمتابعين جهودهم فضل إتمام البناء.
خلق الإنسان جزوعا هلوعا إذا ما أصابه الخير سكن وارتخى وإذا ما أصابه الضّرّ جزع وارتعد. والصمت على الظّلم يطيل في عمره لكنّ التّاريخ لا بدّ أن يزيحه. وقد يفقد المتجبّر الأنانيّ الجشع في لحظات قليلة ما قضّى السنوات الطّوال في جمعه من أموال وتكديسها. وما حدث للطّاغية وحاشيته من ملاحقات ومطاردات وإتلاف ممتلكاتهم وفرار قادتهم ومقتل أعوانهم وسجن عدد منهم ومحاسبة آخرين خير دليل على ذلك. فإذا ما تهدّم الصنم المعبود كذبا وبهتانا لا يمكن أن ينهض من جديد أبدا، بل يكون مصيره التّشفّي منه والشماتة به والبصاق على بقاياه.
التاريخ أثبت أنّ أناسا كانوا إلى زمن قريب يجرون ويلهثون وراء الطّاغية المستبدّ يصفّقون له ويكبّرون وينحنون ويركعون ويسجدون ويقبّلون البلاط مبدين علامات الولاء والطّاعة ويفعلون كلّ ما يؤمرون به وما لا يؤمرون ليأكلوا من فتات الطّاغية ويشربوا من ثمالة كأسه. وكلّما سقط سيّد سرعان ما ينفضّون من حوله ويتلفّتون يمنة ويسرة بحثا عن سيّد جديد ويتشممون روائح التغيير ويلهجون باسم السّيّد الجديد مدافعين عنه فهم يتلاءمون مع مجاري رياح الطّمع والمنافع الخاصة بسرعة ولا يعنيهم قيمة السّيّد أو اتّجاهه أو برنامجه فهم يسخّرون أنفسهم عبيدا له يطبّلون وينفخون في المزامير ويصفّقون ويهتفون فيقفون إلى ظلّ الواقف الجديد مبدلين أقنعتهم شاتمين التّمثال القديم الذي هلك منتظرين النعم من السيّد الجديد ولا يحرجهم أبدا أن يبدّلوا أصواتهم ونبراتهم تمجيدا وموالاة كاذبة ولا يخجلون من خلع ستراتهم وقلبها.
ومع هذه الحاشية السغبة النهمة الشرهة التي لا تشبع كالوطاويط لا ترتوي من امتصاص الدماء أبدا. بينما يظلّ قلّة من أصحاب النّفوس الأبيّة النّظيفة صامدين على المبادئ الفاضلة مهما تغيّرت الرّياح والألوان والمظالم والسادة. والغريب في الأمر أن الذّين يتصدّرون المشهد الإعلامي والثقافي في عهد سيّد طاغية ويجلسون في الصّفوف الأماميّة في المجالس الخاصّة والعامّة وتتابع صورهم في شاشات التلفزة ويتفاخرون بأنّهم من المقربين والمتحدّثين بلسان الطّاغية وهم يدركون أنّهم يدوسون على القيم الفاضلة. والأغرب من ذلك أنّهم يظهرون حسب التعبير الفرنسيّ «أكثر ملكيّة من الملك نفسه» أو بالتعبير العربي «إذا ما خلا لك الجوّ فبيضي وفرّخي» ولعلّهم الآن بعد هذا الزلزال الحميد مختبئون في جحورهم يتربّصون أقرب فرصة لتغيير ألوان أقنعتهم وإضافة مساحيق جديدة عليها تناسب العصر ورياح التّجديد لعيدوا تمثيل أدوار كانوا تدرّبوا عليها ومثّلوها مرّات ومرّات. يراهم من لا يعرف خفاياهم فيظن أنّهم ملائكة ويدرك العارفون أنّهم كتل من المكر والشّرّ المحض. (يتبع)