في الليلة الأخيرة من الشهر الأخير من آخر سنة من قرننا الراحل ...و في مسرح "نيويوركي " ضخم صنع ركحه من صفائح فولاذية شبيهة بظهر حاملة طائرات ...و قدت ستائره من أقمشة " كاكية" ذات لون باهت حزين ...هناك ..وقتها ..يتجمع جمهور الحمقى و الحشاشين وأولاد الليل و أطفال الشوارع الخلفية و يأخذون أماكنهم على أرائك حمراء قانية ..وفي اللحظة المعلومة من الزمان المعلوم ترسل "صفارات " المسرح فحيحها المبحوح إيذانا ببداية الحفلة ... يخرج الممثلون بملابس "نورانية" ملائكية تلخص قرونا طويلة من سيرورة " الحكمة الغربية" الظافرة ..و حضارة " العكري " المجيدة منذ ملاحم الإغريق و الرومان حتى فتوحات " الفرنجة " و "الانجلو ساكسون " و " الجرمان " ...رداء حريري احمر ينسدل على أكتاف الممثل الأول يكشف عضلات مفتولة و فخذين مكتنزين و ساقين تشوب بياضهما حمرة النعمة و تلفهما إلى حدود الركبة خيوط نعل جلدي ...و يظهر الممثل الثاني بعباءة حمراء من " الساتان " اللامع يرتفع ذيلها على يسار المؤخرة ليظهر سيف مرصع بالياقوت الأحمر ...أما الممثل الثالث فيظهر بملابس فخمة لبرجوازي " ثوري " من القرن الثامن عشر وهو يحمل " قارابيلة " الثورة و يطلق النار في اتجاه صدور أنصار الملكية البائدة و الإقطاع البغيض ...أما الممثل الرابع فيلبس بدلة أنيقة على طريقة " رسل سلام وديمقراطية " الغرب المعاصر ....منتصب القامة يمشي في كفه هاتفه المحمول وعلى يمينه حاسوبه وعلى كتفه رشاش " رمبو " وهو يمشي ..يمشي ..يمشي .. ملاحظة : الحق والحق أقول لكم ...لقد كانوا ممثلين " كومبارس " ...إذ لم تزدهر مسارح " نيويورك" المحروسة إلا بعد أن " شاخت " عجائز المسارح في روما وباريس وسلمنا " هذا الزمان الكلب " إلى أسياد جدد ....و هكذا كان المخرج و مشرف الإنارة و " السينوغراف " و " الكوريغراف" مضطرين إلى التدخل بأصوات مسموعة و فجة لتوجيه الممثلين الأدعياء ... صوت خلفي : شكرا شكرا لكم ...أهلا بكم ..أهلا بكم ...يستطيع " السيد الأبيض " أن يتربع الآن على عرش الكون ليتلمظ بإعجاب نرجسي طعم انتصاره على " الاغوال " و " الأهوال " ...يستطيع أن يعلن الآن مملكة " السوبرمان " الذي سرق سر الخلق المقدس ليحقق طموح " بروميثيوس " المغدور بنار الآلهة الحاقدة ....يستطيع الآن موظف " الكونغرس " المغمور " فوكوياما "أن يعلن بحكمة " هيغلية " فصيحة نهاية التاريخ و وصوله آمنا إلى بر العقل الآمن ...و بإمكانه أن يفعل ذلك على طريقة المسرح الكلاسيكي معلنا موت العجز و ولادة الإنسان " أل.....خطير .." كما يمكن أن يعلن على طريقة " الكاوبوي" بصوت واثق من نفسه لكل شعوب العالم من القطب إلى القطب ..." هو ..لي ...مان ...وترجمتها ...ارفعوا أيديكم .." ... الفصل الثاني ....(لم يكن هناك فصل أول إطلاقا ) يتقدم الراهب ببزته " العسكرية " ويقرا صلاته وقورا ...الاهي احفظ هذه العبقرية الرهيبة التي جعلت حلم أسلافنا ..."