ليست هناك ايديولوجية واسعة الانتشار في العالم يمكن وصفها بانها تحرم ممارسة العنف بكافة اشكاله، كما لا توجد ايديولوجية تحصر عملها بالعنف. وبالتالي فما يقال عن الربط بين الاسلام والعنف، يصدق كذلك علي بقية الاديان والايديولوجيات. والمقصود بالعنف هنا ليس الارهاب الاعمي، ولكن استعمال القوة لتحقيق أهداف سياسية، سواء كانت هذه الاهداف مرتبطة بالتوسع ام بالدفاع عن النفس. اما جنوح البعض لممارسة العنف الاعمي باسم الاسلام، فهناك ما يشبه الاجماع علي رفضه واعتباره خروجا علي نصوص الاسلام وروحه. فالاسلام، كغيره من المعتقدات، تشرع استعمال القوة في عدد من الامور كالدفاع عن النفس، واستعادة الحق، وتحرير الارض من المعتدين والمحتلين، والدفاع عن المستضعفين، واعتبر في عداد الشهداء من يموت دفاعا عن ماله وعرضه ودينه ووطنه. هذه من ثوابت الدين، ولا ضرورة للتنصل منها او الاعتذار بشأنها. وبعيدا عن التصريحات التي تطلق بين الحين والآخر لربط الاسلام بالعنف، يدرك الزعماء السياسيون والقادة الدينيون الكبار في العالم ان الاسلام ليس دين عنف، وان ما يرتكب باسمه لا يعبر عن حقيقته. فالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قال الاسبوع الماضي: ارفض ان يتم ربط مفهوم الارهاب بالاسلام وقال انه لا يوجد دين او قومية للارهاب الذي وصفه بانه ظاهرة دولية . هذا التأكيد ليس موقفا سياسيا بقدر ما هو تعبير عن قناعة شخصية مستمدة من الواقع. واضاف الارهاب موجود في كل الاوساط والدول.. واذا اخذنا العامل الديني فهو موجود في كل الاديان مشددا علي القول نحن لا نحارب ضد المظاهر الدينية بل ضد ايديولوجية الكراهية مهما كان شكلها . فالارهاب الاعمي الذي يقتل الناس علي الهوية تارة، وبدون اي سبب تارة اخري، لا يمكن توفير ارضية فقهية له في الاسلام، الذي ينص في عشرات الآيات علي كرامة الانسان وحرمة دمه، ويجرم سفك الدم بدون سبب مشروع، ويدعو الي السلم وتوطيد الامن، ويدفع الانسان الي الارتباط الروحي الدائم بالله. ومهما حاول البعض البحث عن مخارج لتبرير العنف الأعمي، فلن يستطيعوا تأصيله كمبدأ، لانهم لن يجدوا القواعد الفقهية التي تبيح قتل اي نفس خارج الاطار القانوني الاسلامي. هذا القانون يؤسس علي آيات قرآنية وأحاديث نبوية تؤكد حرمة دم الانسان البريء، وتعتبر ان من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا . العنف يمارس علي نطاق واسع في عالم السياسة والصراع علي السلطة. ولطالما نشأت اجيال في مناطق كثيرة من العالم، خصوصا خلال الحرب الباردة وانتشار المد الشيوعي، تتبني مبدأ العنف الثوري الذي يمارس العنف والسلاح لتحقيق الاهداف. ويمثل المناضل البوليفي، تشي غيفارا، رمز هذا النوع من العنف، وقد احتفل مريدوه هذا العام بمرور اربعين عاما علي مقتله في احدي غابات بوليفيا علي ايدي قوات بلاده المدعومة من ال سي آي آيه. هذا النوع من العنف ما يزال يمارس علي نطاق واسع في عدد من البلدان، ومنها النيبال وسريلانكا. وأحد تعريفات العنف الثوري انه فعل تمارسه الجماهير المسلوبة الارادة والمجتمع المستعبد كذلك، كما تمارسه الفئات الاجتماعية التي سلبت حريتها وكرامتها بواسطة السجون والمعتقلات والابادة الجماعية والتغييب وحبال المشانق. وتلجأ الاحزاب والتكتلات السياسية والاجتماعية لمثل هذا الفعل لاعادة حقوقها الانسانية الدستورية الطبيعية. وهناك مصطلح الكفاح المسلح الذي تقوم به مجموعات سياسية ذات أيديولوجية محددة، بهدف احداث تغيير في النظام السياسي الحاكم، او تحرير ارض محتلة. وهو شبيه بالمقاومة المسلحة التي تمارسها الشعوب المحتلة كما هو الحال في فلسطين والعراق. وجميع هذه الاشكال من العنف مورست في فترات زمنية مختلفة، من قبل جماعات سياسية اما نخبوية او جماهيرية، وحققت نتائج تتباين بين الفشل والنجاح. ففي اغلب الدول العربية لم يؤد العنف الثوري في الخمسينات والستينات الي نتائج