أخذت الأحداث التي تشهدها محافظة سيدي بوزيد (210 كلم جنوب العاصمة تونس) منعطفا جديدا ينذر بمزيد تأزم الأوضاع بعد أن فرضت السلطة حظرا للتجوال ابتداء من الساعة السادسة مساء وحتى الخامسة صباحا. وقالت منظمة "حرية وإنصاف" للدفاع عن حقوق الإنسان، التي أوردت الخبر، إن حظر التجوال شمل عددا من المدن التي تشهد احتجاجات عنيفة مثل "منزل بوزيان" و"المكناسي" و"المزونة"، حيث شوهدت وحدات من الجيش تأخذ مواقعها بالقرب من هذه المدن استعدادا للتدخل بعد أن فشلت قوات الأمن في إخماد جذوة الاحتجاجات التي تواصلت لليوم العاشر على التوالي. القمع أشعل الحريق وفي تصريحات خاصة ل"إسلام اون لاين" قال عطية العثموني الناطق الرسمي باسم لجنة المتابعة والدعم لأهالي سيدي بوزيد التي تشكلت بعد انطلاق الأحداث، إن طريقة تعاطي قوات الأمن مع المتظاهرين أجّجت الاحتجاجات في المدينة، فهذه القوات تعاملت بكثير من الشدة مع الاحتجاجات السلمية للأهالي. وأضاف العثموني أن قوات الأمن داهمت بيوت الأهالي وشنت حملة اعتقالات واسعة في صفوف الشبان وأوقفت عدد كبيرا منهم. بل إن التعزيزات الأمنية الكبيرة التي تحاصر المدينة وتفرض حالة من الطوارئ فيها باتت عامل استفزاز للمواطنين ودافعاً إضافياً لهم للاحتجاج، على حد تعبير العثموني. من جهته قال المحامي والناشط السياسي رابح الخرايفي في تصريحات خاصة ل"إسلام اون لاين" إن أحداث سيدي بوزيد حلقة إضافية لحلقات التحركات الاحتجاجية التي عرفتها البلاد وهي احتجاجات متقاربة في الزمن ومنها أحداث "قفصة" أو ما بات يعرف بأحداث الحوض المنجمي، و"بن قردان" والصخيرة" وهو ما يدل على أن النظام السياسي في تونس فقد التواصل مع الشعب، وعلى أن الشعب بات يرغب في التغيير. فشل وارتباك حكومي كما تدل هذه الأحداث وفق الخرايفي "على أن برنامج التنمية الذي وضع على امتداد الفترة السابقة فشل في تحقيق الأهداف التي رسمت له، وهو ما ينسف بصفة نهائية مقولة المعجزة الاقتصادية التونسية". ولا يقتصر هذا الفشل على التنمية فقط وإنما يتعداه إلى السياسة فالنظام السياسي اليوم فشل في إعطاء الحلول للمشاكل التي يعاني منها التونسيون، على حد تعبيره. وأوضح الناشط السياسي التونسي أن الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها سيدي بوزيد هي نفسها الصعوبات التي تعيشها بقية المناطق الداخلية مثل "جندوبة" و"الكاف" و"القصرين" وغيرها، فهذه المناطق تعرف نسبا عالية من الفقر والبطالة والأمية ولا توجد بها مشاريع تنموية على العكس مما تدعيه الحكومة. ولاحظ عدد من المراقبين هنا في تونس نوعاً من الارتباك في الأداء الحكومي تجاه هذه الأزمة، وذلك من خلال تذبذب مواقفها واتهامها لبعض الأطراف السياسية بمحاولة "توظيف" ما يجري لأغراض حزبية ضيقة. فبعد صمتها لمدة 4 أيام تقريبا، وفرضها حالة من التعتيم الإعلامي على الأحداث في كل وسائل الإعلام التونسية، خرج مصدر رسمي ليصف حادثة انتحار الشاب محمد البوعزيزي بأنها "شخصية ومعزولة"، ولِيَتّهمَ "بعض الأطراف بأنها انحرفت بهذه الحادثة عن سياقها الحقيقي