كان لأحداث الحادي عشر من سبتمبر دور في زيادة الاهتمام الأمريكي والغربي عمومًا بالإسلام وما بات يسمى ب"الإسلام السياسي" تحديدا ودرسًا وبحثًا وتحليلا من قبل عديد من مراكز الأبحاث وصناعة القرار الأمريكي "ThinkTanks"التي غدا الإسلام السياسي محور ارتكازها واهتماماتها لدرجة أن غدت دراسات الإسلام السياسي هي اللون السائد على العديد من الإصدارات البحثية طوال السبع السنوات الماضية. وتركز جُل اهتمام هذه الدراسات في البحث في ركام الأحداث والأخبار والتقارير عما يدلها أو يوصلها إلى وصفة سحرية لصانع القرار الأمريكي يتعامل بموجبها مع الأحداث والتطورات في العالم الإسلامي، بعد أن أثبتت الأيام فشل الإستراتيجية الاستئصالية الأمريكية في حربها على ما باتت تطلق عليه "الإرهاب" الذي التبس عليهم كثيرًا لدرجة عدم التمييز بين الإرهاب والإسلام. فعقب أحداث سبتمبر 2001 تبنت الإدارة الأمريكية إستراتيجية لحربها ضد الإرهاب على أساس "تجفيف منابع التدين في العالم الإسلامي" الذي انعكس في حملة أمريكية شرسة استهدفت كل أشكال العمل الإسلامي الخيري والتعليمي لتنال حتى مناهج التعليم الديني في معظم البلدان الإسلامية، فضلا عن التلويح بعصى ديمقراطية الحياة السياسية ولو بالقوة كما فعلت في أفغانستان والعراق. لكن المفاجأة التي كان وقعها شديدًا على الإدارة الأمريكية تمثلت في نتائج الانتخابات التي أجريت في عدد من البلدان الإسلامية كتركيا ومصر وباكستان والبحرين وأخيرًا فلسطين، وهو ما مثل ضربة قاصمة للإستراتيجية الأمريكية بفوز الإسلاميين الكبير في هذه الانتخابات، ومن هنا بدأ صانع القرار الأمريكي يُعيد النظر في إستراتيجيته في الحرب على الإرهاب، وذلك بتغيير الإستراتيجية من البحث عن خصوم إلى البحث عن شركاء في هذه المنطقة من بين تيارات الإسلام السياسي التي كانت تضعها هذه الإدارة في سلة واحدة لا تفرق بين متشدد ومعتدل. ومن هنا أيضًا توالت الدراسات والأبحاث الأمريكية عما بات يُطلق عليه في هذه الدراسات Moderate Islam أي "الإسلام المعتدل"، وهو ما سنحاول هنا تحديد ماهيته وشروطه ووجوده ومدى ملاءمته للسياسية الأمريكية، فضلا عن فرص النجاح والفشل لهذا المولود الجديد على الساحة وقابليته للحياة. الإسلام المعتدل والوسطية لم تكن الدراسة التي أعدها الباحثان الأمريكيان في معهد American Interprise Institute "جوشوا مورافشيك وشارلزبي سزروم" -والتي نشرتها مجلة Commentary الأمريكية في عدد فبراير الماضي 2008 وتحت عنوان "In Search of Moderate Islam" في سبيل البحث عن إسلام معتدل- الأولى من نوعها التي تبحث في سبيل إيجاد تيار إسلامي معتدل، بل تعددت الدراسات وتنوعت في هذا الاتجاه، وخاصة خلال الفترة القليلة الماضية، فقد أصدرت مؤسسة Rand Corporation -التي تعد واحدة من أهم مراكز الأفكار في العالم وأحد أهم المؤسسات الفكرية المؤثرة في صناعة القرار في الإدارة الأمريكية خاصة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط- دراسة في نهاية مارس 2007 تحت عنوان: "بناء شبكات إسلامية معتدلة" "Building Moderate Muslim Networks" والتي كانت عبارة عن تقرير متمم لسلسلة التقارير التي بدأ بإصدارها هذا المركز في إطار تحديد الأسس الفكرية للمواجهة مع العالم الإسلامي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وبالعودة إلى تقرير مجلة Commentary والذي يعد أحدث تقرير لدراسة حديثة في البحث عن الإسلام المعتدل "المطلوب أمريكيًّّا" نلاحظ أن الكاتبين مرتبكان منذ البداية؛ حيث حاولا جاهدين تفسير مفهوم الاعتدال على أن كلمة معتدل تشير إلى كمية أو درجة أقل من الشيء، وهو تعريف غامض ولا يستقيم أصلا مع سياق الموضوع هذا؛ وذلك لأن الاعتدال مفهوم في هذا السياق يعني "الوسطية"، لا كما أراده الكاتبان والذي يشير مباشرة إلى أن الاعتدال هو التخفيف من درجة الشيء. وعلى كلٍّ فإن ما