ملموسة، ولم ينجح الا في عدن والجزائر، وربما ذلك لانه كان موجها ضد الاستعمارين البريطاني والفرنسي. ومورست أعمال عنف ضد السلطات المركزية في بلدان عديدة، ولكن اغلب النجاحات تحقق في البلدان التي حكمت بالاستعمار او الاحتلال المباشر او بانظمة تمثل الاقلية مدعومة بقوي اجنبية. وفي سياق الكفاح المسلح كثيرا ما سقط الضحايا من الابرياء ومورست اعمال قتل واسعة طالت فئات غير معنية بالصراع بشكل مباشر. ويشمل العنف المسلح الحروب التي تشن لاهداف سياسية وان كانت احيانا تتخذ طابعا دينيا كما هو الحال مع الحروب الصليبية. ولا يمكن التقليل من حجم اراقة الدماء علي نطاق واسع في تلك الحروب التي حدثت ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين. واسميت بهذا الاسم لان الذين اشتركوا فيها كانوا يخيطون علي البستهم علي الصدر والكتف علامة الصليب من قماش احمر. وهناك توثيق واسع لتلك الحروب، ونتائجها الوخيمة ليس علي العالم الاسلامي فحسب، بل علي العالم المسيحي ايضا. فقد كانت حروبا طاحنة، لم يستطع القادة الدينيون لاحقا تبريرها. كانت دعوة الباباوية للحروب الصليبية التي بدأها البابا اوربان الثاني في تشرين الثاني (نوفمبر) 1095 بعقده مجمعا لرجال الدين في مدينة كليرمون فران الفرنسية، وكان الكثير من الحملات قد برر بتطبيق ارادة الرب عن طريق الحج إلي الارض المقدسة للتكفير عن الخطايا، وكانت الدعوات تروي عن اضطهاد الحكم الاسلامي للمسيحيين في الارض المقدسة وتدعو إلي تحريرهم، وتراجعت هذه الدوافع الدينية مع مرور الوقت لتصل إلي حد تدمير مدينة القسطنطينية المسيحية الشرقية في الحملتين الصليبيتين الأولي والرابعة علي أيدي الصليبيين أنفسهم. وتري الشعوب التي تم السيطرة عليها من قبل الصليبيين اثناء الحروب الصليبية انها كانت شكلا استعماريا وفترة قمع وتأخر، ويري المسلمون في شخصيات كصلاح الدين والظاهر بيبرس ابطالا محررين، وكذلك يري الاوروبيون الشخصيات المشاركة في الحروب الصليبية ابطالا مغامرين محاطين بهالة من القداسة، فيعتبر لويس التاسع قديسا ويمثل صورة المؤمن الخالص في فرنسا، ويعتبر ريتشارد قلب الاسد ملكا صليبيا نموذجيا، وكذلك فريدريك بربروسا في الثقافة الالمانية. ولم يقرأ الكثير في الادب المسيحي عن مناقشات جادة حول مفاهيم الحرب العادلة في اطار الحملات الصليبية، مع ان المسيحية اهتمت كثيرا بذلك المفهوم، الذي وضع القديس قسطنطين أهم فصوله. وما يزال الجدل مستمرا في الكنيسة حول مفهوم الحرب العادلة، خصوصا ان ما تقوم به القوي الغربية الكبري مثل الولاياتالمتحدةالامريكية وبريطانيا كثيرا ما يكون متعارضا في جوهره مع شرائط الحرب العادلة. ولا شك ان سعي بعض القوي المسيحية للنأي بنفسها عن الحروب التي تشن ضد العالم الاسلامي خصوصا أمر ايجابي يساهم في التأسيس لتعاون ديني بين علماء الدين المسلمين وبابوات الكنيسة. ان العنف ليس مطلوبا لذاته، ويمكن القول ان اغلب العقائد والايديولوجيات السياسية لا يقر ممارسة العنف الاعمي، من الناحبة النظرية علي الاقل. اما من الناحية العملية فقد يبدو وجود اقرار لاعمال العنف علي أقل تقدير، ان لم يكن هناك دعم معلن ومكشوف للدول القوية التي تمارس العنف. ولكن أغرب ما في الأمر هذا التحشيد الاعلامي الواسع لربط الاسلام بالعنف من عدة جهات: اولها اظهار الاسلام وكأنه دين يدعو الي العنف ويشجعه ويعتبره من جوهر اهدافه. وهذه مغالطة كبري تظهر الاسلام وكأنه يمارس العنف كسياسة ثابتة، بينما الحقيقة ان الاسلام من اكثر الايديولوجيات ضبطا لتلك الممارسة، سواء في السلم ام الحرب. ولكن لدي الاسلام تمييزا بين امرين: الدعوة لاتباع الدين وانتهاج نهجه، ومواجهة المعتدين والظالمين. فالدعوة الي الدين، او التحاور حول مفاهيمه والقضايا المرتبطة به، ليس فيها ممارسة للعنف، ولكن الدفاع عن المسلمين وبلادهم وحقوقهم ودمائهم، يقتضي استعمال القوة بشكل مضبوط ضمن