واستغلتها لأغراض سياسية غير شريفة. ومما زاد في حالة الإرباك تلك تعرض وزير الداخلية إلى سؤال مفاجئ في مجلس النواب حول ما يجري في سيدي بوزيد، وهو ما دفع الحكومة إلى تغيير طريقة تعاطيها مع الأحداث، عبر السماح لوسائل الإعلام الرسمية والمستقلة بالحديث عن الاحتجاجات، وإيفاد مراسليها إلى قلب الحدث. اتساع رقعة الاحتجاجات وفي آخر تطورات هذه الأحداث علمت إسلام اون لاين أن مدنا خارج ولاية سيدي بوزيد بدأت هي الأخرى تشهد تحركات، احتجاجاً على أوضاعها الاجتماعية، ومساندة لتحركات أهالي سيدي بوزيد. وفي هذا السياق شهدت العاصمة التونسية يوم السبت 25 ديسمبر الجاري مسيرة انطلقت من مقر الاتحاد العام التونسي للشغل بالعاصمة وشارك فيها مئات من النشطاء السياسيين والنقابيين والطلبة. وفرضت القوات الأمنية حصارا مطبقا على ساحة محمد علي حيث تجمع المتظاهرون ومنعت عديد الشخصيات الوطنية وخاصة الإسلامية منها من الوصول إلى الساحة من بينهم المهندس علي العريض الناطق الرسمي السابق باسم حركة "النهضة" وعبد الكريم الهاروني الزعيم الطلابي الإسلامي المعروف والصحبي عتيق القيادي النهضوي السابق. ورغم الحواجز الأمنية التي حاولت التصدي لهم تمكن المتظاهرون من الخروج في مسيرة جابت بعض شوارع العاصمة. ورفعوا شعارات تندد بالحيف الاجتماعي وبالفساد ودعوا إلى مواصلة الاحتجاجات وتوسيعها. كما شهدت محافظة "القصرين" المحاذية لمحافظة سيدي بوزيد هي الأخرى اعتصاما لعدد من أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل من أجل حقهم في الشغل وحضر هذا الاعتصام عدد الوجوه النقابية البارزة بالجهة. وفي مدن سيدي بوزيد نفسها تواصلت حتى يوم أمس الاحتجاجات والتظاهرات وامتدت لتشمل المدن الصغيرة بالمحافظة مثل منطقة "بئر الحفي" و "سوق الجديد". وعود لامتصاص الغضب وفي محاولة منها لامتصاص غضب الأهالي أوفدت الحكومة التونسية السيد محمد النوري الجويني وزير التنمية المحلية إلى الجهة حاملا معه حزمة من المشاريع لتحسين الأوضاع الاجتماعية هناك بكلفة تقدر بنحو 15 مليون دينار. ومما جاء في حزمة القرارات الحكومية إحداث 1700 موطن شغل في اقرب وقت وتقديم نحو 300 قرض للشبان من أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل لبعث مشاريع صغرى ومتوسطة، إضافة إلى جملة أخرى من القرارات التي تخص تحديث البنية الأساسية. لكن الوعود التي تقدم بها الوزير لم تقنع الأهالي بوقف احتجاجاتهم، لأنها مثلما ذكر الدكتور حسين الديماسي الخبير الاقتصادي المعروف في تونس، هي مشاريع قديمة تم الإعلان عنها سابقا واليوم يقع إحياؤها من جديد. كما شككت قيادات سياسية بارزة في تونس من بينها عصام الشابي الأمين العام المساعد للحزب الديمقراطي التقدمي المعارض في جدوى تلك المشاريع وفي قدرتها على امتصاص نسب البطالة المرتفعة خاصة وان المبلغ المرصود لها وهو 15 مليون دينار لا يتعدى ثمن منزل فاخر بأحد الأحياء الراقية للعاصمة، على حد قوله. وكدليل على أن العروض التي تقدمت بها الحكومة لم تنجح في امتصاص غضب الأهالي، عرفت الاحتجاجات