إذا كان الأميركيون لهم مشروعهم في المنطقة العربية، وإذا كان الإيرانيون بدورهم لهم مشروعهم، فمن حقنا ان نسأل: أين مشروع العرب أنفسهم؟ يفيدنا تحليل الحالة العربية في الإجابة علي السؤال. وإذا ما شرعنا في هذه المحاولة، فإننا نستطيع ان نرصد المعالم والقسمات التالية في واقعنا الراهن: فالعالم العربي شهد في السنوات الاخيرة صعودا ملحوظا لاسهم الاتجاهات القطرية، التي عبرت عن نفسها برفع شعار «بلدنا اولا»، الذي تضمن ثناياه دعوة الى القطيعة مع القضايا المتعلقة بمصير الامة، والقضية الفلسطينية في مقدمتها، والعمل العربي المشترك من ضمنها. في الوقت ذاته يلاحظ المراقب ان العالم العربي كبر جسمه وضمر رأسه. اعني ان الطفرة الاقتصادية التي حققتها زيادة اسعار النفط عززت من حضور وقدرة دول كانت تعد صغيرة في السابق، الامر الذي ضاعف من وزنها في الساحة العربية. وفي الوقت ذاته تراجع معدلات النمو الاقصادي في ما كان يعد دول الصف الاول، الذي اقترن بحالة الانكفاء السياسي. وكان من نتيجة ذلك الوضع ان الصغار كبروا وأن الكبار ضعفوا، وهو ما استصحب ضمورا في دور الأخيرين، وانعكس ذلك على الواقع، بحيث اصبحت السفينة العربية بلا ربان يقودها ويرشدها، الامر الذي فتح الباب للتشتت والتيه. حين تقّوى العالم العربي اقتصاديا فإنه ضعف سياسياً. والصحف الغربية تتحدث الآن باستفاضة عن تحول موازين القوة الاقتصادية الى دول الجنوب، بسبب الارتفاع الكبير في اسعار النفط (يقدرون ان ثلاثة تريليونات دولار انضافت الى ارصدة تلك الدول). ويقولون ان سيطرة القوى الكبرى في الغرب على الصادرات الزراعية - الحبوب بوجه اخص- هي التي منعت انكشاف الدول المستهلكة للنفط امام الدول المنتجة له. لكن هذه القوة الاقتصادية التي توفرت، لم تترجم الى قدرة سياسية في الساحة الدولية، في ظل التشرذم والانكفاء الراهنين. التراجع في العالم العربي اصاب الارادة السياسية. حين بدا ان الاعلان عن ان 99؟ من الاوراق بيد الولاياتالمتحدة الذي اطلقه الرئيس السادات ذات مرة قد تحول الى شعار للعالم العربي بأسره، الذي اصبحت المراهنة علي الادارة الأميركية فيه تشكل معلما رئيسيا من معالم توجهاته السياسية. وبهذه المراهنة، فإن العرب فقدوا اصدقاءهم واحدا تلو الآخر، وتباعد عنهم حلفاء تقليديون مثل الصين والهند وروسيا. لم يقف الامر عند حد التراجع في الارادة السياسية، بل سادت العالم العربي حالة من الانفراط غير المسبوق، حين اصبح تعبير الامة الواحدة على المستوى السياسي جزءا من التاريخ وليس الواقع. فالعالم العربي صار منقسماً الى معسكر ل «الاعتدال»، وآخر «للتطرف»، وإلى سنة وشيعة، ومسلمين ومسيحيين، وإسلاميين وعلمانيين، وفتح وحماس وموالاة ومعارضة في لبنان. وبدا الحاصل في العراق وكأنه نموذج للانفراط المطلوب. فالاحتلال الاميركي حين حل بالعراق في عام ,2003 فإنه لم يتعامل معه باعتباره وطناً واحدا، ولكن بحسبانه ارضا تضم شعوباً متساكنة. وشكل مجلس الحكم الانتقالي من نسب محدودة للسنة والشيعة والأكراد والتركمان، الامر الذي ادى الى توزيع البلد بين تلك