جامعة القرويين(المغرب) عندما قرأت الأسبوع الماضي توقيف سبعة وستين قاضيا في عشرين محكمة من المحاكم الموريتانية لم يفاجئني الأمر،ففي هذا البلد البائس عندما يوقف قاض أو وزير لحقوق الإنسان أو مدير أو طبيب أو أي موظف عمومي أمر طبيعي جدا،لأن كل شخص في المكان غير الصحيح. إننا بكل بساطة نعيش مهزلة وطنية شملت جميع الميادين وجميع الحقوق،و البعض في نظر البعض الآخر عاجز عن مواكبة الإصلاح الذي تدعي الدولة الجديدة نهجه، والحقيقة أن نهج الدولة الجديدة مجرد مهزلة جديدة من أجل القضاء على المهزلة القديمة، وتبدو مهزلة القضاء الموريتاني الأكثر ظهورا في هذه الفترة. القضاء عندنا والقضاء عند الآخرين لا شك أن تجربة سبع سنوات من دراسة القضاء في أول جامعة في التاريخ( جامعة القرويين) مع التجربة الميدانية في قصر العدالة الموريتاني قد تسمح لي بالمقارنة بين قضائنا وغيره من النظم القضائية العربية. إنه على الرغم من عجز الأنظمة العربية عن الإصلاح القضائي التام فإن ما يقع في القضاء الموريتاني مما لاحظته وعشته مع أهل القصر الذي أصبح مذكرا أخيرا أقرب إلى التجارة منه إلى القضاء، فالقضاة عندنا أصحاب بضاعة يروجها مجموعة السماسرة تحت قناع المحاماة، وكأن المحامي الموريتاني أدى يمينه بأن يتاجر بشرف المهنة، وأن يجعل الربح والكسب فوق كل اعتبار، وعندما يقع خلاف بين القاضي والمحامي نتيجة طبعا لعدم التوافق في قدر الرشوة تبدأ الحرب الإعلامية والقانونية، وتتوالى بيانات السب والشتم والتكذيب والعبارات النابية، ولعلكم تتذكرون أنموذجا من ذلك وقع في قضية الوزير الأول السابق وما أثاره دفاعه من ضجة برئاسة المحامي ابراهيم ولد أبتي، وكأن المحامي في تلك القضية يدافع عن حمامة وديعة نزلت من الخطوط الجوية على شيء من الأرز لكنها بريئة مسكينة ولا تتحمل الحبس والكدر فقد آلفت المكيفات والقصور من خيرات هذا الشعب المسكين، ثم قضية القرض والإدخار وقضية السيدا وغيرها كثير من القضايا التي يباع فيها الشعب وتنتهك فيها الحقوق، وعندما تعجز الرشوة عن تصويب الأمور تبدأ الحرب بين النيابة العامة وهيئة الدفاع، ففي هذه البلاد السائبة إما أن يكون الحق ضحية أو يكون أصحاب الحقوق ضحايا والنتيجة مهزلة قضائية. لا أقدر أن أنسى عندما كنت متدربا في إحدى المحاكم المغربية عندما يسألني القاضي المشرف ما رأي القضاء الموريتاني في بعض القضايا التي تعرض علينا ظنا منه أنه يوجد قضاء موريتاني، كانت أجوبتي محتشمة للغاية لأنني لا أقدر أن أقول حقيقتنا، لا أقدر أن أقول له أنه في القضاء الموريتاني هنالك قضاة لديهم المتريز في اللغة العربية، لا أقدر أن أقول له أنني في مرحلة التدريب في قصر العدالة الموريتاني كانت تحجب عني الكثير من الملفات،ملفات مهربين وتجار مخدرات،ملفات رجال سلطة وأصحاب نفوذ أقاموا علاقات غير شرعية ورفعت ضدهم قضايا وكان التحقيق فيها سريا حتي عن متدرب يريد الإستفادة وحاصل على إذن التدريب من المدعي العام لدى المحكمة العليا، أمور لا يمكن وصفها إلا بأنها قمة المهزلة. أسباب المهزلة أسباب هذه المهزلة القضائية منها ما يعود إلى القاضي من جهة ومنها ما يعود إلى المحامي باعتباره أهم عون قضائي. أولا :القاضي من أهم شروط اكتتاب القضاة أن يكون المترشح حاصلا على شهادة المتريز أو ما يعادلها، وهذه المتريز التي يشترطها التنظيم القضائي الموريتاني ليست دليلا علميا لأنها تمنح من جامعة فاسدة شعارها الإختلاس والمحسوبية في توزيع النقط في الامتحانات وشركات الإتصال أدرى بذلك من الجامعة نفسها، فطلاب يجتازون الامتحانات الجامعية بالهواتف النقالة، تملأ عليهم الأجوبة كاملة في الإمتحانات الكتابية ويجتازون الإمتحانات الشفوية بالمعرفة والمحسوبية لا يمكن أن يكون لديهم أي مستوى علمي يمارسون به مهنة القضاء وطبعا من لم يرعى الله في الحصول على شهادته لن يرعاه في التوظيف بها في بلد تصل البطالة فيه إلى القمة ويصل مرتب القاضي فيه إلى 500000 أوقية. وحتى إن تجاوزنا قضية التكوين الجامعي يبقى ضمير القاضي الذي يشكل مناعة ذاتية ويبقى حياده باعتباره عاملا شخصيا يعود إلى تكوينه البيولوجيو الوراثي والبيئي والديني والوطني. وحتى إن تجاوزنا قضية الضمير أيضا يبقى ما بعد النجاح في مسابقة الاكتتاب ، يبقى التكوين في المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء من أساتذة دون المستوى استطاعوا أن يكونوا مقنعين للمدرسة وبعد عام من الدراسة يبدأ التدريب في المحاكم والغريب أنه ليس إجباريا ولا مراقبا وهي مدة تزيد على ستة أشهر. إذن قضاة هذا حالهم من الطبيعي جدا أن يتم توقيفهم نتيجة لعدم قدرتهم على ممارسة المهنة، كيف سيمارسونها ؟ وبماذا ؟ حقيقة إنهم قضاة المهزلة. بقيت هنالك نقطة أعتبرها الأهم مما سبق وهي مدير المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء وكأنه جاء ليكفر عن ماضيه. كيف ستنظم الحقوق ممن تاجر بالحقوق، لهذه الدرجة من مازال لا يوجد في هذا البلد إلا رجال معاوية الذين كونهم من أجل التحكم في رقاب هذا الشعب البائس في هذه البقعة التعسة من الأرض. النقطة الأخرى والتي لا تقل أهمية عن سابقتها تتعلق بأكبر مؤسسة قضائية( المجلس الدستوري) فعندما توهب أكبر مؤسسة قضائية لشخص ليس لكفائته ولا نزاهته وإنما لولائه وبيعته فأين هي العدالة يا من تدعي الشفافية والنزاهة؟ ما ذا سنفعل لو تسربت حقوق الفقراء يا رئيس الفقراء؟والله إن كانت موريتانيا عاشت مهزلة أكثر من عشرين عاما فإن عين المهزلة أن تظل رؤوس المفسدين تتحكم في القضاء. ثانيا: المحامي طبعا مهنة المحامي خطيرة جدا، لأنه يمارس عمله ضمن أطراف متعددة ومتنوعة تختلف درجاتها الإدارية وتتفاوت مستوياتها العلمية، من ضباط للشرطة القضائية إلى قضاة ومستشارين، والمشكلة عندنا لا تكمن في الجانب التشريعي هنا وما يتعلق بحصانة المحامي، لكن المحامي جعل من هذه الحصانة أمتيازا ووسيلة ليتلاعب بالقانون وكما يقال أن المحامي أكثر خبرة من القاضي لأن معرفته ومجهوده يزدادان بزيادة ثمن الأتعاب مما يحول المحاماة من التعاون مع القضاء إلى التعاون ضد القضاء، فعندما يموت الضميرويقل الوازع ويصبح الربح هو الهدف لن يبقى أمام الحقوق إلا أن تكون مهزلة ودور الدولة الحاضرة الغائبة لا يعدو أن يكون تنظيم المهزلة حتى يأخذ كل ذي حق مهزلته. رأي من الميدان سبق لي ونشرت مقالات في الموضوع مما يجعل هذا الرأي يغلب عليه طابع التكرار مع كثيرين من من هموا بهموم هذا الوطن التي لا تنتهي . لاشك أن كل إصلاح لن يكون إلا بالمعرفة ولا ألوم أي قاض عجز عن أداء مهامه لأنه لم يتلق أي تكوين معرفي منذ طفولته إلى أن أصبح قاضيا، لذلك أرى أن إصلاح التعليم هو لب الإشكال لأنه يمكننا في المدرسة والجامعة أن نحئي الضمائر، أن ندرس معنى الإنسان ومعنى الحقوق، أن ندرس معنى التجرد والجرأة والإحساس بالمسؤولية، أن ندرس أن القاضي العادل هو الذي لا يخاف حسابا إلا من ربه، ولا يسعى إلى مكافأة أو رشوة، ولا يتوسل سياسيا متجذرا في النظام لترفيعه أو نقله حتى لا يكون خاتما في يد الجهالة والوصولية والوساطة التي أوصلته إلى"بيدر القمح ومنجم الذهب" ، لن يكون القاضي قاضيا إلا بالمعرفة الحقيقية لا بمتريز مختلسة وتكوين رديئ. لن تتوقف هذه المهزلة إلا باستقلالية القضاء كسلطة واستقلال القاضي كشخص، وقد أقر المؤتمر التاسع عشر للجمعية الدولية للمحامين المنعقد في نيودلهي هذا المبدأ إذ جاء في حرفيته "Les normes minima de New Delhi sur l'indépendance du pouvoir judicaire retiennent deux postulats fondamentaux ; l'indépendance du pouvoir judicaire et l'indépendance du juge en tant qu'individu. وتطبيق هذا المبدأ يستوجب القيام بما يلي: • تنفيذ القرارات القضائية بشكل فعلي. • إحداث مؤسسة فعلية للتفتيش واتخاذ الإجراءات الضرورية المعروفة حتى لا يبقى أمر التفتيش سرا بل من حق المواطنين الإطلاع عليه. • الإقرار بشكل من الأشكال لمسؤولية الدولة عن الأخطاء القضائية لأن ذلك سيدفعها إلى مراقبة السير الطبيعي للقضاء. • التشدد في المقاييس المعمول بها في اكتتاب القضاة وتعيين المسؤولية سواء على مستوى رؤساء المحاكم أو قضاة النيابة العامة. • استمرار تكوين القضاة وكما يقال" المحامي يولد محاميا أما القاضي فتصنعه الأيام" وحتى تكون هذه الصناعة متقنة وممتازة تحتاج عناية خاصة من التكوين والتأهيل. وخلاصة لرأئي في مهزلة القضاء الموريتاني لا أرى أن من عين أسغير ولد أمبارك على المجلس الدستوري وعين لمرابط سيد محمود ولد الشيخ أحمد على المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء يريد إصلاح القضاء. وربما سيعين الشيخ العافية ولد محمد خونا قريبا على العدل. ولكن لماذا لا يعين معاوية ولد سيد أحمد الطايع أيضا ؟ وتستمر المهزلة.. الاخيار الموريتانية 14.09.2010