تصعيدا كبيرا بعد زيارة وزير التنمية إلى الجهة. وانتشرت تلك الاحتجاجات إلى نحو 5 مدن كبرى من محافظة سيدي بوزيد وباتت تهدد بالانتشار إلى محافظات أخرى مجاورة مثل "القصرين" و"قفصة". قصة البداية وكانت هذه الاحتجاجات انطلقت يوم الجمعة 17 ديسمبر الجاري بعد أن عمد شاب من الجهة يدعى محمد البوعزيزي إلى إحراق نفسه احتجاجا على تعرّضه للصفع من قبل احد أفراد شرطة البلدية الذي حاول منعه من بيع الخضروات والحبوب بأحد شوارع المدينة. ويبلغ محمد البوعزيزي 26 عاما من العمر، وهو متحصل على شهادة عليا في الإعلامية لكنه لم يتمكن من إيجاد شغل فعمد إلى بيع الخضروات والحبوب في عربة متجولة. ويعيل البوعزيزي عائلة كبيرة العدد تتكون من تسعة أفراد، أحدهم معاق، وهو عائلهم الوحيد بعد وفاة والده. وقال شهود عيان في اتصال مع "إسلام اون لاين": "استشاط الرجل غضبا بسبب الاعتداء الذي تعرض له وتحول إلى مقر المحافظة ليشتكي سوء حاله وسوء تصرف الأعوان معه، لكن المسؤولين رفضوا سماعه، وفي بعض الروايات التي لم تتأكد صحتها من مصادر مستقلة، قيل أن المحافظ نفسه رفض استقباله، وهو ما دفعه إلى سكب البنزين على جسده وإضرام النار في نفسه". ونقل الشاب إلى مستشفى الحروق البليغة التخصصي القريب من العاصمة حيث يرقد إلى الآن وهو في حالة حرجة جدا بعد أن تبين أن الحروق التي أصيب بها هي حروق من الدرجة الثالثة. وإثر انتشار الخبر تجمع أقارب البوعزيزي أمام المحافظة وانضمت إليهم أعداد كبيرة من المواطنين، وطالب المجتمعون بمقابلة المحافظ لإبلاغه احتجاجاتهم على ما جرى. وسرعان ما تحول هذا التجمع إلى حركة احتجاجية مدنية وسلمية دامت قرابة 7 ساعات رفع المواطنون خلالها شعارات تطالب بمعاقبة المتسببين في الحادثة، ورشق بعضهم الواجهة الأمامية للولاية بالموز والبرتقال الذي كان يبيعه البوعزيزي في عربته.
منعطف درامي وفي اليوم الموالي الموافق ل17ديسمبر الجاري وبعد أن شاع خبر يفيد بوفاة الشاب تجمعت أعداد كبيرة من الأهالي وفعاليات المجتمع المدني بشكل عفوي أمام المحافظة ورشقوها بالحجارة. وبدل العمل على تخفيض حدة الغضب لدى المواطنين، قامت السلطة باستقدام تعزيزات أمنية أمعنت في استعمال العنف تجاه المحتجين، فتحول التجمع بفعل ذلك إلى مواجهات عنيفة شملت اغلب شوارع وأزقة وأحياء المدينة، حيث التجأ المتظاهرون للاحتماء من القنابل المسيلة للدموع. وتواصل هذا العنف إلى ساعة متأخرة من الليل ونتجت عنه عديد الإصابات والاختناقات والإيقافات في صفوف المواطنين، وكان هذا منطلقا لسلسلة من الاحتجاجات شملت عددا من المدن التابعة للمحافظة. وعرفت الأحداث منعطفا دراميا في مدينة بوزيان التي شهدت أعنف المواجهات بين قوات الأمن وميليشيات الحزب الحاكم من جهة والشبان الغاضبين من أصحاب الشهائد العليا من جهة ثانية، بعد ان استعمل أعوان الأمن الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين وهو ما أدى إلى سقوط قتيل على الأقل وعدد من الجرحى في صفوف الشبان المحتجين بعضهم في حالة خطرة. وقالت السلطة التونسية إن لجوء أعوان الأمن