الفئات. واستمر هذا التمزق وتطور حتى وجدنا هذه الايام ان السنة اصبحوا فريقين، قاعديين يتعاطفون مع تنظيم القاعدة ، و«صحويين» يؤيدون مجالس الصحوة. كما ان الشيعة انقسموا بدورهم الى معسكرين: صدريين تابعين للتيار الصدري، وبدريين موالين لفيلق بدر الجناح العسكري للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية الذي يقوده السيد عبد العزيز الحكيم. حين اصبحت السفينة العربية بلا ربان، وانفرط عقد الامة، فانشق صفها الى محاور ومعسكرات، ووصلت الشقوق الى نسيج الاقطار العربية ذاتها، كان من الطبيعي ان ينهار النظام العربي، وان يخيم الشعور بالفراغ على الساحة العربية. والفراغ بطبيعته يستدعي من يملأه، فما بالك به اذا كان مغريا للمتربصين والصائدين وأصحاب المصالح والمشاريع السياسية وغير السياسية. بل حدث ما هو ابعد من ذلك وأكثر، فإن بعض الاطراف المشتبكة والمتصارعة في الساحة العربية سعت الى استدعاء قوى خارجية للاستقواء بها في مواجهة خصومها المحليين. وفي بعض الحالات فإن الصراع الداخلي اصبح واجهة لصراعات اللاعبين الكبار الذين قدموا او استدعوا من الخارج لملء الفراغ. وهو الحاصل الآن في لبنان والعراق على سبيل المثال، حيث لم يعد سرا ان الولاياتالمتحدة وأيران هما ابرز اللاعبين. اذا اردنا ان نتتبع النتائج التي تترتب على هذا الوضع، فسنجد ان ابرزها ما يلي: ان التناقضات الثانوية بين القوى والاطراف المحلية تقدمت على التناقض الرئيسي بين العالم العربي وقوى الهيمنة، والعدوان الخارجية، ممثلة بشكل حصري في الولاياتالمتحدة وإسرائيل. ÷ ان قضية فلسطين تراجعت اولوياتها في اجندة العالم العربي، وفقدت موقعها كقضية مركزية ومحورية في الدفاع عن الامن القومي العربي، حتى ظهرت في بعض الكتابات اشارة الي القضية بحسبانها صراعا فلسطينيا اسرائيليا. تراجع اهمية القضية الفلسطينية شجع اسرائيل على ان تطلق مشروعاتها الاستيطانية والتوسعية بغير حساب على نحو احدث انقلابا في خرائط الواقع بالارض المحتلة. واحتمت في ذلك بألاعيب الالتفاف على مفاوضات السلام واتفاقاته من اوسلو الى انابوليس، وهو ما اشرت الى شواهده وتفاصيله في الاسبوع الماضي. سعت الولاياتالمتحدة ومن ورائها اسرائيل الى تغيير التحالفات في المنطقة. فبعد ان كان كل الادراك العربي على مدى نصف قرن على الاقل يعتبر اسرائيل عدوا غاصبا احتل الارض وهدد الامن العربي، فإن خرائط جديدة ظهرت في المنطقة حاولت اقامة تحالف بعض الدول العربية مع اسرائيل ضد عدو بديل هو ايران. وكان ذلك بمثابة انقلاب عبثي آخر، جعل من الطرف المخاصم لاسرائيل وللولايات المتحدة الاميركية عدوا للعرب ايضا. هذه العوامل حين تجمعت فإنها أسفرت عن ظهور الولاياتالمتحدة كلاعب رئيسي يستعين بإسرائيل لاخضاع العالم العربي، ولكل منها طموحاته التي لا حدود لها. كما اسفرت عن حضور ايران كطرف معاند لا يزال عصياً علي الاخضاع، ورافضاً للتجاوب والامتثال. وفي حين اتكأت الولاياتالمتحدة علي اسرائيل ونجح الاثنان في اختطاف القضية الفلسطينية والاستئثار بها ( وهو الوضع الذي قررته وثيقة التفاهم في