كوبرنيك" و "غاليلي" و "ديكارت " يتحقق تماما فأصبحنا سادة للطبيعة ومالكين لها ...الاهي " احفظ هذا العقل " الفعال" الذي مكن لكلمة " ادم " في الأرض ...يستدرك الراهب ...الذي مكن لكلمة " ادم ..سميث " في الأرض ليملا الكون حرية ورفاها وإنصافا لجميع من " يعمل " و ..." يمر " ...ربي بارك في عظمة " عولمتنا " التي أغنتك عن إرسال الرسل فقد وحدناهم يا ربي من أول "بيت ابيض" وضع للناس و أصبحنا نسيرهم ليسبحوا بحمدنا بصوت واحد مثل جوقة اوبيرالية ساحرة بانضباط عازفيها ...رباه بارك هذا العقل الذي أراحك من فعل الخلق بعد أن أصبحنا نصنع بشرنا ونعاجنا و غلالنا في مطبخ المنزل تماما مثلما تصنع امرأة شرقية خبزها وصابونها العربي .... حين ينهي الراهب قداسه يجيب الجميع بخشوع كاذب " امن" ....ويصيح الياباني المزيف "فوكوياما" بشكل هستيري ....أرى السيد "بوش" على الدبابة ..أرى العقل على الدبابة ..... الفصل الأخير (توزيع الجوائز) حين يصرخ المزيف بطريقته البشعة تشتعل أضواء المسرح على " الصالة " كلها و يلتحم الممثلون بالجمهور على الطريقة " البريختية " المستعارة ..وتبدأ حفلة توزيع الجوائز على المتفرجين الأغبياء : 1/ خمور ممتازة معصورة من عيون " أفغانية " حديثة القتل و بالونات هوائية ملونة ومصنوعة من جلود " فيتنامية " مسلوخة منذ السبعينات و مثلجة في برادات " البنتاغون " ... 2/ ملابس وبرية مصنوعة من شعور آدمية بلقانية وقوقازية مهربة من أتون حروب أهلية مصنوعة على القياس بمهارة استخباراتية غير مسبوقة ... 3/ " ساكسوفون " مذهب مصنوع من قصبة ساق طفل عراقي زائد على النصاب منذ " الحصار " الديمقراطي و الغزو " الجمهوري "..وعطور عالية الجودة ركبت في مخابر " النازا " من روح " اليورانيوم المخضب بالحقد الأعمى " و سجائر ذات نكهة عالية بطعم رماد " هيروشيما " و " ناغاساكي" 4/ أواني وأوعية بلاستيكية مصنوعة من بترول تم شراؤه بدولارات لا رصيد لها إلا في ملاهي " لاس فيغاس" و " الساحل اللازوردي "...و " همبرغر " من لحم إفريقي اسود و هندي احمر 5/ أحذية رياضية بماركات شهيرة وأثمان باهظة صنعتها أياد " آسيوية " مسمسر بها بها في سوق الشغل الأسود ..و قوارير " فودكا " و نساء حقيقيات مهربة من " جنان البروليتاريا " سابقا ... القفلة : يتهافت الجمهور على الممثلين " الكومبارس " لأخذ الهدايا مصحوبة " باوتوغرافاتهم " الممهورة بدماء الإنسانية المنقولة إلى رحاب الديمقراطية والحداثة وما بعد بعد الحداثة ...يفرح الممثلون بهذا الإقبال الجماهيري ويرشون المتفرجين بالقنابل المسيلة للضحك الغبي و يزداد الهرج و المرج و تختلط أصوات الراهب ذي البزة العسكرية بضراط المدافع وأزيز الطائرات و يصيح " فوكوياما " مطلقا زغرودة على طريقة العوالم في مسلسلات العولمة ....انتهى التاريخ يا أغبياء ... صحيفة "الوطن" التونسية العدد 161 الصادر في 29 أكتوبر 2010 المصدر بريد الفجرنيوز