إلى إطلاق النار على المحتجين يدخل "في نطاق الدفاع الشرعي عن النفس". وأضافت وزارة الداخلية في بيان صادر عنها أن مجموعات من الأفراد عمدت ظهر يوم الجمعة 24 ديسمبر الجاري إلى إحداث شغب في مدينة منزل بوزيان قامت خلالها بحرق قاطرة لأحد القطارات وأضرمت النار في ثلاث سيارات للحرس الوطني قبل أن تهاجم مركز الحرس بالمدينة. وقد سعت قوات الحرس الوطني إلى صدهم عن ذلك بتوجيه عديد التحذيرات لهم وبإطلاق النار في الهواء، لكن هذه المجموعات واصلت محاولتها اقتحام المركز مستخدمة الزجاجات الحارقة مما اضطر بعض أفراد الحرس إلى استعمال السلاح. وقد أدى ذلك إلى مقتل احد المهاجمين وجرح اثنين آخرين فيما أصيب عدد من رجال الحرس الوطني بحروق من بينهم اثنان يوجدان في حالة غيبوبة، مثلما ذكر بيان الداخلية التونسية. لكن لجنة المتابعة ودعم أهالي سيدي بوزيد التي تشكلت بعد انطلاق الأحداث شككت في هذه الرواية وقالت إن الشبان المحتجين كانوا يرفعون أيديهم في الهواء علامة على سلمية احتجاجاهم، وتلقوا الرصاص في صدورهم التي كانت عارية ولم يتسن التأكد من صحة الروايتين من طرف مستقل. وفي إطار هذه السلسلة الجديدة من الاحتجاجات عمد الشاب حسين ناجي وهو من حاملي الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل إلى الانتحار بعد تسلقه عمودا كهربائيا احتجاجا على أوضاعه الاجتماعية السيئة وعلى القمع الذي سلطته القوى الأمنية على الأهالي. ونقل شهود عيان عن هذا الشاب قوله في كلمة ألقاها قبل انتحاره "اذهبوا إلى منزلنا وانظروا إلى الحالة المزرية التي نعيشها ... نحن 3 إخوة ليس لدينا إلا سروالا واحدا نرتديه". كما حاول شاب آخر ويدعا "الهاشمي علياني الانتحار يوم 23 ديسمبر الجاري بعد أن تسلق عمودا كهربائيا إلا أن الأهالي أنقذوه بعد أن قطعوا التيار الكهربائي عن المدينة، وهو ما دفع ببعض الرموز السياسية المعارضة إلى التحذير من تطور الأحداث واتساع الحريق على حد تعبيرهم. منطقة "محرومة" يذكر أن محافظة سيدي بوزيد تعد نحو 430 ألف ساكن وهي منطقة فلاحية وتعتبر خزان البلاد من الخضر والحبوب إذ تساهم بنسبة تقدر بنحو 43 في المائة من مجمل الإنتاج الوطني من هذه المواد. ورغم ذلك فان المحافظة تصنف ضمن المناطق المحرومة تاريخيا بسبب احتضانها لتيار الزعيم الوطني صالح بن يوسف الذي عارض بشدة خيارات الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. ولم تحظ الجهة بنصيبها من المشاريع التنموية، وهي تفتقر لوجود وحدات صناعية كبرى يمكن أن تمتص نسب البطالة العالية التي تبلغ نحو 43 في المائة، وخاصة بطالة أصحاب الشهادات العليا الذين تبلغ نسب البطالة في صفوفهم نحو 38 في المائة وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالمعدل الوطني الذي لا يتجاوز وفق التقديرات الرسمية ال 15 في المائة. كما تفتقر الجهة إلى البنى التحتية الأساسية والى الاستثمارات خاصة في الصناعات التحويلية، وهو ما دفع ببنات الجهة إلى التحول للعمل بمناطق أخرى مع ما يترافق مع ذلك من مشاكل اجتماعية وأخلاقية. اسلام اون لاين