انابوليس)، فإن ايران سعت الى تعزيز موقفها بمساندة ما يمكن ان نسميه معسكر الاستعصاء والممانعة في العالم العربي، ممثلا في سوريا وحزب الله والمقاومة الفلسطينية الممثلة اساسا في حركتي حماس والجهاد الاسلامي. وفي الوقت الراهن فإن الصراع الحقيقي في العالم العربي اصبح بين الاميركيين والاسرائيليين من ناحية وبين معسكر الممانعة الذي تدعمه ايران من ناحية ثانية. ولعلي لا ابالغ اذا قلت بأن اغلب التجاذبات الحاصلة في العالم العربي هي مجرد فروع وأصداء لذلك الصراع المحتدم بين الطرفين. وحتى الآن فإن الحرب النفسية والتعبئة الاعلامية تشهر اسلحتها المعهودة في محاولة كسب تلك المعركة، والتخويف من الهلال الشيعي والخطر الايراني يعد جزءا من هذه الحرب. والحديث عن اختطاف ايران للفصائل الفلسطينية من اصدائها ايضا. كأنما المطلوب ان يغدق الاميركيون على حلفائهم ورجالهم بالمال والسلاح طول الوقت، ويظل ذلك حلالا مباحا، ولكن حين يقدم الايرانيون دعمهم لقوى الممانعة في المنطقة، فإن ذلك يعد جرما محرما. قلت في المقال السابق انه لا غرابة في ان يكون لايران حساباتها الاستراتيجية في المنطقة، وعلينا نحن ان نحدد المباح وغير المباح من تلك الحسابات. وأضيف هنا ان الوجود الاميركي هو الذي استدعى الحضور الايراني، وان الفراغ العربي هو الذي سمح لذلك الحضور بالتمدد، متجاوزا الحدود المشروعة كما في العراق. غاية ما استطاع العرب ان يقدموه هو مبادرة للسلام مع اسرائيل تبنتها القمة العربية في عام ,2002 ومبادرة عربية لحل الازمة اللبنانية. والاولى رفضتها اسرائيل ثم ارادت ان تتسلى بها، لجر الدول العربية للتطبيع وتقديم مزيد من التنازلات. ولم يعد سرا ان المبادرة ماتت ولم يعد لها اي مفعول، وان الجامعة العربية مترددة في اعلان وفاتها او عاجزة عن ذلك. من ثم فإنها بقيت ورقة يتيمة اعطت انطباعا وهميا بأن هناك حلا مطروحا للقضية لم يقصر العرب في تقديمه، وأبرأوا به ذمتهم إزاءها. اما مبادرة حل الازمة اللبنانية فإنها بدورها لا حلت ولا ربطت، ولا تزال معلقة في الفضاء العربي تنتظر ربما معجزة من السماء لكي تؤتي اكلها. بطبيعة الحال، هناك اتصالات ومشاورات عربية اخرى، لم تغير شيئا في حل المشاكل العالقة. وبعضها شغل بالتناقضات الثانوية العربية العربية بأكثر مما شغل بالتناقض الرئيسي المتمثل في مواجهة تحدي الهيمنة الاميركي والاحتلال الصهيوني. وهو ما كرس الفراغ ووسع من نطاقه. ان المشكلة ليست في تمدد المشروع الاميركي او زيادة النفوذ الايراني، ولكنها تكمن اساساً في غياب المشروع العربي، الذي يملأ الفراغ الراهن. وهذا المشروع لا يتم استحضاره بالخطاب والمقالات، بل يتشكل اولا بتوفر الارادة المستقلة، ووضوح الرؤية في ترتيب الاولويات الاستراتيجية، الى جانب الاخذ بأسباب القوة الذاتية باختلاف مقوماتها السياسية والاقتصادية والعسكرية. وإلى ان يتحقق ذلك، ولم نتمكن من تحقيق الافضل، بحيث يكون للعرب مشروعهم المستقل عن الاثنين، فينبغي الا نتورط في الاسوأ. لان عدم القدرة على ادراك الحلال، لا يبرر الوقوع في براثن الخطيئة والحرام.