يهمنا هنا هو ما ذهب إليه الكاتبان من أن الإسلام المعتدل لا يعني أن يكون معتنقه مسلمًا غير نقي، فهذا غير صحيح؛ لأن الموضوع يتعلق بقضية الكراهية الشديدة والتي تنبع في الأساس من عدم الإيمان بفكرة التعايش بين المختلفين دينيًّا. وبالتالي يرى المؤلفان أن المعركة القائمة ضد الإرهاب لا تقوم على أساس أن المسلمين يجب أن يصبحوا أقل إيمانًا وأقل حماسًا لقناعتهم الدينية؛ لأن التعويل على هذا المنحى هو خطأ ولن تكون هناك أي فرص للنجاح والانتصار في هذه المعركة. وفي هذا الإطار وفي سياق تساؤل الكاتبين عن أماكن تواجد هؤلاء المسلمين المعتدلين تحاول الدراسة باقتضاب الإجابة بالقول إن هناك أربعة أنواع من المسلمين المعتدلين، حيث تشمل المجموعة الأولى المواطنين العاديين في البلدان الإسلامية، وهم الذين يمارسون شعائر دينهم دون أن تتمركز السياسة في حياتهم، وهؤلاء لا يشاركون في أعمال العنف وفي الغالب لا يؤيدونه. أما المجموعة الثانية فتشمل الأنظمة الحاكمة مثل الأردن ومصر باعتبار أن التحالف مع الغرب هو معيار مهم في بلورة مفهوم الاعتدال إن لم يكن هو الاعتدال بعينه. بينما تضم المجموعة الثالثة الليبراليين والعلمانيين الذين يتعاطفون مع القيم السياسية والثقافية للغرب، ويضرب مثالا بكل من الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ والكاتب العراقي كنعان مكيه، لكن المجموعة الرابعة وهي التي تدور حولها هذه الدراسة، تضم مجموعات متنوعة من الإسلاميين الذين يصفون أنفسهم بأنهم ضد العنف ويقبلون بالعملية الديمقراطية وربما يسلمون بنتائجها، ولكن هنا تأتي المفاضلة بحسب الدراسة بين هذا التنوع من الإسلاميين وبين المجموعة الثالثة وهم الليبراليون والعلمانيون برغم ما تذهب إليه الدراسة من أنهم غير مقبولين في مجتمعاتهم ولا تحصى وجهات نظرهم بالولاء من قبل الشارع وخصوصًا عندما تكون هذه الآراء ضد الإسلاميين، وهو ما بات واضحًا في الحالة الفلسطينية حينما خسرت فتح الانتخابات أمام حماس 2006، وفوز الإخوان في انتخابات 2005 المصرية. معايير الإسلام المعتدل أمريكيًّّا للحكم باعتدال جماعة من عدمه وضعت الدراسة ستة معايير رئيسية ليتسنى من خلالها القول باعتدال هذه الجماعة دون غيرها، وهي عبارة عن ستة أسئلة من قبيل: هل تعتنق هذه الجماعة الديمقراطية وتمارسها في هياكلها الداخلية؟ وهل تنبذ العنف في سعيها لتحقيق أهدافها؟ وهل تدين الإرهاب؟ وهل تدافع عن حقوق متساوية للأقليات؟ وهل تدافع عن حقوق متساوية للمرأة؟ وفي الأخير: هل تقبل تعددية التفسيرات داخل الإسلام؟ ومن خلال إسقاط هذه المعايير الستة على حركة إسلامية معتدلة كالإخوان المصريين مثلا سنكتشف أنها مجرد عناوين فضفاضة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وذلك لأسباب موضوعية، فمثلا يشير كبير الباحثين في مركز كارينجي لدراسة السلام العالمي Carnegie For” International Peace” الدكتور عمرو حمزاوي إلى الأداء الجيد للإخوان المسلمين في انتخابات 2005 البرلمانية، كما أشار إلى مبادرة الإصلاح التي أصدرتها الجماعة والتي شددت فيها على احترام التعدد الحزبي، والانتخابات الحرة، وتداول السلطة، بالإضافة إلى ما جاء على لسان ناطقها الرسمي حول مساواة كاملة في الحقوق والواجبات للأقباط والمرأة. بالإضافة إلى هذا يؤكد المفكر الأمريكي "جوشو ستاشر" المتخصص في الشئون المصرية في جامعة ساركيوس على أن الإخوان ملتزمون بالسلم الاجتماعي المدني على الرغم من أنها جماعة محافظة اجتماعية فإنها أيضًا براجماتية من الناحية السياسية وتؤمن بالتطور السياسي. وفضلا عن هذا يقول كل من روبرت إس. ليكن وستيفن بروك في دراسة لهما نشرتها مجلة Foreign Affairs في عدد مارس- إبريل 2007 تحت عنوان: "الإخوان المسلمون المعتدلون" قالا فيها: "إن إسلاميي مصر لن يسرعوا فقط بالدمقرطة لكن أيضًا سيخدمون أهداف السياسة الأمريكية الأخرى"، وقد جاءت