الاطر المتعارف عليها اسلاميا. فلا يحق لاحد اكراه الآخرين علي اتباع الدين، او ممارسة شعائره وطقوسه، لان ذلك خيار شخصي، بشرط ان لا يؤثر علي المجتمع واخلاقياته. وفي الوقت نفسه لا يسمح الاسلام لاتباعه بالصمت امام الغزو الثقافي والفكري والعسكري، بل يتطلب منهم اتخاذ مواقف واضحة بدون تردد او تراجع. وكذلك فالاسلام لا يتساهل مع الظلم، ويدعو الي مواجهته بدون تردد، لانه يتناقض مع جوهر عقيدة الاسلام ومنهج القرآن الذي جاء أساسا لدعم قضاياه والتحلي بأخلاقياته. ان اقامة العدل ومواجهة الظلم من أبرز القضايا التي تبناها الدين وحث اتباعه علي التصدي لها، فهي تمثل لب الدين وليست قشريات ذات طابع محدد. ولكن ثمة سؤالا لا يمكن تجاوزه. لماذا تحفل الصحف اليومية بقصص الارهاب المربوط بالاسلام، وعرض التفصيلات الدقيقة لكل حادثة ذات بعد امني، وتخصيص مساحات واسعة لعرض محاكمات الارهابيين وتضخيم كل ذلك بشكل يبعث علي الخوف الدائم من الاسلام؟ لا يمكن استيعاب ذلك الا ضمن أطر اخري مرتبطة بحقيقة متجددة، وهي ان الاقبال علي هذا الدين آخذ في التوسع، ولا يعرف الحدود في اغلب البلدان. هذا التحول يضاف الي حالة التدين العامة في بلدان المسلمين، وظاهرة الاقبال علي الدين وارتياد المساجد علي نطاق واسع. وبالتالي فليس مستغربا ان تحدث في نفوس الآخرين ردود فعل تتباين بين الرغبة في الاطلاع والشعور بالبعد عن هذا الدين وانه ينتمي لثقافة وحضارة اخري. ويمكن القول ان كفة التحول نحو الدين تطغي علي الاخري، وان الاعلام المضاد كثيرا ما يؤدي عكس النتيجة التي يهدف اليها. وهذا ما يحدث فعلا هذه الايام. فبرغم العرض غير المتزن لقضايا المسلمين في الغرب، الا ا ن هناك سعيا حثيثا من قبل الاجيال الجديدة والباحثين للتعرف علي الاسلام وبشكل اوسع، وروح أكثر رغبة في المعرفة والاطلاع. ولذلك ازداد اعتناق الاسلام في الغرب، وازدادت اعداد المسلمين بشكل واضح، واصبح الاسلام الدين الثاني من حيث الانتشار في اغلب بلدان العالم. وارتفعت الصيحات من زوايا عديدة للتخويف من هذه الظاهرة، والمطالبة بوضع حد لها. وليس مستبعدا ان يكون من اهداف الاصرار علي ربط الاسلام بالعنف التقليل من بريقه وسعة انتشاره. فالغربيون، ساسة ورجال دين، يعلمون حق العلم بان موقع العنف في الثقافة الاسلامية هامشي، وان الدين ينطلق علي اسس معرفية ومنطقية وغريزية، وان استعمال القوة انما هو دفاعي بالدرجة الاولي، وهو ممارسة عادية لدي الايديولوجيات الاخري، وبينما هو في الاسلام خاضع لضوابط كثيرة، فان تلك الضوابط تتلاشي لدي الآخرين. مع ذلك يتم الترويج لمقولة ارتباط الاسلام بالعنف. ان الترويج لهذه المقولة تجد صدي لدي الآخرين بسبب تصرفات بعض المجموعات التي تربط تحركاتها بالاسلام، وتمارس العنف بدون ضوابط او أخلاق. فما معني تفجير المصلين يوم العيد في باكستان؟ وما معني استهداف العراقيين علي اساس الانتماء المذهبي؟ وما مغزي التفجير الذي أودي بحياة قرابة السبعين شخصا في الجزائر؟ ان مشكلة الاسلام تنبع احيانا من داخل الاطراف التي تتحرك باسمه، وتتبجح بشرعية ذلك حتي لو كان ذلك مخالفا لروح الاسلام واخلاقه وشرعته. ومع غياب الاصوات الحكيمة من العلماء والفقهاء، او تغييبهم عمدا، يبدو كأن الاصوات الشاذة التي تمارس العنف وتشرعن له بفقه يفتقر الي التقعيد، تعبر عن الرأي الاسلامي العام، ويروج لها الاعلام المعادي للاسلام لتبرير قمعه ومواجهة انتشاره. وليس ما يجري في بعض الدول الغربية هذه الايام من فرض قوانين تمنع الحجاب في المدارس وتشريعات تستهدف المسلمين بتهم الارهاب الا مؤشرات للتوجه العام الهادف لاحتواء الظاهرة الاسلامية، انطلاقا من مقولة هشة تربط الاسلام بالعنف، وتتجاهل قيمه الانسانية الاخري وتشريعاته في العدل والروحانية والانسانية والاخاء والحب. أليس هذا العالم مسؤولا عن ترويج ثقافة العنف وتغييب روح الحوار والتآخي والتحمل والحوار؟