كانت لفتة إبداعية فائقة التأثير أن يستهل السيد حسن نصر الله حديثه عن ملف رصد حزبه عمليات التجسس الإسرائيلي في فضاء لبنان بالعودة ثلاثة عشر عاما إلى الوراء والكشف عن حيثيات عملية أنصارية البطولية، والتي كان تمكن المقاومة من اختراق إحدى طائرات الاستطلاع الصهيونية حينها سببا رئيسيا لنجاح العملية وتمكن منفذيها من استدراج قوة الكوماندوز إلى أن وقعت في كمين المقاومة. بكل تأكيد فإن اللحظات الحرجة التي يتوقع أن يواجهها الحزب مستقبلا فيما يخص قضية لجنة التحقيق الدولية غير المحايدة والتي يبدو أنها ستتجه لاتهامه بالمسؤولية عن اغتيال الحريري، كانت تستوجب ضربة إعلامية استباقية من هذا الطراز، فحتى لو لم تثمر باتجاه تغيير مجرى التحقيق الدولي وحمله على البحث في فرضية مسؤولية إسرائيل عن عملية الاغتيال، فإنها قد أثمرت بكسب معركة الرأي العام مسبقا، وهو ما عبر عنه السيد نصر الله بوضوح وصراحة في معرض رده على أسئلة الصحفيين. حزب الله الذي كان النيل منه هدفاً صهيونياً منذ سنوات عدة وقبل تحقيق انتصاريه على الاحتلال هو اليوم أكثر عرضة للاستهداف ما استطاعت إسرائيل إلى ذلك سبيلا، وفي المقابل فالحزب الذي نجح منذ 13 عاما في اختراق طائرات الاستطلاع الصهيونية وسجل إنجازاً كبيرا تمثل بعملية أنصارية هو اليوم بالضرورة أكثر احترافاً وتمكناً في تتبعه لبصمات الموساد السوداء في أجواء لبنان وعلى أرضه، والحزب الذي يحتفظ بأرشيف ممتد حول نشاط العملاء وبشكل تفصيلي هو اليوم أقدر على رصد تحركاتهم وتحديد مهامهم والوصول إلى جذور شبكاتهم. كل هذه الأمور مهمة جداً بالنسبة للرأي العام حتى لو استخف بها كل خصوم الحزب الداخليين وأعدائه الخارجيين، وأن يكسب حزب الله الرأي العام لصفه يعني أن كل حكم أو إجراء قد يدين الحزب مستقبلاً هو ساقط ومحدود الأثر. ومن جهة أخرى فجملة المعطيات التي قدمها الحزب ستربك إسرائيل وحلفاءها ووكلاءها، فالحزب لم يقدم فقط ما يسقط عنه تهم الإدانة، بل طرح كمّاً من المعلومات والقرائن المستجدة التي تؤهله لأن يكون ركناً هاماً في أية لجنة تحقيق محايدة قد لا تجد الدولة اللبنانية مناصاً من تشكيلها مستقبلا، خاصة مع تأكيد الحزب على لسان أمينه العام بأنه غير مستعد للتعاون مع جهة لا يثق بها، وهذا كفيل بأن يسقط في يد من يراهنون على أن إدانة المحكمة الدولية للحزب ستكون مدخلاً لتصفيته معنوياً ثم ماديا. من اللافت هنا أن الكثير من مخططات العبث بأمن لبنان واستقراره الداخلي قد أفشلها الحزب أو عرقل خطواتها، وهذا لم يتأتَ فقط بسبب حكمة الحزب وعبقريته في التعاطي مع الشأن الداخلي وتحدياته المختلفة، بل كذلك بسبب قوته العسكرية وحضوره الطاغي لدى جمهور المقاومة من مختلف الطوائف، وهو عنصر قوة إضافي برع الحزب في توظيفه والاستفادة منه.. ولعلها مفارقة تجد من يشكل عليه فهمها أن يكون الحزب الذي يتمتع بقدر كبير من المرونة والحلم والحكمة هو ذاته الذي نجده متصلباً وحازماً حين يتم تهديد سلاحه أو أمنه أو حتى شبكة اتصالاته الخاصة، لكنها معادلة الأقوياء، الأقوياء بمتانة نهجهم ووضوح أهدافهم، ثم بإخلاص جمهورهم، وباستنادهم إلى جدار حصين قوامه قوة متصاعدة وتفوق عسكري وأمني وتقني أهّل الحزب ليكون لاعباً أساسياً في المنطقة. ثمة سؤال كبير طرحه السيد نصر الله حول حاجة إسرائيل للتجسس على من يعدون حلفاءها ورصد تحركاتهم، والجواب ليس فقط ما بيّنه السيّد حول الحاجة الصهيونية لتكثيف الاغتيالات داخل الفريق المناوئ للحزب بهدف تسويغ اتهام الحزب والتحريض عليه تمهيداً لاستهدافه بعد تشويه صورته لدى الرأي العام، لكن ثمة شقاً آخر للإجابة ينبغي التوقف عنده، وهو أن إسرائيل لا تحفل كثيراً بحلفائها، وتتعامل معهم كأدوات لتنفيذ مشروعها، ولا تبالي لو تطلب الأمر الخلاص منهم جميعاً في مرحلة ما إذا ما اقتضت الحاجة بغية الوصول إلى أهدافها الكبرى. وإن كل المصنفين كمهادنين للمحتل أو مستخدمين من قبله وسواء أكانوا عملاء له بشكل مباشر أو غير مباشر هم في النهاية مجرد كائنات وظيفية تنتهي صلاحيتها بعد إسدائها خدماتها لمشغليها. في النهاية، لن نبالغ لو قلنا إن حزب الله نجح بتسديد ضربة مباشرة في مرمى خصومه وأعدائه، وإن مرحلة جديدة من الصراع دشنها الحزب وأثبت فيها تفوقه على عدوه في حربه الإعلامية والنفسية وربما التقنية (على افتراض أن الحزب لم يقدم كل ما بحوزته من معلومات وأسرار فيما يخص هذا الجانب)، وهو ما يعني أن الحزب قد امتلك أدوات الانتصار ميدانياً في أية مواجهة عسكرية مقبلة مع دولة الاحتلال. حزب الله أرغم دولة الاحتلال على أن تصغي له بتأنٍ واهتمام، وأن تطفو علامات تخبطها وارتباكها على سطح استخفافها المصطنع بما قدمه السيد حسن نصر الله الذي كان بدوره هادئاً ومطمئناً ومبشراً بعهد انكسار شوكة الموساد وعملائه وتقنياته التجسسية، وقدم في المقابل رسالة ذات مضامين متعددة للعملاء الحاليين ومن قد يتم تجنيدهم مستقبلاً تتعلق بالمصير والانكشاف الحتمي للمقاومة أولاً ثم لعموم الناس تاليا، وهو ما سيعني أن الموساد ومستخدَميه لن يعملوا بعد اليوم في ظروف مريحة في لبنان، وسيدفعهم الارتباك والتوجس الدائم إلى ارتكاب أخطاء قد يكون فيها مقتلهم، وخاصة حين يكون هاجس (أنصارية) ملازماً لأذهانهم!