هذه الدراسة عن تقرير نشرته وزارة الخارجية الأمريكية. ومع هذا تغفل الدراسة كل هذا وتستند إلى رأي الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد مدير قناة العربية حاليًا حيث ذهب الكاتب إلى القول إن المشكلة ليست إعطاء السلطة إلى الإسلاميين، المشكلة "بعدئذ" ستكون استحالة أخذها من أيديهم بالوسائل الديمقراطية، والغريب في الأمر هنا أن ما ذهب إليه عبد الرحمن الراشد والذي لا يعدو عن كونه رأيًا في مسألة تنبؤ مستقبلي يحاكم النيات ليس إلا، ومع هذا فهو الرأي الأرجح في كل ما قيل سلفًا ومن قبل خبراء كبار لا يُعد دليلا كافيًا، ومن هنا تتضح ازدواجية وهشاشة مثل هذه المعايير إذا ما تعلق الأمر بالإسلام. ومما أخذته الدراسة عن جماعة الإخوان قولها: "صحيح أن الجماعة لم تتورط في العنف وأدانت بشدة التفجيرات الإرهابية في مصر وبعض الدول العربية لكنه في المقابل من هذا تستحسن الجماعة قتل الإسرائيليين عمومًا والأمريكيين في العراق باعتبار ذلك واجبًا دينيًّا ما دامت الدولتان محتلتين وهذا ما لا يرضاه الأمريكان هنا". وهو نفس الشيء الذي تأخذه الدراسة على حماس النسخة الفلسطينية للإخوان بحسب الدراسة التي اتهمت حماس بالانقلاب على الديمقراطية من خلال العصيان المسلح في غزة، وطموحها السريع لتكرار ذلك في الضفة، فضلا عن إصرارها على تدمير إسرائيل كما في ميثاقها العام. نماذج للإسلام المعتدل أمريكيًّّا وفي إطار البحث عن نموذج إسلامي مرغوب أمريكيا، خلصت الدراسة إلى القول إن هناك مجموعة من العاملين في المركز الأمريكي لدراسة الإسلام والديمقراطية American Center for Study Islam and Democracy يمثلون الشخصية الإسلامية المعتدلة كعبد الوهاب الكبسي الذي غادر اليمن منذ 27 عامًا والذي يعد مسلمًا يمارس شعائر دينية ويعتبر نفسه علمانيًّا، فضلا عن تأييده لحرب الولاياتالمتحدةالأمريكية في أفغانستان، وانتقد بن لادن والقاعدة بكلمات قوية بحسب الدراسة، ناهيك عن إدانته بوضوح التفجيرات والعمليات المسلحة في "إسرائيل". وإلى جانب الكبسي هناك الباكستاني "كامران بخاري" وهو مسلم ترك جماعة المهاجرين المتطرفة منذ منتصف التسعينيات وهو يعتبر نفسه مسلمًا نقيًّا فيقول في إحدى كتاباته: "إن تهديد الإسلام والمسلمين لا يأتي من الولاياتالمتحدة والغرب، ولكن يأتي من المتطرفين الذين يعملون بحرية في وسطنا"، ويقول في مكان آخر: إنه الوقت المناسب كي ينهي المسلمون صمتهم عن الإرهاب تحت ذريعة تأييد "الكفاح الشرعي المسلح من أجل الحرية"، ويضيف كمران قائلا: "إن هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 ينبغي أن تكون دعوة كي يستيقظ المسلمون في كل مكان ويعرفوا أن هناك شيئا خاطئا في مجتمعاتهم أهملوه حتى تحول إلى سرطان التطرف الذي ينمو الآن، وأصبح وحشًا ضخمًا، وبالرغم من أن الأغلبية الواسعة لا تدعم الإرهاب فإنها لا تقوم بشيء ضده". وتقول الدراسة إن هذه بالضبط هي الرسالة التي يأمل الأمريكيون أن يقوم قادة الرأي في العالم الإسلامي بتوصيلها إلى إخوانهم المتدينين، وأن هذا هو الإسلام المعتدل الذي يمثل الحل للصراع الدائر. ومن نماذج الإسلاميين المعتدلين هناك جماعة حزب الوسطية الجديدة في الأراضي الفلسطينية الذي أسسه محمد دجاني مدير مركز الدراسات الأمريكية في جامعة القدسبرام الله والذي كان عضوًا سابقًا في حركة فتح، ويمثل هذا الحزب محاولة لخلق بديل لكل من فتح وحماس، فيدعو دجاني إلى حل الدولتين والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وبالنسبة لحق العودة يقول: "لماذا نضع كل هذه العقبات في طريق السلام؟" ويوضح أن هدفه "أن نعلم الشباب أن عملية التفجير الانتحارية ليست إسلامًا"، وهذا هو ما تريده الإدارة الأمريكية وتدعمه. -------------------------------------------------------------------------------- باحث وصحفي يمني *نقلا عن مجلة المجتمع الكويتية